نعناع
كلما صادفتُ بائع النعناع تذكرتُك.
في محطة الحافلات الكبيرة، بين الصِبيةِ السُمر، وهم يحملون أكياس الفرح الأخضر كنت أراك.. كنت أشتمُّ رائحتك كلما مروا من أمامي.
الباعة كثيرون.. وكلهم يحملون أكياس النعناع المدهِش.. أود لو أني أشتري منهم كل نعناع الأرض وأجعلُهُ في غرفتي.. فتجيئني أنت كلما حرك الهواءُ أوراقَه العطِرة.
لا ورود في الخرطوم نشتريها لنعلن الحب.. الخرطوم في ضفاف نيلها وفوضاها تعلمت فقط كيف تزرع النعناع… والنعناع كان عندي زهرة الحب.
أعود لموقف الحافلات.. بين الصبية البائعين الصغار، واحدٌ يشبهك.. يكاد يكون أنت لو أنك كنت أصغر.. أو كان هو أكبر.
أناديه بشوق: “ياااا (م…)”… يزِل لساني ولكني أستدرك نفسي بـ “يا ولد”… أقولها برسميةٍ شديدة؛ فكأنني خِفتُ أن يتهمني الآخرون بك أو يتهِمُوك بي.. ولكأن اسمك افتضاح الحكاية كلها.
يجيئني البائعُ الصغير مُهرولاً.. يبتسم رغم شمس الخرطوم المُرسلة من قعر جهنم.. يبتسم مثلك ابتسامةً جانبيةً حُلوة… وأطلب منه كيسين دفعةً واحدة.
لا حاجة لنا بالنعناع في البيت.. أمي التي اكتفت من النعناع الذي أُغرقها به.. صارت تهديه للجيران في طقسٍ راتب.. وتجففه وترسل منه لأختيها في المدن البعيدة.
شاي النعناع بالحليب.. شاي النعناع من دون حليب.. عصيرُ أي شيءٍ مضاف له النعناع.. أو حتى فقط نعناعٌ داخل مزهرية وكوب ماء.. لقد ملأت البيت به وبُيوت الجيران.
يناوِلُني الصغير الكيسين بابتسامة.. أسأله: “كم؟”.
يخبرني: “خمسة جنيهات يا أستاذة”.
أُخرِج من حقيبتي ورقةً خضراء فئة العشرة.. أدُّسُها في يدِه.. وأُخبِرُه: “خلي الباقي عشانك”.
ابتسم الطفل الصغير.. لم يقل لي شكراً.. لم يومئ برأسه.. فقط صرخ في المكانِ يومَها: “إن شاااااء الله ربنا يعرس ليك (م…)”. وركض مبتعداً وهو يضحك.
غرقتُ في خجلي بين عابري المحطة والذين لا أعرفهم ولا يعرفونني.. احمرَّ خداي، فأصبحتُ في وسطِ النعناع الذي أحمله نقطةً حمراء.
شابٌ يبدو عليه الهزل غازلني: “يا وردة في جِنينة..” ثم غمزَ بعينه.
هممَتُ بأن أضرِبه بكيسِ النعناع، ولكن النعناع المقدس، لا يصلُحُ أن أستخدمه هكذا.. وغرقتُ في خجلي أكثر.
لم نقترب أكثر.. وفي مُقبِلِ الأيام امتدت قطيعةٌ بيننا، فكأنها الثُقبُ الذي سينتهي به الكون.
لم أتجرأ أن أشتري النعناع بعدها قط.. وحاولتُ أن أتناسى اسمَك طيب الذكر ما استطعت.
نضب الحيُّ كله من أغصان النعناعِ ورائحة الحب.. ففي غضبتي توقفتُ عن شرائه.. وعدمتْ أمي ما تجودُ به على جيران الحي.
سافرتَ للبعيد.. لم نلتقِ.. لم تعتذِرْ.. لم ندفنْ أحلامنا كما يليق.. ولم نملِكِ الوقت لنُودع بعضنا.
لطفولةٍ بي كنتُ أظنُ دعوةَ الصبي الصغير هي السبب.. لم أعرف لماذا أو كيف تنكفئُ دعوةٌ على نفسها فتقلب اللقاء بيناً والقرب بُعداً.. ولم أكن مؤمنةً كفاية لأوقن أن الأمر مهما يكن قضاءً مقدراً لحكمة.. وما الدعاءُ إلا سبب.
لم يكن للأيام ملامح بعدها.
واصلتُ أنا التنفس.. (نَ/سِ/ي/تُ/ك).. لم أُنقِص حياتي شيئاً بعدك.. ولم أُقاطع سوى شاي النعناع والتفكيرِ فيك!
حتى كان ذلك اليوم. يومٌ عادي.. بإيقاعٍ رتيب وشمسٍ حارقة كما بنفسِ المقدار كل مرة.. على التلفازِ في قناةٍ أجنبية كانوا يعلنون عن احتفالاتٍ بالربيع.. وموسم الأزهار.. وتفتُّح الفرح وبعثِ الفراشات.. ربما في بلادٍ أخرى نيسان أكثر وسامة.. ولكن هنا لا زالتِ الخرطوم تحجز مقعداً أمامياً في وجه الشمس عند كلِّ نيسان.. الخرطوم مُدهشة ولكنها ليست أكثر إدهاشاً من حكايا ساكنيها.
كان الوقت صباحاً في يوم إجازتي من العمل.. وفجأة.. من دون أي مقدمات.. من دون أي فكرة.. أو ابتسامة…أو أغنية.. زغرد هاتفي برسالةٍ منك.. فتحتُها بارتياب وكأنَّ مرسِلَها شبح… الرسالة حَوَت سطراً واحداً لا غير.
-“تعرسيني يا وردة؟”
كان بيننا شهرٌ واثنان وثلاثة وعامٌ من قطيعة.. وكان بيننا البحرُ الأحمرُ كله بملحهِ وأسماكِه وخوفه.. ابتعادٌ كاملُ الاختناق.. لم يخفف حِدتَه رسولٌ أو رسالة قبل اليوم.
قرأتُ رسالتك بقلبي.. بروحي.. وحفظتُ كلَ نقطةٍ مضيئةٍ كُتبتْ بها.
امتلأ قلبي بالندى.. وتضخمت روحي كغيمة.. الصادقون يعودون دوماً مهما طال بِهم غياب.
لا تهم الرسائل والرسل إن كان التقاؤنا دعوة القدر.. لا تهم التفاصيل إن كان الجوابُ نعم.
والقلبُ قال: “نعم” لم يفاجئهُ السؤال.. تناسَيتُك لكن قلبي كان خائناً.. انتظرُكَ في غفلةٍ مني.. وأستقبلك فاتحاً.
سطرٌ وحيدٌ كان واضحاً كشمسِ نيسان الملتهبة في الخرطوم.. لكنه أعلن مقدم الربيع لعمري وروحي.. واضحاً بلا مراوغة وكما حلمتُ دائماً.
أرسلتَ بعدها رسالةً طويلة.. وقلت كل الذي انتظرته منك ذات شوق.. واعتذرت.. متأخراً عن موعِدك خمسمائة وخمسين يوماً.. إلا أني غفرتُ لك.
نبتت في قلبي حديقة.. وعاد إيماني لصدري.. لقد ابتعدنا كثيراً، ورُبما كُل هذا اللقاء لم يكن ليحدث لو لم يُبارِكني الصبيُ الأسمر الصغير في محطة الحافلات بدعائهِ البريء.. ورُبما كُل هذا لم يكن ليحدث لو لم أشترِ قبل عامٍ ونصف كيس نعناعٍ صغير من موقفِ الحافلات.
ذلك الصباح وفي غفلةِ الفرَحِ العظيمِ الذي دقَ سرادقه بداخلي.. وبينما أنا مُغمَضةُ العينين أحتضنُ في قلبي مكتُوبَك.. دخلت أختي الصغيرة الغرفة.. رفعت رأسها تُشمشِمُ الهواء.. التفتَتَ إليّ ثم قالت:
-“يا الله…جمييييييلة فعلاً ريحة النعناع دي!!”.
فوجئتُ من حديثِها…
لم يكُنِ النعناعُ في المطبخ.. ولا في كيسٍ ابتعتهُ من موقف الحافلات.. ولا في الخِزانة.. ولا في السرير.. ولا في الحي كُلِه.
النعناعُ كان في الرسالة.
*قاصة من السودان
حائزة الجائزة التقديرية في مسابقة الطيب صالح للقصة 2013