ثمار

لماذا (البعيد)؟.. جملة في بناء الأفق

نجلاء التوم

يصنع البشر التاريخ لأنهم في حاجة مضطردة إلى سياق ينظرون فيه بشريتهم.
أنشد حاجتي في موضع ما هو أشد إحراجاً من التاريخ؛ حاجتنا، نحن كتاب هذا البلد القديم، إلى سياق نقرأ فيه مستقبل الكتابة الإبداعية ومجمل الإنتاج الفكري في السودان. عندما يستشرف الواحد أفق الكتابة في السودان يتعثر بسؤال القارئ الذي هو سؤال محول من مستنقعات طرائقنا البائسة في مطالعة سؤال الهوية. من هو القارئ الذي يكتب له الكاتب السوداني الذي يتوسل اللغة العربية لغة للتفكير والنقد والخلق الفني؟ هذا سؤال إجرائي سخيف، هذا السخف بالذات هو ما يحتاج إليه هذا السؤال ليكون. سأتغاضى عن كهانات طقوس الكتابة وتهشم ذوات الكاتب على قوله، ما يجعل سؤال القارئ خارجياً ومبتذلاً، لأن الكاتب، في كافة الحال، يكتب لغائب. إنه ينزف، ولذلك قد يفكر أولاً في أصدقائه الكتاب، بوصفهم قوارض أو أسماك قرش. في قراء محتملين يعرفهم، وقراء لا يمكن له تخيلهم. وإن كان جميع هؤلاء وأولئك يفقدون هوياتهم التي نعرفهم ونجهلهم بها في اللحظة التي يتصورهم فيها الكاتب، وينطقهم في كلمة داخلية صامتة هي “الآخر” أو القارئ الذي سيهدم الأنا الكبرى التي سمحت للكاتب به وجرأته على فعل الكتابة. لكن، كل هذا التعقيد الأصيل، الذي يبدو مشوشاً، لا يمكنه إخفاء المكر الأشد أصالة، المكر الأشد بساطة، مكر التموضع في فضاء معين تتحدد فيه العلاقات بصرامة الدلالة، مكر أن تكون للكاتب لغة حية، مكر أن يرمي شباكه حول القارئ الحي. هنا تنشأ تعقيدات التاريخ والجغرافيا اللغويَيْن، ليس بوصفها سؤالاً خارجياً على فعل الكتابة، بل بوصفها المشكلة التي تحاول الكتابة توريتها.
ما هو الأفق الذي تستخرجه الكتابة السودانية من ناحية الآخر الضروري؟ لمن يتخيل الكاتب السوداني أنه يكتب؟ وما هي الحدود القصوى والتخوم التي ينوجد فيها هذا القارئ؟ إجرائياً، كل متحدثي العربية قراء محتملون للأدب السوداني المكتوب في العربية. إجرائياً، القارئ العربي، بمعناه السياسي الإقليمي، يقف محدداً لأفق الكتابة السودانية في اللغة العربية. لكن، في واقع الأمر، اعتبر هذا الأفق خطاً محنطاً، متهافتاً، وتنقصه لوازم الحياة.
في النقطة التي تلي وتقفز على هذا الأفق الميت، سنجد القارئ في اللغات الكبرى المهيمنة التي لامست ثقافتنا، في مماس الطيب صالح مترجماً إلى أكثر من اثنتين وعشرين لغة. هذا الأفق المستجيب بكرم الترجمة، هو في حقيقة الأمر، ما سيَّر الطيب صالح مُحفَّلاً إلى قارئه الإقليمي العربي. فحسب الناقدة الياد بوسكلا، في كتابها “أصوات المنفى” فإن الاهتمام الحقيقي بالطيب صالح في الوطن العربي بدأ في منتصف السبعينيات، وهو اهتمام متأخر نسبياً، لأن رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”، حينها، كانت تُرجمت فعلياً إلى أربع لغات، هي الإنجليزية عام 1969، والفرنسية عام 1972، والعبرية عام 1973، والروسية عام 1975. على ذلك فإن مقام “عبقري الرواية العربية” في أفق القارئ العربي يشبه عودة نسرٍ مثقل بالأجنحة. كان الطيب صالح روائياً محلياً عالمياً حين استدركه النقد العربي، وعندما سُئل الطيب صالح لماذا، وهو الضليع في اللغة الإنجليزية، لم يفعل ما فعله جوزيف كونراد ويكتب في الإنجليزية؟ أجاب قائلاً ما معناه إنه يكتب في جديلة من الفصحى والعامية، وإنه أراد أن يضع جديلته هذه بعاميتها السودانية في فترينة العرض أسوة ببقية اللهجات في سوق الله أكبر هذا.
في أشد لحظاتها تفجُّراً، لم تلامس الكتابة السودانية تخوم أفقها المحتمل، ناهيك عن استنفاده. فقد مرت شهب محمد عبد الحي، والمجذوب عليه السلام، وإبراهيم إسحق؛ على فضاء الكتابة العربية دون أن تلامسه، تقاصراً منه، لقلة الإلفة ووحشية الذائقة. على ذلك؛ يلزم مراجعة القول إن اللغة فضاء مشترك يجمعنا مع القارئ العربي، وإنها قلب دائرة الفضاء التراسلي اللازم لإقامة واستقامة الوصال. والصحيح أن الثقافة هي عمد هذا الفضاء لا اللغة، والأولى أشمل من الثانية. الثقافة في جوهرها دالة اختلاف ومغايرة، لا تطابق وانمحاء. ومغايرة الثقافة هي ما يميزنا عن القارئ المغاربي والمشرقي، وهي، إلى جانب الاستعمار، برزخ البحرين بيننا والقارئ المصري لا يبغيان. أرجوكم، النيل الطويل الملولو غير مسؤول عن أي شيء فلا تحمِّلوه ما لا يَحْمِل.
يجب إسقاط هذا الأفق المتخيل بالكلية. يجب إسقاط كل أفق مغلق أو منغلق. يجب إسقاطه بحيث لا يكون أقصى طموح للكاتب السوداني النشر في مجلة عربية ثقيلة الوزن، مثل “الدوحة”، أو “العربي”، أو “نزوى”،… الخ. يجب إسقاطه لأنه ليس الأفق الذي يحد هذه الكتابة، كما أنه ليس أفقاً محدداً لثقافتنا. على الكاتب السوداني الذي يكتب في العربية أن يبدأ بتخيل قارئه من جديد، في أفق الإنسانية، وذلك يعني أن يبدأ في صناعة هذا القارئ. أفق الكتابة السودانية يجب يعاد تمثّله بحيث نضع القارئ السوداني كله على تخومه القصوى. بحيث يكون طموح الانتشار مثبتاً على أرض الإنسان في سواكن والجنينة وجوبا ورمبيك وربك والدبة. ثم الإنسان في ساوباولو ودلهي وهراري وبكين ودبلن وطهران إن شئت. بحيث يكون تجاوز المحل جرأة على فضاء لغوي آخر، مع نسور أخرى، تدوم في دوائر الثقافات الكبرى، بحيث يتاح لثقافتنا الاصطلاء بلهب الآخر الصارم، المختلف جذرياً، القادم إلى ثقافتنا مفتتناً برحلة الاختلاف ونهائيته.
لذلك يلزمنا صناعة الأدب، بوصفه مؤسسة ديمقراطية تتواضع ليراها الجميع، ليتهجاها الأطفال بأسنان اللبن، ويتحسسها فاقدو البصر بأناملهم، ويقطفها الطريح من غصون دانية. يلزمنا مأسسة الأدب في البيوت المستقرة والجائلة، وقبل ذلك صناعة سلام يقيض لنا المكتبة. يلزمنا ما تفعله “البعيد” الآن. وما تفعله “جماعة عمل” في “مفروش” وسواه من عمليات الانتشال، تلزمنا “إكسير”، ومنتدى “الشروق” في القضارف، واتحاد الكتاب المغدور. يلزمنا هذا الفيض المسحور من الكتاب في محفة “البعيد”، ويلزمنا بالأخص القارئ الذي يحدد ويشعل لنا تخوم تصوراتنا حول ذواتنا، كونه هو الآخر، وبالوقت ذاته الذات الكبرى، نسبح في تخومها. يلزمنا تربية الإلفة على ثقافتنا، والحفاظ مع ذلك على توحشها ونفورها الأصليين. يلزمنا الاستدامة في أمر النشر، وأمر التمرن على بناء الأفق، وصناعة القراء. هذه هي المهمة الكبرى، و”البعيد” عماد من أعمدة الأمل. “البعيد” جرثومة المستقبل.
شكراً الطيب المشرف، شكراً محفوظ بشرى، شكراً حاتم الكناني، شكراً ياسر فائز، شكراً جمال غلاب، شكراً كتّاب “البعيد”، شكراً يا صناع الأفق.

 

* شاعرة وكاتبة من السودان

نجلاء عثمان التوم

نجلاء عثمان التوم ، كاتبة وشاعرة ومترجمة سودانية مقيمة في السويد.
زر الذهاب إلى الأعلى