جنوب السودان تكتب شعراً
إنها انطباعات
إن محاولة الإحاطة بالشعر، وتلمس أطرافه المتشابكة، من حيث أنه أحد ضروب الفن والإبداع الإنساني؛ لهو أمرٌ عصيٌّ بحق، لكنه يصبح أكثر تعقيداً واستعصاءً، عندما يكون الحديث حول الشعر في بلدٍ مثل جنوب السودان؛ الدراسات التي أُجريت حوله ما تزال قليلة للغاية، لدرجة الندرة في الكثير من الأحيان.
بسبب تلك الصعوبة الناجمة عن شُحِّ الدراسات المكتوبة عن الشعر في جنوب السودان، بالإضافة إلى المنشور نفسه من الإنتاج الشعري؛ سوف يكون الحديث أقرب إلى الانطباعات المكتوبة، أكثر منها دراسة علمية حول الشعر في جنوب السودان، وهذا الأمر الأخير هو ما يجب التشديد عليه.
وهذه الانطباعات تدور حول الشعر الذي كتبه الشعراء الجنوبسودانيون في الوطن والمنافي العديدة، التي وجد الكثير منهم أنفسهم فيها، وكلمة ‘‘المنافي’’ تكاد تشكل حجر الزاوية في كتابة الشعراء الجنوبسودانيين، بوصفها عاملاً ظل يهيمن على موضوعاتها، لكن الأهم في رأيي، أنه ما انفكَّ يحدد خصائصها الفنية، كما أنه ظل يلعب الدور الحاسم في اختيار اللغات التي يكتب بها هؤلاء الشعراء منتوجهم الأدبي.
ينبغي قبل المضي قدماً في هذه الانطباعات، لفت الانتباه إلى حقيقة غاية في الأهمية، وهي أن الشعر غير المكتوب في جنوب السودان ضخم، يتضاءل أمامه ذلك المكتوب، إلى حدّ بعيد القرار، كما أنه غنيٌّ لأكثر من سبب، وأهم تلك الأسباب – في رأيي – هو أنه الوعاء الذي يحمل في جوفه الكثير من تاريخ البلاد، وكيفية مواجهتها للغزاة بمختلف نواياهم الاستعمارية، إلى جانب أنه يحمل بين طياته الوعد بسمو الأدب المكتوب إلى آفاقٍ رحبة من التقدم والانطلاق، حال تدوينه بحيث يكون في متناول الدراسين والأدباء على وجه الخصوص.
لغةٌ أم لغات
إن سؤال اللغة من الأهمية بمكان، لدرجة أنه لا يمكن الحديث عن الشعر الجنوبسوداني، بمنأى عن التطرق إليه والإجابة عنه، وتصبح مسألة الإجابة عن سؤال اللغة غاية في الأهمية، بل وتصبح ذات أهمية بالغة وحرجة، لأن الشعر المتطرق إليه بالحديث هنا، إنما هو في بلدٍ كانت وما تزال اللغة وحتى إشعارٍ آخر سؤاله المؤرق، لا سيما فيما يتصل ببحثه عن إجابات بلورة الهوية وقضية أُخرى مضغها السياسيون حتى ملها الناس، إنها قضية ‘‘بناء الأمة’’ أي تحويل مجاميع الشعوب الموجودة، والتي ظلت توحد كيانها عبر التاريخ الخطر المتربص بها من الشمال.
إن الشعر المكتوب في جنوب السودان، يكاد ينحصر في اللغتين الإنجليزية والعربية، وهنا يجب القول إن التقديم والتأخير لأيٍّ من اللغتين لا يعني شيئاً البتة، وإن كان يؤرخ بشكل أو بآخر للواقع التاريخي للتعليم في البلاد؛ إذ أنه يُظْهِرُ كيف أن سياسة التعريب التي انتُهجت إزاء جنوب السودان، بغية الأخذ به إلى مجاهل فقدان هويته الأفريقية، مضافة إليها النزوح بأعدادٍ جرَّارة إلى شمال البلاد السودان -الذي كان واحداً – إبان الحرب الأهلية الثانية 1983م-2005، قد خلق جيلاً جديداً من الشعراء الجنوبسودانيين الذين يكتبون باللغة العربية، مقابل جيل الآباء الذين كانوا يكتبون باللغة الإنجليزية، حيث لم يطلهم أثر سياسات التعريب سالفة الذكر، والتي دُشِّنت منتصف القرن الماضي بواسطة الديكتاتور إبراهيم عبود.
لكن مسألة اللغة في كتابة الشعر، لا تقف هنا عند ثنائية اللغة الإنجليزية والعربية، ذلك أن فترة الحرب الأهلية الثانية، حملت لهذه القضية أخباراً جديرةً بالتوقف، فقد سُجِّل في هذه الفترة انفتاحٌ نحو كتابة الشعر بلغاتٍ أُخرى أجنبية ومحلية.
فإذا كان ارتياد بلادٍ بعيدة لأول مرة وتعلم لغاتها، قاد إلى ظهور شعراء يكتبون باللغة الإسبانية مثل لورنس كوربندي وفاقان أموم، فإن محاولة جعل الشعر أمراً قريباً من الناس، بالإضافة إلى محاولة الإسهام في الإجابة عن السؤال القلق الذي ظل ينطرح دائماً في مسألة اللغة عندنا وهو: هل تصلح لغاتنا الوطنية للتعبيرالأدبي؟.. دفع بشخصٍ مثل ديفيد لوكان للتحول إلى كتابة الشعر بلغة الباري بدلاً عن الإنجليزية التي بدأ بها؛ ولديَّ كراسة شعرية رصينة بها، وهو أيضاً نفس الدرب الذي سلكه الأستاذ أنجلولوكيامي الذي تحول من الكتابة بالإنجليزية إلى الكتابة بلغة جوبا (1)، وجبرائيل آرنست الذي فعل نفس الشيء لكن قادماً من اللغة العربية إلى لغة جوبا.
وذلك الأمر، أي التحول من اللغات الأكثر انتشاراً إلى اللغات المحلية؛ يقف على النقيض تماماً من موقفٍ أدلى به في سبعينيات القرن الماضي الشاعر الكبير تعبان لوليونق إذ يقول:‘‘لو كنتُ أنتمي لقبيلة اللوقاندا لكتبتُ بلغة اللوقاندا، ذلك لأنه هنالك جمهورٌ عريضٌ من القارئين بتلك اللغة، كما أن لديها تقليداً أدبياً راسخاً(2). إن تعبان لوليونق الذي بدأ الكتابة مبكراً بلغة الأشولي تحول إلى الإنجليزية، يؤرقه خوف الانحصار وسط فئة قليلة من القراء أو بكلماتٍ أُخرى خشيته من المحلية.
مهما كان من أمر تنوع اللغات التي كتب بها الشعراء الجنوبسودانيون، فإن شعرهم يكاد يتفق في شيءٍ يطبعه كماركة تميزه، ذلك الشيء هو مسحة الألم التي تطغى عليه في الكثير من منعرجاته، بحيث يمكن اعتباره بصمةٍ تخصه هو، وتعمده بسمته الخاصة ككيانٍ يسهل الإشارة إليه وسط جمهرة شعر العالم.
النقاشات الشعرية
لم ينشغل الشعراء الجنوبسودانيون كثيراً بالنقاشات الشعرية التي عمَّت العالم في فترات متفاوتة، تلك النقاشات التي كانت ترتكز بشكل مضنٍ بل ومضجرٍ في الكثير من الأحيان، حول أساليب كتابة الشعر.
ويعود ذلك – في رأيي – إلى تاريخ البلاد؛ فالحروبات التي جعلت السلام استثناءً، ولم تترك الوقت لمثل تلك النقاشات المهمة أن تحدث، بل قامت الحروب بشكلٍ أو بآخر بتحويل الشعر نفسه، إلى إحدى آلات الحرب نفسها، ويظهر ذلك بجلاء في كتاب شعر المقاومة (3).
كل ما تقدم، لا يعني بأية حال من الأحوال، أن الشعراء الجنوبسودانيين، يكتبون خبط عشواء دون وعي بالشعر كعملية فنية تحتاج إلى التفكير المضني، أو أنهم كانوا في عزلة من الحركة الشعرية حولهم؛ ذلك أن بعضهم مثل تعبان لوليونق، قد أسهموا بجهدٍ وافر في رفد الحركة الشعرية بالتنظير والتفكير حيثما كانوا، وهذا الأمر ينطبق بالتمام على قرنق توماس ضل (4).
مهما كان من أمرٍ، فإنه من الصعوبة بمكان الوصول إلى خلاصاتٍ حاسمة فيما يتعلق بهذا الأمر، لأنه صعبٌ صعوبة الإمساك بشعر يتوزع كالأخطبوط في لغاتٍ كثيرة.
عوالم
يكاد الحنين أن يكون هو العالم الذي يطغى على غيره من العوالم، التي يدور حوله الشعر الجنوبسوداني، إنه ذلك الحنين الذي الذي يغلفه الألم لدرجة أنهما يصبحان مثل الجلد والعظم، وهو الحنين الذي يحمل الإنسان على البقاء في وسط أنواء وعواصف الحرب التي تحيط به، من من كل جانب إحاطة السوار بالمعصم، كما يظهر في بيت الشعر أدناه:
صرخةُ باكٍ لغابات قوقريال وسيول الدموع تغمر طمبرة يا قبريال (5).
إنَّ الحنين وإنْ كاد يطبع الشعر في جنوب السودان بسماته جميعها، فإنه يشكل موضوعاً حاسماً في الشعر الذي كُتب في الخرطوم على وجه الخصوص، مثلما يتجلى بوضوح في النموذج سالف الإشارة.
لكن الحنين هنا دائماً يرتبط بالموت لأنه – الحنين – في حالتنا هنا يُعتبر إلى حدٍ بعيد الوليد الشرعي للحرب، لذلك تجد أن جل الشعراء كتبوا من الحرب وعن الحرب وللحرب، رغم التفاوت في مدى مقاربة الموضوع، بدايةً بالذين يكتبون والأمل في المستقبل يحدوهم مثل إدوارد لينو إذ يقول:
‘‘عندما يطل الصبح الذي طالما انتظرنا
والذي ناضلنا لأجله في كل منزل مفعم بالأمل
فسيمنحنا دون شك الكرامة
وتزهر المواسم بسلام مقيم
إنها، بالحق، شمس الحرية تصعد
وهتافنا بالرضى الخالد
حمائم سماوية تشرق فوقنا
وتصفق طربة في سعادة بيضاء
في كل بيت وقلب يفيض بالبهجة’’(6)
مروراً بالشعراء الذين طغت المرارة الشديدة والحزن العارم على خطابهم الشعري، مثل لاتيولو جادين (7) كما يتبدى في قصيدته (أخي البغيض) إذ يقول:
‘‘مرتبكاً وتحتي أرى إلى الحفرة السوداء
الظلام والرعب
والقبر بفمه المفتوح على آخره
ينتظر ليبتلعني ويرميني إلى العدم
كائناً بلا ثقافة،
خلواً من فخار بدني أو روحي’’
وصولاً إلى أشخاصٍ شغلوا أقلامهم بتصوير فظائع الحرب عبر جهدهم الشعري، كأنما همهم الشاغل هو أرشفة الحرب نفسها، كما هو الحال مع فكتور لوقالي في مجموعته الشعرية المسماة (قرع طبول الحرب).
فيما شمل الإحساس بالضياع الكثيرين، مثل الشاعرة نالاو حسن أيول التي تقول في قصيدة لها تحمل اسم (أبحث عن أرض):
‘‘تحت وقع أنغام النشيد الوطني البطيء!
أبحث عن نقطة أومرساة
وحيدة في مدينة غريبة
مع أي شيء لا يحمل اسم’’
أفقٌ وتحدٍّ
للشعر في جنوب السودان أفقٌ يُبشر بمستقبل مبهر إذا حُلت بعض التحديات التي تقف في طريقه، فهو يستند إلى تراث زاخر من الشعر الشفاهي الذي لم تمتد إليه يد التدوين أولاً والتوثيق ثانياً، مثل المدائح الملكية لدى الشلو مروراً بأناشيد الرعاة عند قبائل الدينكا وتراث الشعراء المترحلين في قبيلة النوير، بالإضافة إلى البحور الشعرية التي تفوق الثمانية وعشرين بحراً، كما هو الحال لدى قبائل الباري، حسب الأستاذ جوزيف أبوك (8).
الأفق هو أن نقلةً سوف تحدث للشعر من حيث الكتابة والمواعين التي تنهل منها، لكن التحدي هو: كيف يجمع هذا التراث الزاخر الذي هو عرضة للضياع الأبدي، كنتيجةٍ حتمية لتقدم السنوات التي تحمل معها إلى القبور الكثير من أجدادنا الذين هم بطريقة لا مناص منها مكتباتنا الوحيدة المتوفرة؟
الأفق هو أن نقلة سوف تحدث للشعر من حيز اعتزاز الشعب بها كأحد مصادر قوتها، إذا ما جمع قصاصات الشعر التي كتبها الشعراء الجنوبسودانيون بالدمع والدم عبر تاريخ هذه البلاد العظيمة، لكن التي ما تزال تحبو في كل مجال، لكن التحدي هو: مَنْ سوف يُعطي سمعاً، حتى يُزال ذاك التحدي فنغتنم هذا الأفق؟
لماذا الشعر؟
هذا السؤال ورغم أنه يبدو غاية في البساطة، إلا أنه سؤالٌ حرج، وطريقة الإجابة عنه تحدد بشكلٍ سافر كيف تنظر الأمة إلى نفسها، لكن الأمر يأخذ أهمية خطرة عندما يكون الأمر متعلقٌ ببلادٍ تسعى إلى أن تكون أمة، لاسمها في العلياء نقشٌ وكلمةْ.
ــــــــــــ
هوامش
(1) لغة جوبا: تُعرف على نطاقٍ واسع بعربي جوبا.
(2) من لقاء أجري في لندن عام 1976.
(3) مجموعة من الأشعار قام بجمعها المحامي لورنس كوربندي وترجمها للعربية عز الدين عثمان.
(4) توماس قرنق ضل: كان جزءاً من مجموعة شعراء التروبادور في العاصمة السودانية الخرطوم.
(5) الأبيات للشاعر قير ثيك.
(6) الأبيات من قصيدة شمس الحرية.
(7) لاتيولوجادين: هو ابن المناضل الكبير أقري جادين.
(8) جوزيف أبوك: شاعر وكاتب مسرحي، يعتبر من أهم المؤلفين في البلاد.
* شاعر وروائي من جنوب السودان