رقصٌ على دوائر القلب: خواطر متناثرة على لوحة الفنان سيف اللعوتة
مدخل
1 – هذي لوحة عميقة وعظيمة، احتفت بالحياةِ وأصل أصلها، وفيها عودة لأفريقيا منبع الوجود البشري، وأم الأرض وصاحبة أجمل الألوان، يخرج الرقص هنا بلباسِ حقلِه اللوني، يُكمل دورته وفق دوائر ماضية وحاضرة ومستشرفة، تفيض الأرض بالدوائرِ، كأنها تبعث بالموجاتِ من عمق نواتها، دوائرُ مترابطة احتفلت بالحياةِ، حصادها وأعراسها، الموت والموات، الخِصب والتكاثر، الشواهد والظواهر الطبيعية الشمس، القمر، الليل، النهار والمواسم. هذه لوحة متفردة تبدو كأنها أصل الرسم عند فناننا، أشكرها وأشكره فلقد فتحت بدواخلي أنوارها وأضاءت شوفي التعبان. أسرتني اللوحة لكنني بدءاً أقرُّ بانحيازي الكامل لأعمالِ اللعوتة ولهذي اللوحة بالتحديد، ثم بضعف معرفتي التشكيلية، كما أعترف بفضلِ الفنان الكبير في الارتقاءِ بذائقتي الجمالية، هي عندي – رقصٌ على دوائر القلب – أدهشني تفردها، بدت لي كأنها تطريزٌ على قماشةِ الألوان، قطعاً هي نتجت من اشتغال الذهن وخطت دقَّة نسجها مثلما حساب أعمار الأشجار حين يقسو الفأس ويقطع جذوعها الضخمة فتكشف النواةَ دوائر بقائها بالأرض والوجود، كما أنَّ الفنان اللعوتة هنا ينحاز لدورةِ النساء بالرقص والحياة، كأنما مجموعات النساء انبثقت من نواةِ الأرض ودوائر اندياحها في الوجود، وشابهت صفوفها رسومات سكان الأرض الأصليين بكل ناحيةٍ وقلب.
2 – لن أذهب بدربِ نسب اللوحة لمدارسِ التشكيل الشاهدة تأريخاً وأنماطاً وأساليبَ، فهذا شهر ليس لي فيه نفقة ولا دراية، سأُعمل فقط معيناتي التي ألمح لها بخيط آخر أستاذي سيف اللعوتة، وذلك ما ظنّه مشكوراً قدرتي على التأويل، رغبتي من كل هذا تحريض آخرين ذوي قدراتٍ لا شك راسخة لتوضيح الأبعاد والفضاءات التي أنارتها هذي اللوحة البديعة. أقرُّ هنا أنَّ الألوان شدتني ببساطتها، ثم زهاءَ قولها وأصالتها، أخذتني خطوط اللون الوادعة وجذبتني نمنماته، صيرتني بعضاً من كلها، وأعطى لون متعتها البشري طعمَهُ لريقِ دهشتي ثم أخذ حظه المقدور وانصرف وتركني لا كما أتى، ولكن كما يجب أن يكون المُحِب بعد أن يزدان قلقه بالتوقعِ وتنتظم دقات نبض بالتوقِ. أراها بانوراما كاملة الشروط تنتظمها حركة باهرة الإرادة والجمال وتنداح دوائر فعلها أبداً من الانتماءِ لمركزِها الشديد الجذب والباذخ الحرية.
3- أنجزت اللوحة بمطلع الثمانينيات، وما يعنيني هنا أنها تنتمي لعقدِ الفنانِ الأول بدربِ احترافه، أي بُعيد سنوات قلائل من تأريخ تخرجه في كليةِ الفنون الجميلة والتطبيقية 1978م، إن أعانتني الذاكرة. الدلالة هنا كبيرة لأن اللوحة انطوت على قدرة مدهشة في التعبير والبوح، كما أنها ولجت أبواباً عجيبة، وقالت بمساحة صغيرة ما يحتاج قوله ورصده وتعميقه مساحات، مجسمات، مواد ثم ضوء وظلال وفضاءات.
4 – أي لون مثَّل عندي حركة، وأي حركة قادتني لدلالةٍ ومعرفة، توقفت عند المحيط ولونه، حيِّرني ثم أذهلني، بدا كلونِ لحاءِ شجرة الحياة ذاتها كما أنه مثّلَ ألوان مخلوقات الماء، رقَّ الأزرق وذاب بألوان الأنثى الوضيئة، محيط اللوحة وحوافها تحضر وتغيب، لكنَّ أشغال أركانه البديعة منحت متعتي (بلالةَ الريق) وعطرت أنفاس مقاربتي الواجدة.
5 – حواف اللوحة ومحيطها حمل من الدلالات المعرفية الكثير، لكنه بذات الوقت هيأني وأراح عصب شوفي وشيّدَ جسر تواصلي، مدَّ للدائرةِ -النواة- بُساط الوقت ومتن المكان فانساب خط الحدَّ لم يقتطع تعرجه القلبي ولا اجترحه إنما مزجه بريقِ اللون ودهشة الفُرجَة، أما عناصر المكونات فلقد تكثفت وتماسكت وتكاملت لوناً أحاله قدره البيني لحُلكةٍ رقيقة نمنمت وطرزت الحافتين، البدايتين والنهايتين.
6 – كصدفةٍ بحرية تطاول مدَّ يِمها واستقام عشق، موجهاً ثُمَّ طارحتها السماوات الغرام ذات شمس وشمس، وقمر وبدور ونجيماتٍ ثواقب أشرعت للوجودِ باطن سرها، خزانة كنزها، لآلئ الوعد، بطاقات الخصوبة، ياقوت سحر النساء منذ حواء ورقصات الحصاد الوسيم. كانت تستبيح نعومة الرمل، تستنطق أحاجي صمته، تفك طلاسم جذر أمواه بحره وتودع صوت الموج، ثم تستقبل بودٍ قديم عربدة الريح وانفساح الفضاء.
7 – اختيار ألوان المحيط ساحرٌ وعبقري المزاج، بدا كما اُشتق من ألوانِ عوالمِ أعماق البحار الفاتنة بشعابها المرجانية ومخلوقاتها وأسماكها وأساطيرها العجيبة، تدرج أفضي لعواميدِ أمواهٍ تشابك فيها السماوي المتصالح بالبنفسج الشديد التعبير. يَعِدُّنا الفنان لما سيأتي ويسوقنا بسحرِ فِرشاتِهِ الذهبية عبر بهو لون حواء وبحار أسرارها، ثم يصعد بنا الضفة الفاصلة، يتسلق بِنَا جدران صدفة الأعماق الرحيمة، توقفنا برهةٌ من بنفسجٍ وأغاني من ماءٍ زلال، هنيهة حتى يغسلنا الضوء وتُطهرنا نداءات قرى الخاطر القديمة، التحايا، المطايبة، ترنيمات العبادات العتيقة، صلوات الفجر واستغاثات السُقيا ثم انبهارنا.
8 – بهرتني الحركة بسكونِ كونها، جماله الناطق في الصمت، انتظام الكُلَ في الكُلِ ورقص المكان، هنا مركز الفعل وجذوة الإشعاع رَحم الصّدفة، بطن سِّرها حيث لا سّرَ ألا الحب حين يمشي، يرقص، يرتجَ، ينفعل، ينجذب، ينتج ويُنتج ويتخلق في الحياةِ دوائر من التوازن والاتزان تفيض بها نقاط في الأديمِ عاشقة، هنَّ وشم الأرض، مصادر الخير، تراصت صفوفها وتموجت، أمعنت في السواد كأنها خطوات الدهر، دربَ نِعليَّ الأبد وصوي طريق القادم من أزمان. تموجت الأرض، أديمها، دوائر خيرها، وشم جلدها بالأسودِ أصل الأصول، مصدر المصادر وأبو الألوان ثم دار دورته، رقص رقصة عطائه وشعَّ سناه بنساءٍ ونساء، استدرن فارتجَّ القلب، استوطنت الشمس المدارات وأقبلت لتُحيي نهارات رقص الأقمار. التفتت فطرحت المواسم ثمارها وعبَّقت الأجواء رائحة الخصوبة لوحت فنبضت أمواه الحجر وذابت في نَداها الخُضرة أزمعت نشر الريحَ فصارت بجلالِها نسائم ووشوشة همست فانبرت أضالعَ الطين مدائن وقرى موانئ وسفر، دارت وتخضبت بحنةِ الرجال، فأنجبت الحياة كُلِّ نقطةٍ وشمٍ غارق في السوادِ وكُلّ دائرةٍ إجابة تُفضي لسؤالٍ وكل سؤالٍ ميلادٍ لحركةٍ جديدة سبحانه سبحانه سبحانه.
9- لجأ الفنان لمنبعٍ لا ينضب معينه ولا تموت جذوة سحره، نقل لنا أحداث الأزمنة الغابرة، زينت نُقوشه البديعة جدرانَ كهوف القدماء ومقابرهم أيام السيادة المطلقة للصورةِ والنقش، حدثتنا وعلمتنا ورصفت للكتابةِ دروبها، بَنت للغةِ جسور بلاغتها ونظمها وجمال حرفها. غرفَ سيف اللعوتة من هذا واستند على معينِ ثقافته الإنساني الرصين كما أمعن نظره الثاقبَ بدورةِ حياة القرية الأفريقية، مواسمها، أشغال يومها ووعيها الجمعي ثُمَّ ما لفلسفةِ الدائرةِ والدوائر ومفهوم الرقص الأفريقي من دلالاتِ معرفية وعقدية وروحية.
10- ثلاث شموسٍ وقمران بزغوا بتفاوتٍ محسوب وأطلت من فوقِ جدار الماءِ فيما تمركز قمرٌ فادح الحُسنِ بوسطِ دائرة الرقص التي تشابكت فيها الأجساد. هالتان من فيروزٍ وثالثة من برتقالٍ أحاطت بالأرضِ وتداعت في المواسم، تهادت عيونٌ للحضرةِ الكونية ووعداً لأرضها التي مدت خطوط نواتها الدائرية، نقاط وشم العمر، أوتاد رسائل الخير وأفلاكٍ تبرجت بلباسِ المواسم والحالات شتاء، خريف، صيف وربيع، ليلٌ يعقبه فجرٌ ثم يصعده نهار يتنزل أصيلاً ومغيباً.
11- الحضرةُ نساء في الألوانِ توزعنَ مركز القلب كأنما انبثقنَ من دوائرِ النواةِ وتمايلنَ، استقمنَ وانحنينَ ثم تمادينَ في الوثوقِ والانتماءِ الحرِّ لمعزوفاتِ اللونِ حيثُ لا أصباغَ سوى تجليات الأقمصة وألوانها، سيظلُ الأسود ملك المكان وميقاتٌ لحسابِ الزمان… ثمة أبيض يتخلل دوائر الحُلكة يستبطنها، يُميز نقاط وشم جبين الأرض ويُبين حدود الخرائط، المآثر، الأغنيات واندياح نسق المجموعات، تباينها وفق التوحد واتساقها صوب الاتجاهات والأفلاك. الأقمصةَ امتصت من الكائناتِ ألوانها، تبرجت بها ثم تمثلتها، كأن الوجود البشري ذاب بالنساءِ وعاد لأصله وحشدت الطبيعة أصباغها الساحرة وعطورها الناطقة بالأثوابِ فتنوع الأسود والأبيض واكتملت دائرة الحياة.
خاتمة وحاشية ثم اعتذار
يتملكني يقين حارق أنَّ رحلتي وهذه اللوحة البديعة أكسبتني ما لم أستطع إيفاءه الحقَّ الواجب من المحبةِ والود، عزائي أنَّ المحاولة منحتني فرح الانتماء لفضاءِ اللوحة، كما أني ما قصدتُ ولا انتويت خلق حالة توازي إبداعي، إذ لا مجال أو مقدرة عندي لهذا، ذلك لقناعتي الراسخة بأصالةِ الباعث على كتابتي هذي، وإنما هي اللوحة وتداعياتها التي تستند على المشاهدة، الأثر، الانبهار ثم العلاقة التي تخلق حالتها وتمدُّ روابطها فتنفتح نوافذ المتعة، المعرفة فتصير جزءاً من دائرةِ الفعل الجمالي الخلاق. اللوحة أحدثت كل هذا وأكثر، ويسرت لي ولوج عوالم سيف اللعوتة المدهشة بخصوصيتها العالية الحساسية والمحبة، كما أظهرت اللوحة قدرات الفنان المتفردة في التطريزِ والنمنمةِ والصياغة التشكيلية، وأبانت إمكانياته الهائلة في التعبير عن أعقد الأفكار بلغةِ رسمٍ بسيطة تعِينهُ في ذلك شفافيته الواجدة في استخدام اللون، مزجه، استنطاقه، استبصار مدلوله أو باختصارٍ غير مخلٍ أو مبالغ فيه. سرُّ صديقي سيف اللعوتة يكمن في مقدرته على تنفُّسَ وتذوقِ النبض باللونِ، ثم النفاذ العبقري لعمق جدليته، علاقته بالكون والأشياء وعلاقات الأشياء به، وجرأته لحظة الاختيار، ولعل خير مثال لذلك هذه اللوحة التي لم تتعدَّ الألوان فيها السبعة مع حساب التدرجات، ولا تفوتني المساحة التي أعتقد بصغرها لكأنما هي نوع من الاستجابةِ الضرورية لاتساعِ وعمق معرفته التي أنتجت قدرةَ تعبيره التشكيلي العالي حتى بالمساحة الصغيرة، وهذا يحيلني لعلوِّ كعب الصنعة والتطريز بالرسم. شدّني التماسك وكلية الفكرة وبساطتها الباذخةَ الجمال ونفسها الملمحي مع أبعادِ البانوراما الشديدة الحضور. إذاً هذه اللوحة قالت وحوت وبذات الوقت أوجزت.
(حاشية):
يحق لسيف اللعوتة أن ينام ملء جفون ألوانه، ولنا المتعة وخيول الأخيلة والمحاولات، ولا اختصام، إنما هو سلام وسلام وسلام.
(اعتذار واجب):
أولاً لسيف اللعوتة إن خيبت توقعه وأظنني فعلت.. ثانياً لكل معجبي الجمال، امسحوها بوجه خيبتي، وستظل اللوحة مفتوحة لكلِّ القراءات كما هي دائماً والأجمل قطعاً سيأتي.
* كاتب من السودان