إضاءات حول شخصية (حسني درويش) في (الرجل الخراب) لبركة ساكن
“المنفى هُوة قسرية بين الكائن البشري وموطنه الأصلي، بين النفس ووطنها الحقيقي، لا يمكن التغلب على الحزن الناتج عن هذا الانقطاع، وأياً كانت إنجازات المنفى، فإنها خاضعة على الدوام لإحساس الفقد”
إدوارد سعيد، تأملات حول الحياة في المنفى
حسني درويش، أو هاينرش شُولز، هو الشخصية المحورية التي تدور حولها أحداث رواية (الرجل الخراب)، لكاتبها الروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن، التي صدرت في شهر فبراير من العام 2015 عن مؤسسة هنداوي للثقافة والتعليم بالقاهرة. وتتخذ هذه الرواية منحى مختلفاً عن السرديات السابقة التي أنجزها بركة ساكن في ثلاثية البلاد الكبيرة، والجنقو مسامير الأرض، ومسيح دارفور، ومخيلة الخندريس، والعاشق البدوي، التي تناولت في مجملها سِيَر المهمشين في السودان، لكن في هذه الرواية ينقل مسرح الأحداث إلى خارج حدود الوطن، لكنه يبقى داخل حدود الإنسان بإشكالاته وأزماته الوجودية المستمرة. انتقال بركة ساكن إلى فضاء آخر أمرٌ له ما يبرره، فهو يعيش الآن في المنفى بإحدى المدن النمساوية الباردة (بغض النظر عن قسرية هذا المنفى أو اختياريته فهو قاس في نهاية الأمر)، فالكاتب في المنفي “يستخدم الكتابة لمحاولة فهم الكابوس الذي يعاني منه ولتهدئة هواجس العيش في المنفى ولإضفاء شكل ما على حياته المنشطرة من خلال الكتابة، لكي يضع نوعاً من النظام في الفوضى التي وقع في أسرها في المنفى، لكي يدون المدارك التي وصل إليها. الكتابات في المنفي كثيراً ما تكون متوترة ومدمرة والسبب في ذلك أن المنفى نفسه مصدر للاضطراب العصبي، اختبار لا ينقطع للقيم ومقارنة بين عالمين عالم تركناه وراء ظهورنا وآخر وجدنا أنفسنا فيه”، كما قالت بذلك الروائية السودانية ليلى أبو العلا في شهادتها الإبداعية التي قدمتها في فعاليات جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي في دورتها الخامسة، مقتبسةً من الكاتبة دبريسكا اوقرسك.
بادئ ذي بدء نشير إلى أننا لا نمتحن شخصية حسني درويش، بوصفها شخصية حقيقية موجودة أو وجدت على أرض الواقع في يوم ما أو بوصفها ظلاً لشخصية التقى بها الكاتب في مكان ما وزمان ما، أو حتى أنها ظل لشخصية الكاتب نفسه، بل ننظر إليها كشخصية صنعها تفاعل الخيال الروائي للكاتب بركة ساكن مع خبرته الحياتية ومكتسبه الثقافي، وقام بتوظيف هذا التفاعل توظيفاً فنياً لعكس وجهة نظره في الثيمات التي قدمتها الرواية. سنتقصى ملامح شخصية حسني درويش من خلال أفعالها وأقوالها في الرواية ومن خلال العلاقة بينها والشخصيات الأخرى التي تقدمها الرواية وسنمتحن الكيفية التي وُظّفت بها الشخصيات الثانوية من قبل الكاتب بغرض إضاءته الجوانب المختلفة لشخصية حسني درويش، أو هاينرش شُولز. سيمتحن المقال كذلك فرضية أن درويش كان يحمل بذرة الخراب منذ البدء، وسيوضح، بناءً على الحيثيات التي تقدمها الرواية، الكيفية التي نمت بها هذه البذرة في شخصية درويش وحتى وصوله إلى مرحلة السقوط.
وبما أننا سنعيد ترتيب أحداث الرواية وفقاً لمقتضيات هذا المقال، يجب أن نشير كذلك إلى أن الزمن الفعلي للحدث في الرواية يبدأ من اللحظة التي أعلنت فيها نورا شُولز لدرويش أن أبنتهما ميمي قد اقترنت أخيراً بصديق اسمه توني وأن هذا الصديق سيأتي لزيارتهما اليوم في الساعة العاشرة وربما يتناول معهما الغداء وينتهي بسقوط درويش في المنحدر وموته عندما أعلنت أجراس مركز الإطفاء الساعة الثانية عشرة منتصف النهار، أي أن مجمل الزمن الذي تستغرقه الأحداث لا يتعدى الساعتين، وما بين هذين الحدثين يستخدم الكاتب تقنية الفلاش باك ليضيء سنوات من ماضي درويش الذي ربما يفسر لماذا كان رد فعله عنيفاً. إذن فإن زمن الرواية لا يتم تسريده بصورة كرونولوجية (تتابعية) من الأقدم إلى الأحدث، بل هو زمن متشظٍّ نوعاً ما وذو طبيعة تداخلية جدلية.
حسني درويش جلال الدين
حسني درويش كما تقدمه الرواية من مواليد مدينة وادي حلفا شمال السودان لأم مصرية وأب سوداني، توفي والده وهو بعد في المدرسة الابتدائية فانتقل نتيجة لذلك مع والدته للعيش في مدينة أسيوط بجنوب مصر. واجهته تعقيدات كثيرة في دراسته بمصر لأنه قانوناً يعتبر أجنبياً، ومنذ تلك اللحظة التي نطق فيها مدير المدرسة الابتدائية المصرية تلك الجملة “لا يمكن قبول طالب أجنبي…” بدأ سؤال الهوية يطرق رأسه بشدة. واصل دراسته في مصر إلى أن تخرج في كلية الصيدلة جامعة أسيوط وأمضي فترة الامتياز بمستشفى حكومي في أسيوط. في سنواته الجامعية الأولى انضم إلى الجماعات الإسلامية ولكن بعد اعتقاله وتعذيبه وتهديده بالخصي من قبل قوات الأمن قرر مفارقة درب الجماعات. في المستشفى الحكومي التقى بشخص غيّر مسار حياته تماماً، فقد جاءه رجل خمسيني يبحث عن حبوب وأخبره هذا الشخص بأنه مقيم في السويد عندها قال له درويش: “أريد أن أذهب أنا أيضاً إلى السويد أو أي دولة أوروبية أو أمريكية. الحياة هنا تعني العدم…” ص 24، عندها رسم له هذا الشخص عالماً يوتوبياً عن الحياة في أوروبا وشحذ خياله الضعيف “لكنك عندما تصل أول دولة أوروبية أخرى سوف تنسى كل شيء وتعيش كإنسان، إنسان حقيقي” ص 25، ويسر له سبل الاتصال بعصابات الهجرة غير الشرعية.
إلى هنا تظل شخصية درويش شخصية بسيطة غير مثقفة ومتوسطة الاستقامة بمقاييس مجتمعها ومتدينة بدرجة ما. لكن تبدأ التحولات في هذه الشخصية أول ما تخرج من حالة السكون التي كانت فيها وتبدأ التواصل والتفاعل مع عالمٍ مُخرّب وأشخاص مُخرَّبين ومُخرِّبين لتُبذر فيها بذرة الخراب التي ستُسقى في البدء بسؤال الهوية المُلح وبالرغبة في الفرار من عالم لا كرامة للإنسان فيه يمثله بلده ومجتمعه والالتجاء إلى عالم يقدس إنسانية الإنسان ويمثله الغرب. يسلك دروب الهجرة غير الشرعية، وهي دروب قاسية وقاتلة. وإن نجا درويش من الموت لكن علق بروحه كثير من الوحل وبدأت البذرة في النمو. وضعته رحلة هجرته في مواجهة مع كثير من التابوهات التي ربما لم تكن موضوع جدال عنده. يكذب ويزور ويركب وسط خنازير في شاحنة متجهة إلى النمسا برفقة عاهرة تمارس معه الجنس وتحقنه بالعناصر الأولية لزعزعة كثير من مسلماته ابتداءً من فكرة الخنزير النجس الملعون وأشياء أخرى.
هاينرش شُولز
منذ وصوله إلى النمسا، وبعد قضاء فترة الانتظار في معسكر اللجوء، قرر درويش قطع كل الوشائج التي تربطه بكل ما هو مسلم وعربي وقرر أن يتخلص من كل ماضيه وفضّل أن يبدأ حياته من غير تاريخ وألا ينظر إلى الوراء مرة أخرى وأن يبتعد قدر المستطاع مما يسميه منطقة الغليان وسيرة الغليان في إشارة إلى بلاده وثقافته، وأول ما بدأ به هو اسمه، سمى نفسه رسمياً هاينرش. عمل في وظيفة مُخري لكلبي السيدة لُوديا شُولز وهي أول وظيفة أتيحت له. ثم تزوج ابنة لوديا شولز التي تدعى نورا في صفقة ينال بها هو إقامة وجنسية نمساوية وتشاركه نورا في تركة الأم التي أوصت بالقسم الأكبر منها لدرويش، ليصبح بعدها اسمه هاينرش شُولز.
يقدم الروائي بركة ساكن شخصية درويش/هاينرش في بنية سردية لا تُخضع هذه الشخصية لسلطة وهيمنة الصوت الواحد أو زاوية الرؤية الواحدة التي عادة ما يمثلها صوت الراوي العليم بكل تمظهراته، بل هي بالأحرى بنية سردية ديمقراطية تتميز بتعدد الأصوات الساردة، يتفق فيها ويختلف الراوي والشخصيات الثانوية بل كاتب الرواية نفسه في رؤيتهم وتمثلاتهم لشخصية درويش/هاينرش ومواقفهم حيالها. وتتيح هذه البنية أيضا لدرويش/هاينرش التعبير عن نفسه بصوته الخاص.
من سمات درويش/هاينرش، التي تقدمها الرواية، التسلط، ويتضح هذا الجانب من شخصيته من خلال السلوك الذي يسلكه مع ابنته ميمي فهي تقول عنه: “أنا أحترم أبي، ولكن تدخله السافر في تفاصيل حياتي لا يعجبني كثيراً، ولا يمكن أن أجد له مبرراً معقولاً….، كان لا يتوانى لحظةً في عمل كل ما يراه هو مناسباً لي، متجاهلاً بكل وقاحة رغبتي وخياراتي” ص 115، ونتج عن تسلطه هذا أن جعل ابنته انطوائية وفاشلة في التواصل مع محيطها الاجتماعي وعاجزة حتى عن إنشاء علاقة طبيعية مع شاب في مثل سنها كما تقتضي بذلك قيم مجتمعها مما دفع أمها للذهاب بها إلى اختصاصي التأهيل الاجتماعي أكثر من مرة. وهو مصاب كذلك بانفصام في الشخصية، فهو يظهر ما لا يبطن، فهو مثلاً يرى أن ابنته يجب أن تقيم علاقة مستقيمة الغرض منها فقط الزواج لكنه لا يستطيع التعبير عن ذلك لزوجته خشيةً من أن تشك في درجة اندماجه الاجتماعي أو أن تتهمه بـ “أن ليس في رأسه سوي خرافات القرون الوسطي” ص 11، وحتى إنه عندما أخبرته زوجته بأن ابنته حصلت أخيراً على صديق قال لها: “ياااه… أخيراً! كم أنا سعيد بذلك!” ص 12، في واقع الأمر كان يعبر عن النقيض تماماً، كان غير سعيد البتة وحانق “تبّاً تبّاً. سحقاً للقانون الذي لا يميز ما بين الأخلاق والحقوق الأبوية في الحماية والرعاية والتربية القويمة، وفقاً لمعتقد الأب. سحقاً لأوروبا كلها، وعليّ وعلى العالم!” ص 106.
كما أن درويش شخصية متناقضة ومرتبكة فهو يتبنى خطابات غير متماسكة ومتناقضة جداً، فهو مثلاً عندما يعلن له توني عن رغبته في اعتناق الإسلام، يقدم له شرحاً للإسلام يتجانس تماماً مع القيم الإنسانية العالمية وفيه تقدمية واستنارة ولكن استناداً على نفس المرجعية الدينية يتبنى خطاباً مغلوطاً وعنيفاً “فإذا زنت البنت البكر أدخلت والديها النار في يوم القيامة” ص 108، “والبنت إما أدخلتك الجنة أو حشرتك في الجحيم. وبنتي من ذلك النوع الأخير: أنجبتها من أجل أن تُشيّعني لجحيم خاص بآباء الزانيات، ولكن أنا لستُ ممن يُحشرون هناك” ص106. وبناءً على هذا الخطاب تحديداً ينوي ويخطط لقتل توني بدفعه من حافة المنحدر.
وهم الاندماج الاجتماعي
سعى درويش بجد للاندماج في مجتمعه الجديد وتوهم هو هذا الاندماج، لكن تقدم الرواية كثيراً من الإشارات والشواهد التي توضح بجلاء أن درويش لم يتمثل قيم المجتمع الذي يعيش فيه، ومنها أنه عندما أراد تهديد توني ليبعده عن طريق ابنته لجأ إلى أسلوب لا يري فيه الأوروبي أي تهديد: “اسمع أيها الوقح، أقول لك: إذا تأكد لي أنك تمارس الجنس مع بنتي، أنا سأنكحك أنتَ أيضاً”!
فقال له توني مندهشاً: “ولكنني لستُ مثلياً، أنا لا أميل لممارسة الجنس مع الرجال”!
قال لتوني: “أنا أيضاً لا أميل لذلك، ولكنني لا أتردد في أن في أن أكون مثلياً في حالتك، لذا من الأحسن أن تترك سبيل ابنتي، وإلا سأنكحك كما تُنكح المرأة!” ص 118.
بل هو أسلوب تهديد مبتذل شائع في الثقافة الشعبية لبلده الأصلي، ولا يمكن أن يؤدي نفس الوظيفة في السياق الذي يعيش فيه الآن. ومن الإشارات أيضاً أن درويش فشل في تكوين صداقات في محيطه الاجتماعي وليس لديه سوى “صديقين سيئين حقيرين لا أحد يحبهما في المدينة كلها” ص 116. ومن الإشارات الأخرى مسألة كرهه للكلاب، فبالرغم من عمله في البدء مُخرّياً للكلاب إلا أنه احتفظ طوال إقامته بكرهه لها مبرراً ذلك بأن البيت الذي تُربي فيه كلاب لا تدخله الملائكة، هو مؤشر ذو رمزية في بلاد يُعتبر امتلاك الكلب فيها سمة حضارية وتحظى فيها الحيوانات المنزلية بمحبة طاغية وتحميها القوانين بصرامة وتُنتج البرامج التلفزيونية باهظة التكاليف وعالية المشاهدة لتشرح للمواطنين كيفية العناية بها مثل برنامج (ثلاثون مليون صديق) (Trente millions d’amis) الذي تقدمه القنوات الفرنسية.
لكن ينقشع هذا الوهم عندما يصبح ثمن اكتمال اندماجه هو شرف ابنته وفقاً لمفهوم الشرف الذي تربى عليه سنوات طويلة ولم تنجح سنوات إقامته الطويلة في النمسا في تغييره “أن تفعل ابنته الحرام ويزني بها رجل غريب، أمام عينيه، بل بمباركته هو شخصياً في الغرفة المجاورة لغرفته، وعليه أن يبتسم! أليس ذلك ما يُسمّى في الدين الإسلامي “الدّيُّوث”؟ وفي شارع بلاد أبيه بـ “المعرّص”، و”ابن الكلب” في موطن أمه” ص 71. تكمن الإشكالية في أن انتهاك شرفه سيتم برضا زوجته وابنته وبه تتحقق واحدة من القيم المقدسة في الحضارة الغربية: الحرية، وهي الحضارة التي ينتمي إليها هاينرش شُولز، وبه تنتهك واحدة من القيم المقدسة في الحضارة العربية/الإسلامية: الشرف، وهي الحضارة التي ينتمي إليها حسني درويش جلال الدين!
السقوط
تتراكم الأزمات داخل درويش/هاينرش بدءاً من أزمة الهوية التي رافقته في كل مكان ذهب إليه وأزمة المهاجر الذي لا تستوعبه قيم المجتمع المضيف أو لا يستوعبها هو، ثم أزمة ثقافات تستعصي على التعايش وأزمة خراب أصاب العالم برمته وأزمة الوجود وأسئلته الصعبة ثم أخيراً وليس آخراً أزمة انقشاع الوهم وحتمية الصدام. وسقط درويش من حمل ناء بثقله. “إذا كنتُ أنا التي دفعتهُ فلستُ التي قتلته، فالفعلان مختلفان. هنا أتحدثُ عن الإرادة والرغبة في الموت. لو صبرتُ قليلاً لألقي علينا تحية الوداع ومضى لحتفه. هل تعجلتُ؟ على كلّ، أنا لستُ متأكدةً من شيء، يبدو أنني مرتبكةُ قليلاً” ص 122. هل انتحر درويش؟ هل قتل بوساطة زوجته؟ من الخطل القول إن الأمرين سيان!
الخاتمة
نشير في خاتمة هذا المقال إلى أن الروائي بركة ساكن قد استخدم تقنيات مختلفة في إطار ديمقراطية السرد لتقديم شخصية حسني درويش/هاينرش والكشف عن ملامحها على امتداد الرواية فمرة يجعلها تقدم نفسها ومرة أخرى يجعل الشخصيات الثانوية تتحدث عنها ومرة بوساطة الراوي ومرة يتدخل الكاتب بنفسه ليضيء جانباً ما، فاستخدامه لهذه التقنيات المختلفة أتاح له مرونة كبيرة في رسمه لهذه الشخصية.
وعلى كلّ تبقى شخصية درويش/هاينرش مفتوحة على تأويلات كثيرة، فهي شخصية روائية خصبة وثرية وكما يقول بركة ساكن: “ما أريد أن أقوله من روايتي هو ما يفهمه القارئ، فكل قارئ مؤلف،…، وما يصل إليه يقع على مسؤوليته” وهو ما يتفق تماماً مع فكرة أن القارئ ليس متلقياً سلبياً للمعنى، بل هو من يبني المعنى، معناه الخاص به من خلال تفاعله مع النص.
* ناقد من السودان