شهادات

الشوَّاف: تحديقٌ متأمِّل في وجه عبد الله شابو

(1)
عُرس
تخفره وعولٌ وأيائل حتى عتبة باب بيته في “أليس” المقدسة. هناك حيث يتعرّج النهر الوقور، ويضم بحنانه المائي المملكة القديمة؛ تحرسها أعشاب النيل الأبيض من جريرة الشواطئ وأحقاد مراكب الأشواق المتهادية، على مهلٍ، فوق سطح المياه.
في التوّ واللحظة، تنهض من خرابها، ممالك وهياكل، قلاع وقصور، أبراج وجماجم، طقوس وأصنام، أشجار وأنهار، كلها تقف لتزف الشاعر إلى موطن الحنين المخبوء، منذ قرون، في ذاكرة الماء.
حينها هيأت القصيدة نفسها لدخول محراب الشاعر. دخانٌ عَبِقٌ بالأسرار يطوف في الأرجاء غمامةً من شبق. سكنتْ شهوة القصيدة بغرقٍ مبتل حدّ الارتواءْ.
في كهف الماء يسيلُ على الحواف، من نسغ الشجرة، عسلٌ كثيف عاكف منذ زمانٍ سحيق على تبيان وجهة نظر النحلة، في ما يخص مهرجان الشجرة القومي. في الأثناء تختبئُ في بستانها فراشة، وتزدهر بهجةٌ عامرة في الأنحاء. تعمُّ أفراحٌ مرتجلة المكان العريق وتتهيأ “أليس” لعرسٍ شاملٍ، موعود بالبرق واختلاج الأشجان الدفينة.
ربما ساعد مفتول يقرع الطبل الآن. ربما خلاسيٌّ من جهة النهر القديم يضرب الإيقاع وترنُّ في الأسماع اشتجارات أرواح الأسلاف.
قد يحوِّل هذا النهر مجراه، ويُفسح للقصيدة القادمة، من الضفة الأخرى مكاناً فسيحاً في “خريطة سودان الأعماق”. لن يكون الشاعرُ هناك حين تحتفل الأسماك السرِّية في أرخبيل المياه بالقصيدة الجديدة. سيكون مشغولاً بالبحث عن لعبة الطفل الضائعة. سيلهو الشاعر كثيراً بألعاب الصبية وسيؤجل، لنصف قرن، اللعب بالكلمات.

(2)
ضلال الضفاف
حين كان القرن الحادي والعشرون، يلوحُ من شرفة سفينة في قلب الباسيفيك، حينها انتفضت القارّة كلها بشدوٍ عذْبٍ فاحت أنغامه في الأنحاء. موسيقى سرِّية جابت الآفاق القصيّة، ودنتْ لحظة الضلال العظيم. انتبهت الأشجار لأمرٍ بالغ الشجن: أن الشاعر الطفل سيلهو كثيراً.
سيضلُّ الشاعر ضلالاً بعيداً، سوف تصطخبُ الأمواج في الشاطئ النائي ولن تنفعل الضفة الأخرى بهذر الزبد الممراح.
في تلك الأثناء، كنا على بُعد فرسخٍ واحدٍ من الحقيقة. كنا على بُعد أميالٍ معدودة من الأرض الجديدة. وقتها لم يكن كولومبس قد اكتشف شيئاً ذا بال ولم تكن أرض الأحلام قد تخمَّر عجينها.
ببصيرة الرائي، من على بعد آلاف السنين الضوئية، شاف الشاعر مأساة ابن القرن الحادي والعشرين وهي تتكوّن في أقبية الرأسمال وتتبرعم في كهف العصر الرقمي وتتموضع داخل أنفاق ودهاليز وول ستريت وديمقراطية ويستمنستر.
منذها
منذها
منذها
.. وقصيدته مسربلة بالعويل العويل العويل.

(3)
الشاعر السرديِّ
عما قريب ستنتهي القصيدة..
ستنتهي هذه القصيدة بمدونة سردية بحجم إلياذة هوميروس. ستكون نهاية مبكرة لمبارزة غير متكافئة بين الإيقاع وتفاعيل الخليل. ولن تكفيك الليالي المتوافرة كلها في روزنامة الوقت لكتابتها. يليقُ بك السرد الملحميّ في قمة نصوعه عند سرفانتس. تليق بك المغامرة وولوج دهاليز التفاصيل حتى نهاية القبو المستحيل؛ هناك حيث تسوِّق الأشياءُ البِكر نفسها ويتبرج الدُّخان الجهنميِّ، في ما يُشبه أطياف غمائم الطلح.
في ذلك الوقت، تحديداً، كان المجذوبُ يدوّن شرافته تحت نار التقابة ويدعوك للتوهج معه في أتون القصيدة.
كلاكما ضلَّ قبل أوانه. كلاكما أنضجه الشعرُ قبل أن تكتمل دورة الإيقاع. كلاكما بنى للنثر أنشودة وشيّد للسرد سامقاتٍ في متن المتن وحاشية الحاشية قبل الدخول في حالة الغيمة.
ما من جبلٍ يعصمك من بلاغة السهل الفسيح.

(4)
نزيف سري
لوركا
لوركا
أهو لوركا أم جيفارا ذلك الذي حدثه الموت في غابة العتمة؟
أهو لوركا أم “تشي” ذلك الذي نزفت عصافيرُ سونيتاته عندما اخترقها رصاص الصيَّاد الأعمى؟
أهي بوليفيا أم أسبانيا تلك التي أودعت في باطنها السِّر الإلهي؟
هذه القصيدة أفسدتها الترجمة بلاشك! كيف يمكن أن نترجم الشعر من لغةٍ إلى لغة أخرى، دون أن نلج باب اللغة السرِّية الذي يفضي إلى المعنى؟ من الذي يبحث عن المعنى في هذه القصيدة؟
ماذا نريد من الشعر؟
ربما السؤال: ماذا نفعل بالشعر؟
ربما السؤال: كيف نُربِّي الأمل بالشعر، ونرمم ثقوب الذاكرة بمتردم القول الفصيح؟
ربما لن يسعفنا الوقتُ لطرح السؤال الجوهريِّ في هذه الحياة!

(5)
أسطول الخسارة الوطني
نحن ندخل الحرب الآن مدججين بأسطول الحنان الوطنيِّ. بكامل وسامة السلاح والسمت النبيل للشهداء. ستدوم حربنا قروناً قبل أن تحسمها النساء بسلاحٍ أكثرُ فتكاً من اليورانيوم المُخصّب. نساء إسبارطة وأثينا بعد ألف عام من الحرب سيمتنعن عن الفعل الحميم مع رجالهن، الأمر الذي يجعل الحربَ نفسها تخسر وتعيد مراجعة حساباتها في دفتر النصر الوشيك.
ثمة خسارة فادحة توشك أن تهزم المستقبل.
ربما ليس من اللائق أن نكتب من الذاكرة هكذا؛ بلا مراجع ولا دراسات تحضيرية. لكن ثمة اللحظة الفارقة تضغط بوطأتها الشديدة على حواف هذا القول.
ربما ليس من الكياسة أن نتذكر الحرب وهي لم تضع أوزارها بعد. فهذه حربهم وليست حربنا. لكنها في نهاية الأمر حرب. حربهم أم حربنا فهي حرب. هل نريد حرباً تليق بكبريائنا القومي؟ هل نريد حرباً مقدسة على غرار أبقارنا وثيران مستودعات الخزف الهائجة؟
ما مِنْ حربٍ تليقُ بكم سوى هذه الوليمة الجيفة التي تتكالبون عليها بالمناكب والأقدام.

(6)
بلاغة السلاح
يهدِرُ بالحمم والشظايا والقذائف الملتهبة فوق العشب الطريِّ. ثمة نار تشتعل من نفسها في تلافيف رذاذ الماء البلوري وتكتب في لوحة الفعل الناجز بلاغة ومجاز الدمار.
ستكلفنا هذه القطاطي المجيدة المزيد من العناية بالالتئام النفسي والعضوي، ولن تكفي خراطيم مياه العالم كلها.. لن تكفي مؤونة الشتاء نفسها ولن يذوب هذا الجليد إلاَّ بحربٍ أكثر دماراً وديمومة.
ستندلق مياه الضفتين على السهل الشاسع.

(7)
خاطر الشجرة المشغول
في خاطر الشجرة مسألتان:
الأولى: كيف لهذه البلاغة كثيفة الحمم القدرة على محو الأخضر بهذه السهولة؟
والثانية: من أعطى الأوامر لدك حصون القصيدة قبل أن تستوي شعريتها وهي ما زالت في طور التجريب؟
في خاطر الشجرة أكثر من مسألة.
وفي خاطري قصيدتك القادمة.

(8)
تدوين الشفاهة
على هذه الكتابة أن تسْفِر عن نفسها وتلج عتبة مملكة النهر الأزلي. عليها أن تنهض بما تقول سيرة الماء للأسماك والأعشاب المسكينة في الأعماق المنسية. على ضفافها أن تحتفي بشواطئ الرمل الممتدة في “أليس” وهي تتدثر بإزار مجازي اسمه: الكوة.
في الطريق إلى فجيعة الأعماق غَرِقتْ في الخاطر فكرة التدوين. نهضت المشافهة من حقلها الوريف بديلاً افتراضياً في خريطة الاقتراح. لم تسفر المقايضة عن شيءٍ. فقط ثمرة الشعر البدويِّ نضجتْ أعلى الشجرة ولم تسقط حتى لحظة تدوين هذه الخاطرة.

(9)
مدينة أخرى
في 2015 استيقظت المدينة، بعد قرون، لتكتشف أن شاعرها المجيد، يصحو في الفجر ليطهو لها توابل وجودها الحضاريِّ الفريد. لكن المدينة الناعسة لا يخطر في بالها سوى مهرجان الأنواط وتتويج السلطان الذي ضلَّ في متاهته القصيِّة.
ثمة مدينة أخرى في خاطر الشاعر الذي لا يحفل بمشروع البهجة القومي. في خاطره قصيدة المدينة المستحيلة. تراوده أطيافها الشفَّافة في ليلٍ كثيف الأشواق.
لا بأس إذن من الترويِّ قليلاً في المحبة الفائضة. ثمة الندرة التي تُحدِّث الآخرين عن غموض القصيدة القادمة.
ما من غموضٍ يطوِّق الأثير سوى هذا الضلال الشموليِّ البليغ. ما من بهجةٍ تسربل “الشعر المعاصر” سوى وضوح المقصد وضلال المعنى.
فيا “شابو” صباح القصيدة. صباح الخير.

 

* قاص وروائي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى