ثمار

تاريخٌ موجز لرجلٍ شبه أعمى

 

إلى عمر المختار في معركته الأخيرة

-١٤٠٩ –
في الثالثة
رافقَ أُمه إلى سوقٍ في نجد
يُسمونها الرياض، لولا أنها بلا شجر

عند محلٍّ للملابس الداخلية
وقفتْ نساءٌ بعباياتهن السود
يستعرضنَ حمالاتِ صدرٍ فارغة
وسروايلَ مُلوّنةً كخطايا
وأمامَ أول واجهةٍ تَضمُ كُرات
وبلادَ عجائب
ضاعَ
بين طائراتٍ لا تطير

صرخَ لساعتين في السوق
مُتفحصاً العباياتِ المارّة
هذه العتمةُ التامةُ لأجسادٍ مُوصدة
نبذْنَه نَاهِراتْ: “أنا مُو أمك!”
كُل النساءِ احتمالاتٌ حينها
كُل النساءِ لم يكنَّ أُمه.

-١٤١٢ –
عندما بلغَ سِنَّ السادسة
ذهبَ إلى الصفِّ الأول
لم يجد مقعداً شاغراً أمامَ السبورة
ما جَعله يكتبُ الحروفَ من الألفِ إلى العين.
في حصةِ الحِساب،
وفوقَ شَظايا نظّارته الثالثة
شاهدَ الأولادَ يَبتعدونَ بِالكرة
دون أن يُميّزهم

في حِصةِ الرياضة
تعلّمَ أنْ يَرسم شَجرةَ السِّدرِ مِن داخلِ السور
لأنّه كلما وقف في صف اختيارِ الفريقين
كان يظل الأخير،
وفي حصة الفنون
كان ينسخُ مِن ذاكرته
صورةَ ملعبٍ مَليء بأولادٍ سُعداء
يرتدون النظّارات

-١٤١٦ –
في العاشرِة
لم يخترْهُ مُدرسُ اللغة العربية ضمنَ الكورال
مساءَ اليومِ ذاته كتب نشيدَهُ الأول
عرضه في الصباح التالي على أستاذ ناصر
الذي أوقفَ تلميذاً آخر
ليقرأه أمام الفصل
وهكذا فعل في الحفلِ
دون أن يُشار إلى الشاعر

– 2001-
في الخامسةِ عشرة
لم يرافقه أحدٌ إلى مدرسته الجديدة
سوى أربعينَ مؤخرة عبر بينها داخل الأوتوبيس
كان الطريقُ مِن سَراي القُبة سُؤالاً في الفيزياء
وأمامَ كاتدرائيةِ العذراء مريم
وقفَ كمنْ مَسّهُ البرق

رأى انتفاخاتٍ وتنانير
وكائناتٍ عجيبة بشعرٍ مُسترسل
تشاركُ الأولاد اللعب
قبل أن يُغلِّفهم عمرو خالد
وعندما حَيّتهُ صفية
وهي تضعُ طِلاءً للأظافر تحت الشجرة
ابتلعَهُ المقعد

-5-
في العشرين مِنْ عُمره
اضطرتْ أن تأخذَهُ إلى شارعِ النيل مَشياً
عبرا الجسر من بَحري إلى مَغيبِ الشمس
وعلى سلمٍ يُفضي إلى رصيفٍ مُعتم
قَبّلتْهُ
فاصطدمتْ نظّارتان

– 2010-
في الخامسةِ والعشرين
كانتِ النساءُ مَنْ يصطَدنْه
وعلى اختلافهنَّ
يَصرنَ سَواءً أمامه
ما إن يقتلعَ عينيه

كان ينتظرُ رائحةً بعينها
لا تتوهُ عنه في العتمة
ولا بين العباءات

ربما وجدها
لو أنه بحث

-7-
في المقهى
حيث تُبددُ الوحدةُ مع سحابِ التبغ
يجلسُ مع رفاقٍ أُصيبوا بِصممٍ اختياريّ
عاجزاً عن إكمالِ قصةٍ واحدة
يحاولُ التقاطَ نِهاياتِ الجُمَل
فيُقذفُ بالعبارةِ باتجاه المرمى

كأعمى وسطَ الملعب
يسمعُ الأطيافَ، ويذوي
لا يفتحُ فمهُ إلا للشاي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصورة للشاعر أثناء فحص نظره في عيادة طبيب العيون والشاعر السوري عبدالوهاب عزاوي بدمشق عام 2007

 

حسام هلالي

كاتب وشاعر من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى