الطهطاوي.. “الأفق النقدي الجديد” كما يراه طاهر أمين
في مقدمة كتابه “الأفق النقدي الجديد”، الصادر حديثاً على نفقته الخاصة، يطرح الكاتب والباحث التونسي في مجال الإسلاميات، الطاهر أمين، سؤالاً مركزياً، وهو: من يكون مثقف النهضة؟ وفي السطر الموالي مباشرة يقدم الجواب لقرائه قائلاً: إنه رفاعة رافع الطهطاوي (1801 – 1873).
يحرص الكاتب منذ البداية على اتباع منهج علمي واضح وصارم، يتماشى مع طبيعة موضوع النقد في تاريخ الفكر العربي. بعثة الطهطاوي إلى فرنسا بين 1826 و1831 من قبل محمد علي باشا، كان لها الأثر الكبير في تحرير العقل العربي وإيقاظه من سباته العميق، طيلة العصر المملوكي/ التركي. الرحلة أثمرت مشروعاً نهضوياً متكاملاً، يمكن تبيّن معالمه في مؤلف الطهطاوي “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”.
يضم كتاب “الأفق النقدي” للطاهر أمين ثمانية فصول، توزعت على 159 صفحة من الحجم المتوسط. الفصل الأول حمل عنوان “الوداع يا بونابرت” الذي هو في الأصل عمل سينمائي للمخرج يوسف شاهين، أنجز سنة 1986. ويوسف شاهين اهتم في هذا الشريط بالجانب الخفي من حملة نابليون بونابرت على مصر (1798 – 1801)، نعني بذلك “جيش المثقفين” الذين رافقوا عساكر الحملة الفرنسية، وكافاريللي دي فالفا رئيس لجنة العلوم والفنون يضطلع بدور قائد حملة الأقلام، مقابل حملة السيوف والبنادق، أي الجنود. يعلل الطاهر أمين فشل يوسف شاهين في إقناع الجمهور ببطله كافاريللي، بأن “العمى الأيديولوجي يخيم على العقل العربي”، هنا يكمن التوتر الذي يثيره هذا الكتاب، أي في مستوى إدراك قيمة الطرح الثقافي في حياة البشر، والحملة الفرنسية كانت في المحصلة “حدثاً تأسيسياً في تكوين الثقافة السياسية المصرية والعربية”.
إذا كان الطهطاوي، هو قادح فكرة ضرورة التعجيل باليقظة، فإن الجهد التحديثي في العالم العربي، مشرقه ومغربه، تقاسمته وتداولت عليه عدة أجيال من النخب الفكرية والإصلاحية، في المشرق والمغرب، ومنذ نهاية القرن الثامن عشر توالت رحلات استطلاعية لمفكرين عرب، ولا يمكن في هذا الإطار نسيان دور كتاب خير الدين التونسي (1822 – 1890) “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” وكتاب أحمد فارس الشدياق (1804 – 1888) “الساق على الساق فيما هو الفارياق”. أما المحور الأساسي الذي خاض فيه رجال الإصلاح والفكر وحتى رموز الإبداع، على اختلاف مشاربهم، فقد كان وفق عبارة شكيب أرسلان (1865 – 1946) “البحث في سبب تأخر المسلمين وتقدم الغرب”.
يشير المؤلف، في الصفحة 62 من كتابه، إلى أنه رغم الوساوس والضجيج الذي رافق إثارة المشروع النهضوي، بقيت الأمة في نقطة الصفر، تتجرع خيباتها وتستنزف طاقاتها، وبدل إجراء عمليات متعاقبة من الهدم والبناء، بقيت “الأنتلجنسيا العربية.. تؤدي دور المنافحة والتقريظ” كما يؤكد على ذلك جورج طرابيشي في كتابه “أسئلة النقد”.
يتحتم على الفكر العربي أن يخرج من مضائقه، ويحقق “شرط تحرير الروح”، ولا تتم هذه العملية المضنية إلا عبر المرور بمرحلة “التفكير في الغمة” لإيجاد الحلول وتجاوز السلطة البطريركية والتخلص من وحل الولاء الحزبي وإكراهات التأويل المغلوط للنصوص.
ويستعرض الطاهر أمين، في كتابه، جوانب من الطريقة التي عالج بها المفكرون المعاصرون أزمة النقد الفكري، معدداً السبل الكفيلة لتخطي الفشل المتكرر لدى العرب. وفي الكتاب نعثر على شبكة من المفاهيم الحضارية المنسوبة إلى مظانها، وإلى مجترحيها من أعلام الفكر والفلسفة، مثل محمد أركون، وحسن حنفي، وفيصل دراج، وهشام شرابي، وغيرهم.
المميز في كتاب الطاهر أمين أنه يساعد القراء، في تتبع الطرح المعقد لمسألة النقد الفكري، فضلاً عن ذكر التواريخ الدقيقة لحياة الكتاب وتعداد مؤلفاتهم وشواهدهم، وكل ذلك مثبت في صفحات الكتاب بالحبر البارز.
يبدو الطاهر أمين في كتابه “الأفق النقدي الجديد” مدفوعاً بشوق دفين صرح عنه في مفاصل كتابه، ألا وهو ظهور “كانط عربي” يخلص الأمة من إكراهاتها. فلا يستقيم حال فكر أي أمة من الأمم إلا بخلخلة القناعات ورج الثوابت باستمرار. من جهته يسعى طاهر إلى تطوير مشروعه في الكتابة النقدية، علماً أنه كان قد أصدر في السنوات الأخيرة ثلاثية البؤس، وهي “بؤس الثورة” سنة 2012، و”بؤس الثقافة”، و”بؤس الهوية” سنة 2013.
ذلك هو قدر رجال الفكر، الاستجابة إلى نداء النقد الذي يسعى كل أديب ومفكر إلى نيل شرف الانتساب إلى حياضه مهما كلفه الأمر.. حتى الطهطاوي ذاته دفع تكلفة اجترائه على شبح الجهل والتخلف، ولم يسلم من النقد والانتقاد، فقد عبر العلامة محمود محمد شاكر في كتابه “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا” عن استغرابه لما ناله الطهطاوي من حظوة، مع الإقرار له بنجابته، فكيف تسند إليه قيادة بعثة علمية مصرية تتكون من أربعين شخصاً، وهو لم يتجاوز 23 سنة من عمره، لو لم يكن واعظاً في بعض ثكنات عسكر محمد علي باشا؟
أما مصطفى صادق الرافعي، فهو يشير بدوره إلى انشقاق الطهطاوي عما يسميه “الثقافة المتكامِلة التي اجتهد علماء الأزهر إلى ابتنائها”. وهناك من يتهم الرافعي صراحة بخدمة الفكر الاستشراقي، وفي طليعتهم “الداهية سيلفستر دي ساسي”، في الوقت الذي يبدو فيه مثقفاً طليعياً جهبذاً.
كما نجد الطهطاوي يتعرض سنة 1849 إلى محنة كبرى عندما أغلق الحاكم الجديد عباس الأول مدرسة الألسن التي أسسها، وأبعده إلى السودان، وبقي يتلهى بترجمة رواية فرنسية عنوانها “مغامرات تلماك”.
* ناقد وصحفي من تونس