السُّلطة الخامسة: من أين تأتي التكنولوجيا؟
(حول توطين التكنولوجيا وعوامل الاجتماع والبيئة والتنمية)
تقديم وتعريف مختصر
“نحن نعيش في مجتمع يعتمد بشكل شامل على العلوم والتكنولوجيا، لكن قمنا بترتيب الأوضاع بحيث يكاد لا أحد يفهم العلوم والتكنولوجيا. بالتأكيد هذه وصفة كارثية.”
– كارل ساقان (1934-1996)
هذا الكتاب لكل المهتمين والمهتمات بقضايا التنمية البشرية والتنمية المستدامة (وهي في حقيقتها قضية واحدة)، وكون الكتاب يختص بتناول موضوع التكنولوجيا العام لا يعني بحال من الأحوال أنه موجّه فقط لمتخصصي التكنولوجيا ودارسيها ودارسي آثارها. التكنولوجيا لا مفر منها اليوم، في أي مجال من مجالات الحياة، وعليه فإن الحديث عنها هو حديث يتعلق أيضا بالاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، والثقافة، والفنون، والفلسفة، والأنشطة البشرية الكثيرة، الحياتية والجمالية والفكرية. لهذا أيضا فإن المهتمات والمهتمين بقضايا التنمية البشرية والتنمية المستدامة مطلوب منهم أن يكونوا على خلفية معرفية جيدة بتضاريس التكنولوجيا وعلاقاتها وآثارها وتطبيقاتها. أقصد أيضا بالمهتمين والمهتمات عموم الاهتمام، ولا أقصد به فقط الاهتمام المهني أو الأكاديمي. على العموم هذا هو غرضنا من هذا الكتاب: أن يكون متاحا ونافعا لهذا الطيف الواسع من القراء، وأن يأنس فيه كلّ من يعنيه ويعنيها الأمر شيئا من الفائدة والمتعة الفكرية.
لكن لا ننكر أن عموم الكتاب يحاول قدر المستطاع أن يلتزم صرامة البحث والتوثيق الأكاديمي، في استشهاداته وتمحيصاته وخلاصاته، لأنه في الأساس نبعت فكرته كنتيجة لعمل بحثي أكاديمي، بيد أنه مسبوق ومصبوغ باهتمام شخصي قديم بهذه المسألة، عمره أكثر من عقد من الزمان، يمكن أن يكون لدى أي واحد من القراء وبدون الحاجة للخلفية الأكاديمية. في العموم يراعي الكتاب في لغته وشرحه أن يكون متاحا لأي قارئ وقارئة بغض النظر عن الخلفية المعرفية/التخصصية السابقة.
السُّلطة الخامسة
لتقريب تصوير وضع التكنولوجيا في المجتمعات الحديثة، نود أن نصف التكنولوجيا بأنها “السلطة الخامسة”. ما نعنيه بهذا الوصف هو أن التكنولوجيا، كمجال تخطيطي وتطبيقي، هي خامس السلطات الأربع في مجتمع الدولة العصرية: السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، ثم السلطة الإعلامية التي يُطلَق عليها السلطة الرابعة (مجازا لا قانونا). التكنولوجيا هي السلطة الخامسة، وفقا لذلك، كونها ذات سلطة تنظيمية وسطوة ثقافية مهولة في معظم المجتمعات المعاصرة. مفهوم السلطة الخامسة يحاول فقط لفت الانتباه إلى دور التكنولوجيا الكبير في المجتمع، وليس ترتيبها تحت السلطات الأربع المعروفة؛ فالتكنولوجيا أحيانا كثيرة تكون أوسع سديما وأكبر أثرا من بعض أو كل تلك السلطات، كما أن جميع تلك السلطات تعتمد على التكنولوجيا في درجات مختلفة لأداء مهامها الإدارية والإجرائية. مفاد هذه الكنية الرمزية عموما هو أن التأمل في دور التكنولوجيا في المجتمعات المعاصرة يجيز لها أن تُصبَغ بوصف السلطة الخامسة في الدولة. هذه الكنية نرجو لها أن تعين الناس على استشعار خطورة ظاهرة التكنولوجيا في حيواتنا المعاصرة.
الأطروحة
أطروحة هذا الكتاب يمكن اختصارها كالآتي: لا يمكن تحقيق مستويات محترمة ومستدامة من التنمية البشرية عند أي مجتمع إلا باصطحاب موازنة ضرورية في العلاقة مع التكنولوجيا. هذه الموازنة هي بين معدل إنتاج التكنولوجيا ومعدل استهلاك نواتجها. تتجسد هذه الموازنة، مثلا، في علاقة النواتج المحلية، والصادرات، مع الواردات. كما تتجسد أيضا في مستوى مطلوب من الاستقلال التكنولوجي (وهو ما سيتم تفصيله في صفحات هذا الكتاب) بحيث تكون هناك مرجعية ذاتية ومحلية في اتخاذ القرارات المتعلقة باستيعاب واستعمال وانتشار التكنولوجيا في المجتمع المعني. تحقيق هذه الموازنة عملية تتخلق عبرها وتنمو مقاربات وممارسات التنمية البشرية، من تعليم حصيف ومُوجّه وتطبيقي، ورعاية شاملة بالموارد البشرية، وتهيئة وصيانة مؤسسات الابتكار المعرفي والتطبيقي في المجتمع، الخ.
كلا الدليلين، الإحصائي والتاريخي، يشير لرباط قوي بين التنمية التكنولوجية والتنمية البشرية. على سبيل المثال يمكن استعراض هذا الرباط القوي عن طريق مقارنة إحصائية بين مؤشرات التنمية البشرية ومؤشرات الإنجاز التكنولوجي لدول العالم (وكلا المؤشرين يستند على إحصائيات دورية مضبوطة بوساطة مؤسسات عالمية). إضافة لذلك فإن تقرير التنمية البشرية لعام 2001 يسرد قصة العلاقة الطردية العامة التي تجعل معظم التحولات الإيجابية الكبيرة في رفد التنمية البشرية في القرن العشرين – في العالم عموما وفي بعض البلدان خصوصا – يمكن نسبتها عموما لتحولات إيجابية بنفس القدر في الإبداعات والإنجازات التكنولوجية، في قطاعات شتى (مثل الرعاية الصحية والنظافة، والزراعة والمواصلات، الخ). التاريخ الحديث أيضا لا يوفر أي دلائل تقول إنه بالإمكان حصول البلدان على مؤشرات تنمية بشرية مُرضِية بدون تحقيق مستويات ناضجة من التنمية الصناعية. هذه الدلائل الإحصائية والتاريخية تقوّي وتدعم أطروحة التوسل للتنمية البشرية عن طريق التنمية التكنولوجية، كما تضعنا أمام محك كبير في مجال التنمية التكنولوجية لا بد من التصدي له في مستواه.
الاستلاب
الاستلاب وصف حالة المجموعة المُستلَبة، وهي حالة في زمرة نقيض الاستقلال أو الأصالة، كما هي متسقة مع حالة الاغتراب عن الذات. المقصود بالاستلاب هنا، في هذا الكتاب، هو الاستلاب التكنولوجي طبعا، وهو حالة تعاطي المجموعة مع ظاهرة التكنولوجيا كمستقبِلة ومستهلِكة فقط، وفي أفضل الأحوال كمقلِّدة وممالئة. هي حالة أبعد ما تكون عن الندية مع المجموعات المبتكرة والمنتجة للتكنولوجيا. هذه الحالة لا يمكن أن تكون صحية، كما لا يمكن أن تكون متسقة مع التنمية البشرية والتنمية المستدامة بأي حال من الأحوال. إذا فهمنا مجال التكنولوجيا كمجال نظامي معقد ومتشابك مع نسيج المجتمع ومؤسساته (كما سنوضح في هذا الكتاب) يصبح من الواضح لنا أن العلاقة ليست تبادلية بحتة بين المجموعة صانعة التكنولوجيا والأخرى التي تستهلكها، بل علاقة قوى، ميزان القرار فيها غير متساوي الكفّتين كما أن مستوى المعيشة وازدهار الحياة غير متساوي الكفّتين.
وهنا لا بد من توضيح أكثر، فالإشكالية ليست هي مجرد الاستهلاك والتقليد فقط، في سياقهما العام، فحتى أكثر المجتمعات ابتكارا للتكنولوجيا تستورد وتستهلك إنتاجات مجتمعات أخرى، وتتبادل معها في علاقات تجارية مفهومة. الفرق بين المجموعة المُستلَبة وبين غير المستلَبين ليس هو مقدار تعاطينا البنـّاء مع نتاج تلك المجموعة أو تلك، فالحضارة والثقافة عموما في أي مجتمع تنمو بصورة ديناميكية عن طريق التواصل والتبادل مع الآخر. ليس الاستلاب أيضا بالضرورة في مدى تقديرنا للجميل والطيب من ثمار مجموعة أخرى. إنما الاستلاب هو ما يحتّم على صاحبه أن لا يخرج من جلباب الآخر يد الدهر، فلا يصبح لديه أمل في يوم من الأيام أن يأتي دوره في المساهمة الأصيلة التي تُنسب له استحقاقا، ولا هو أيضا سيصبح نسخة طبق الأصل من الآخر في أي يوم من الأيام. حياة الاستلاب حياة محتوم عليها الجلوس في المقعد الخلفي للأبد، وخوض الحياة “يدا ثانية” secondhand.
منهج وفصول الكتاب
ما هي العوامل الرئيسية التي تلعب دورا حرجا في عملية التحوّل التكنولوجي؟ كيف يمكن تحريض وحث تلك العوامل على التحرك والتفاعل من أجل التنمية؟ كيف تؤثر الظروف الاجتماعية، والبيئية، والاقتصادية في مقارباتنا لعمليات التحريض والحث هذه؟ لكي نستكشف هذه الأسئلة لا مناص من مراجعة عامة للهياكل والنظريات والنماذج المختلفة المعاصرة للتحوّل التكنولوجي. لا بد أيضا من استعراض تعاريف التكنولوجيا، والنظريات التحليلية لعلاقات التكنولوجيا والمؤسسات. بعد ذلك يكون الانخراط في عملية استخلاص وتوليف للعبر والدروس من مشوار الاستكشاف هذا. هذا الكتاب بصدد كل ذلك.
فصول هذا الكتاب الأساسية ثلاثة. بعد المقدمة، يقوم الفصل الأول بعملية مسح لمفهومي التكنولوجيا والتحول التكنولوجي. ثم أيضا يتعرض الفصل للعلاقة التاريخية العميقة والمتشعبة، والإشكالية، بين التكنولوجيا والمؤسسات الاجتماعية. بعد ذلك يتناول الفصل مفهوم التحوّل التكنولوجي وبعض نماذجه من تاريخ العالم الحديث وتحدياته التي تكتنف المجتمعات النامية الطامحة لتجاوز حالة الاستلاب التكنولوجي. في نهايات الفصل نبدأ عملية تركيب وتوليف بين كل ذلك للخروج بصيغ عامة تجعل القارئ في مستوى من الإدراك الأعمق لموضوع التكنولوجيا والتنمية التكنولوجية وتيارات التفكير والدراسات فيه بالإضافة لخلاصات فكرية عامة تعين على النظر النقدي المستدام للقضية.
الفصل الثاني يبدأ باستخدام خلاصات الفصل الأول ليطرح مفهوما جديدا (نوعا ما)، هو مفهوم توطين التكنولوجيا. يبدأ طرح المفهوم عن طريق تناول قضايا جوهرية في علاقة التكنولوجيا بالتنمية: التكنولوجيا والدولة، التكنولوجيا والثقافة، التكنولوجيا والبيئة، والتكنولوجيا وأولويات التنمية. بعد ذلك يطرح الفصل مفهوم توطين التكنولوجيا، وخلفيته النظرية ووجهته التخطيطية، مع ضرب بعض الأمثلة لطيف المقاربات والسياسات، المحلية والقُطرية والجماعية، التي تدعم المفهوم.
الفصل الثالث يقود الفصلين الأول والثاني إلى نهايتهما المنطقية، حيث المقصود العام هو تقديم خلاصة تصلح أن توصف بأنها إطار إستراتيجي للخروج من الاستلاب التكنولوجي إلى رحاب الاستقلال التكنولوجي. الإطار يبني على التنقيب والتوليف والتركيب الذي جرى قبله في الفصلين السابقين، مع محاولة إضافة نوعية لما هو موجود في الساحة مسبقا. كخلاصة بحث يحاول الإطار الإستراتيجي أن يكون مباشرا وواضحا قدر الإمكان.
وفي حين تشكل الفصول الثلاثة أعلاه لب الكتاب ورسالته العامة، يتبعها فصلان بموضوعين مختلفين، وإن كانا متداخلين. الفصل الرابع يتناول مواضيع إضافية ذات صلة بموضوع التحوّل التكنولوجي في مفاصل حياتنا، مثل التكنولوجيا واللغة، التكنولوجيا والتعليم، التكنولوجيا وتغير المناخ. أما الفصل الخامس فتم تخصيصه لقضية جوهرية ومتشابكة، ألا وهي قضية التكنولوجيا والعدالة. داخل قضية التكنولوجيا والعدالة نتناول علاقة الأوضاع السياسية للبلدان النامية والتكنولوجيا في حقبة ما بعد الاستعمار (أفريقيا نموذجا)، وقضية المرأة والتمييز الإيجابي في مجال التكنولوجيا، وقضية علاقات القوى داخل المصنع (كون المصنع ظاهرة متزامنة مع حقبة التكنولوجيا الحديثة)، ثم ينتهي الفصل بحديث عام عن دور التكنولوجيا في معالجة تحديات العدالة الاجتماعية في عموم الكوكب. يتّبع الفصلان الرابع والخامس أسلوب الكتابة بين طرفي الإيجاز والإسهاب، بهدف التحريض على التفكير في تلك المواضيع من زوايا متنوعة، بإيراد معلومات وإحصائيات وتقديم تحليلات واقتراحات لشحذ المزيد من البحث في اتجاهات عامة تخص تلك المواضيع.
كلمة للقرّاء
أرجو أن يحوز هذا الكتاب اهتمامكم، وتعاطيكم الديناميكي معه، فالهدف العام لهذا الكتاب هو أن يبادل كل من يعطيه أو تعطيه زمن القراءة والتأمل، زاوية نظر وافية، وذخيرة معرفية كافية، لأن ينظر المرء من حوله بعد ذلك فيرى تفاعلات التكنولوجيا مع واقعه ماثلة أمام مدى النظر. هذه التفاعلات تشمل شتى أوجه نشاطنا اليومي وعلاقاتنا الاجتماعية وتعابيرنا الثقافية وطموحاتنا المادية والمعنوية. إنسانيتنا نفسها، في جميع أرجاء البسيطة، إنما تتميز في تاريخها وحاضرها عن بقية أحياء الكوكب بسبيل علاقتنا بالتكنولوجيا (علاقتنا المادية والرمزية معا).
ولطبيعة موضوع الكتاب، وما له من مآلات حاضرة ومستقبلية، متوقعة وغير متوقعة، حرصْتُ على ترك إيميلي الخاص في الكتاب (g.hamror@gmail.com) بحيث يمكن أن نتواصل مباشرة بخصوص أي تعليق أو نقد أو ملاحظات مما يخطر على بال القرّاء، ونحن اليوم في زمن التواصل المباشر وتبادل الأدوار المستمر بين من يكتب ومن يقرأ.
(يمكن الحصول على الكتاب من موقع نيل وفرات: http://www.neelwafurat.com)