ماركوني الذي يحكي
أنت يا ماركوني تكذب، حديثك كله خزعبلات وأوهام فاسدة، حكاياتك نفسها مركبة، رغم خيالك الخصيب، مركبة قسرًا من مغالطات واضحة. أعترف، ها نذا أعترف أمامك أن حكاياك شيَّقة وأن سردك الحميم، صافٍ وممتع وأنه يَأسِر كثيرًا من المغفلين، لكنَّني أردّ ذلك ببساطة إلى كذبك الأملس الطري، وإلى تلفيقك الذي لا حدّ له. خُذ مثلًا مغامرتك الفجّة مع تلك الفتاة المختلقة زمن الإنجليز والتي كُنتَ رويتها ليلة أمس. أنت قلت ذلك يا ماركوني، كنت ذاهبًا في العشاء الأول إلى سينما برمبل، تشتمُّ رائحة إبطيك النَّفَّاذة، الحادَّة، عضلاتك الناهضة توًا، كمراهق منتشٍ، تكاد تفتك بأذرع القميص الضيِّق، صدرك الواسع مفتوح للفضاء، تتدلى من عنقك الطويل سلسلة مرصّعة قلت إنَّك سرقتها خلسة من متجر الإغريقي ألكسندرو بينما كان الخواجة اللئيم يحاول إحدى نساء البلد، أغراها، حسب زعمك، ببعض الملاليم، رغم أنه، حسب ما علمنا منك، أنه رجل شحيح، أحرص من فأر، لكنها الشهوة العارمة حين تتدلى بين فخذي رجل. كان الخواجة غائمًا في شبقه وأنت مددت يدك المدرّبة إلى الفترينة، سحبت، بمهارة وسرعة، السلسلة قبل أن تدسها، ويا للعجب! بين فخذيك، علقتها إذن في عضوك الذي تأثر بالمشهد الحي أمامك بين امرأة من البلد وتاجر أغريقي عجوز.
لا علينا وَلنعُد يا ماركوني إلى قصة فتاة السينما التي رويتها ليلة أمس.. قلت ذلك يا ماركوني، أنت قلت ذلك، وضعت أذنيك على قضيب الترماج، لتعرف، من أزيز العجلات البعيد، كعادة شبان ذلك الوقت، الجهة التي يأتي منها الترماج. أدركت بحدسك الملهم، وبخبرتك يا ماركوني أن الترماج سيأتي من جهة الجنوب مما يعني أنه يتوجب عليك الانتظار في محطة البلديّة. كان يمكنك التمشي قليلًا خصوصاً أن الطقس نشط هذا المساء وبدأ الرذاذ يهطل كأنه يود أن يغسل المدينة من الغبار الأهوج الذي اجتاحها لثلاثة أيام متصلة تعطلت إزاءها الحياة واتشح الناس بالتراب كأنهم أشباح متسخة، خرجت من حفر ملعونة، ما حدا بالحكومة، مضطرة، أن تعلن عطلة مؤقتة للأفنديّة والعمال سواء بسواء.
داخل الترماج، قلت يا ماركوني، أنت قلت ذلك، افتعلت مشاجرة كبرى مع الكمساري البدين، ربما تود أن تلفت الأنظار إليك، رائحة إبطيك غمرتك بالكامل، عضلات المراهق المنتشي والسلسلة المرصّعة التي تتدلى على الصدر المفتوح، كل ذلك أغراك لتفتعل مشاجرة مع البدين، لم تخسرها كما تدعي وأنت توهم نفسك بأنك أحد أبطال هوليوود ذلك الوقت الذين عشقت صورهم الجائلة في حنطور إعلان السينما. سيُذَكِّرك هذا بيوم التخرج من معهد القرش. اصطف الآباء في ناحية واصطف التلاميذ في ناحية مقابلة واصطفت أمك وحدها في ناحية أخرى. خرج مستر جيمس الإنجليزي مدير المعهد يتبعه طرماج الأساتذة، أجانب ووطنيين، اعتلى المدير المنصَّة، خطب في الجمع الحاشد، انحفرت كلماته في ذاكرتك إلى الآن، قال: إنها إحدى فضائل هذا المعهد، التقطنا شابًا من حضيض المدينة وها أنذا أقدمه بكل الفخر كعالم في المستقبل، متخصصًا في هندسة الراديو والترانزيستور. أقدم لكم الأول بجدارة: عيسى ألماظ حسن، ودعوني أنعته بماركوني. دوّى التصفيق طويلاً، أمك المصطفة وحدها لم تُفاجأ، تعرف معدنك جيدًا، تعرف أنك ابن أبيك رغم سريان همهمات كثيرة وشكوك تقول بغير ذلك. ما حدث هنا قد حدث من قبل، تقدم أبوك الجميع، في البِيَادَة والرِّماية والجري، ورُقِّي مباشرة إلى رتبة وكيل أمباشا، كان مثالاً للجنديّة والانضباط، للضبط والربط والشجاعة وفقًا لما هو مكتوب في الشهادة التقديرية المثبتة أسفل الصورة (لقد أبلى بلاءً حسنًا في الجبهة الشرقية في حربنا ضد الطليان الخونة واستشهد هناك كرجل محارب وشجاع).
تدخل الأجاويد، تقول يا ماركوني، فضوا المشاجرة بينك وبين كمساري الترماج الذي تزعم أنك سددت لوجهه الأمرد السمين لكمة سينمائية محكمة حين نعتك بالجربوع، تقول يا ماركوني ذلك، أنت تقول إن الفتاة ركبت من محطة الدايات في زيّها الناصع، الأبيض الأنيق، وتقول لنا إن الممرضات ملائكة، وإنهن رسولات العناية الإلهية وإنَّ أجسادهن شبقة على الدوام وإن الفتاة حين وقع بصرها عليك تنازعتها ملائكة الرحمة وشياطين الشهوة والعذاب، تقول إنَّها اعترفت لك لما رأت السلسلة تتدلى إلى صدرك أنه وَخَزَها ألمٌ خاطف ولذيذ واعترفت أنَّك أفضل من الخواجة ألكسندرو، بل أنت أفضل من فعلت معه هذا الشيء على الإطلاق.
هذه مغالطات واضحة يا ماركوني، أنت تكذب، أنت حزين، أنت تعاني، انظر لعينيك أيها العجوز، لا أقول إنك تهرف، انظر لهذا البيت الواسع ذي الغرف المتداخلة الذي تعيش فيه وحدك، بلا أنيس، لا أهل لا أصدقاء ولا أنثى. عزلتك يا ماركوني هي سبب ما أنت فيه، الوحشة. إنَّك تتأسى، تحنُّ لأمك، كل صباح تتأمل صورتها فوق الكومودينو، في زيّها الناصع، الأبيض والأنيق، ملاك الرحمة، يكتنز جسدها بالشهوة، لا الأمومة. يوم أن ماتت كنت وحيدًا، هرولت كطفل بريء، لطمت الجدران، كموجة تضرب ضفة، ما خرج من الجيران أحد، ولولت كالنساء، ما خرج الجيران، إلى الجامع، لا شيء، إلى الكنيسة، لا شيء يا ماركوني، زملاؤك في الإذاعة تجاهلوا نعيها كخلق الله الميتين. تسائل نفسك: لماذا رفض الناس أن تدفن في مقابرهم؟ أنت تطوّعت بالحفر كثيراً، في أحمد شرفي، في ماري جرجس، وفي مقابر حمد النيل، وها أنت تسلم الملاك المكتنز بالشهوة والشبق للحكومة، الحكومة يا ماركوني.
تقول يا ماركوني، أنت تقول، حاول الكمساري اعتراضك مرة أخرى حين وصل الترماج للمحطة الوسطى، وكادت الفتاة أن تفلت في زحمة العابرين، النور شحيح، وبدأ المطر فعلا بالهطول. انزوت الفتاة داخل فرندات المحال التجاريّة، ومن ثم مباشرة إلى متجر الخواجة ألكسندرو، لكأنها تستفز مراهقتك الفائرة، تعرف أنه يتوجب عليك مقاطعتها قبل أن تصل متجر هذا العجوز العاهر، لكن السلسلة والكمساري معاً، مغالطات، انظر جيدا يا ماركوني إلى هرطقاتك، إلى تلفيقك الذي لا حدّ له، إلى التناقض الذي لا يصدقه سوى هؤلاء المغفلين المتحلقين حولك، يتسلون بأوهامك المُخْتَلَقَة، يهربون من قصصهم الجامدة إلى كذبك الأملس الطري، تعرف أنك تريد الانتقام منهم، تستمتع كثيراً حين تجلد عجزهم بتلك الحكايات المتوهمة، أنت تتسلّى بغبائهم يا رجل، تحتقر وجودهم غير الضروري، أنت تقول يا ماركوني إن الفتاة رقصت بجنون، جسدها الرحيب والعارى كان يتلاشى في غيبوبة أخرى ويتبدد، كملاك يكتنز بالنور، السلسلة المرصّعة تغفو وتستيقظ بين نهديها المعبَّأين، رقصت، جسدها الشاسع والعاري كان يغني بألق مع سرور، مع كرومة. أنت قلت يا ماركونى، عدت تواً من بلاد برة، بحثت عنها ما بين الريفيرا وحديقة الموردة وما بين سينما برمبل، ما خطر ببالك أنها ستكون مختبئة في متجر اللئيم ألكسندرو، لا يموت هذا العاهر أبدًا. أدرت الاسطوانة على جهاز الفونوغراف الذي اشتريته من شارع نوتنغهام في لندن، رقصت بجنون، جسدها العاري كان يتبدد فوق السباتة الحمراء، دم دم دم، جسدها المكتنز بالحياة تلاشى تحت عجلات الترماج، انفرطت السلسلة المرصّعة، تقول يا ماركوني إنها نادتك بصوت ضعيف: ماركو.. ماركو.. وهرولت أنت وحدك كطفل بريء، ما جاء أحد، ولولت كالنساء، ما جاء أحد، جاءت الحكومة، أخذت الملاك المكتنز بالشهوة والشبق، الحكومة، الحكومة يا ماركوني.
*شاعر وقاص من السودان