كوميان
1
لقد كان العاشر من أكتوبر، إنه تاريخ لن يُنسى بالنسبة لي، ورغم أن وقتاً طويلاً قد مضى، وغاص بين تلاطم السنوات، فذلك اليوم الصاخب من الشهر عاصف الطقس ما يزال عالقاً برأسي، وها أنا أتذكره، وكأنما أحداثه وحوادثه قد وقعت قبل ثوانٍ فقط، لكن الأمر الذي يجعلني أفكر أحياناً: هل أنا مجنون، هو استمراري بعد مضي كل تلك السنوات، في التساؤل: “هل كان عليَّ الذهاب الى ذلك الحفل، أم أن الأمر كان ليحدث ولو في مكان آخر، ولو بطريقة أخرى؟”.
أتذكر جيداً، أن مرحلة كانت تنتهي فيما أُخرى تتخلق، لكن مع ثبات الأشخاص والكثير من الأسماء، لقد كان الأمر مثل ثعبان يبدل جلده، كانت نوافذ الثراء قد بدأت تنفتح علينا، وفتات الاتفاقيات التي وقعها بعض من قادتنا، نحن الجنوبيين، قد بدأ يسقط على موائدنا، ولاح في الأفق بوضوح أن زمن اقتراض الأطفال من الجيران، من أجل زيادة حصة الطعام، التي كانت توزعها المنظمات الأجنبية ووكالات الأمم المتحدة، قد ولّى تماماً.
صارت النسوة يشترين الكعك لأعياد الكريسماس بدل خبزه في المنازل، والسبب الذي لم يكن لأحد القدرة على إخفائه، هو خشيتهن من تفسخ ما تبقى من بشرتهن، التي اهترأت جراء الاستخدام المفرط لكريمات تفتيح البشرة، تلك الكريمات التي كانت تستخدم منهن لأسباب عدة، ربما أهمها ما كان مكتوباً على لافتات كبيرة في الشوراع الرئيسية للمدينة: “من أجل فرص أفضل في الحياة”.
كان يمسني من كل ذلك التغيير العارم، ذلك الانزواء الذي بدأ يجتاح كل ما كان يُرى جميلاً حتى ذلك الوقت، وكان يهمني على وجه خاص الموسيقى وطريقة اللبس، فقد أصبح الكثير من المراهقين يتحركون بخطوات متسارعة نحو مرحلة الشباب، واضعين خلال مسيرهم في سلة المهملات موسيقى “الزيكو”، مستبدلين بكل بساطة ممكنة فناني الكونغو العظماء، مثل “مدلو سيستم”(1) بـ”الراب” وموسيقى “البوب”، بل وصل تبلد شعورهم تجاه تلك الموسيقى الجميلة، درجة أن الكثيرين منهم كانوا لا يستمتعون بأغنية “مدلو” الجميلة “كولنايسشن”، تلك الأغنية التي كان الناس يقومون بالتحضيرات المنزلية للكريسماس، مثل تركيب الستائر وطلاء الأبواب والنوافذ؛ مدندنين بها. نفس المراهقين أيضاً قطعوا صلاتهم بكل الأزياء التي تجسد عظمة أفريقيا وموسيقاها الجميلة.
لقد أطلقوا الرصاص على عصر كانت موسيقى “الزيكو” وسراويل “اللينو” فاقعة الألوان تسيطر عليه، وجعلوا من الجينز الضيق لكن باهت اللون، على طريقة المثقفين السودانيين الذين يجلسون في مقهى “أتينيه” مساءً؛ زيهم المحبب، ولا أفشي سراً، إذا قلتُ إنني نفسي كنت منهم، في ذلك العمر الجامح بالمغامرة، وكل رغبات التجريب.
ذلك المساء البارد، كان يصادف العاشر من أكتوبر. إنه تاريخ مميز، لذلك كنا نقوم باختصاره، عن طريق تسميته بيوم عشرة عشرة، أما الكنيسة فجعلته يوماً لتذكّر “دانيال كمبوني”، والذي ينظر إلى مبادرة الكنيسة يجدها فرصة جيدة، لرفع الغطاء عن أسرار ذلك الاسم جميل الجرس، الذي كلما ذُكر على لسان ما، كان يجيء على البال اللون الأزرق، لطالبات “سيستر سكول” الجميلات، والسراويل الزرقاء لطلاب “كمبوني” الخرطوم المتعجرفين، هل قلت متعجرفين لأننا كنا نشعر بالغيرة نحوهم؟… ربما.
شكراً للبابا لأن مبادرته السامية بإعلان ذلك اليوم عيداً لـ”دانيال كمبوني”، إجلالاً لمجهوداته في إخراجنا نحن الأفارقة من عبودية الشيطان إلى أنوار الملكوت، جعلتنا نعرف أشياء كثيرة عن ذلك الرجل الخمسيني، الذي تظهره الرسومات شارد النظرات، بشاربٍ كثيف ولحية تمتد من الأذن إلى الأذن، فيما يزيد الصليب المتهدل أعلى بطنه بهدوء، وجلبابه الكهنوتي الأسود؛ من وقاره، ويجعلان كل مَنْ ينظر إلى ذلك الوقار يصرخ من أعماق قلبه:
– إنه قديس.
من الأشياء التي علمناها عن الرجل، أنه قال إن أفريقيا يجب أن تخلص نفسها بوساطة نفسها، وربما هذا ما جعله يضع التعليم ضمن وسائطه المهمة في نشر التعليم الكاثوليكي السليم، ومن الأشياء التي علمناها أيضاً أنه مات نتيجة لمرض الملاريا، مثلما لا يزال أحباء لنا يموتون بمرض الملاريا، لأن الاستقلال الثاني تحول إلى كائن مشوّه بجميع أمراض الاستقلال الأول، الذي تبرأ منه الناس جميعاً، كأنه شيطان رجس.
تلك الأشياء التي علمناها عن “كمبوني”، ليست في الواقع ما كان يجعلنا نحس بالإثارة، عندما نسمع اسمه ذا الجرس العذب يُذكر. أمرٌ مختلفٌ هو ما كان يجعلنا نفعل ذلك، لقد كان الأمر يعود إلى انتهازيتنا، نعم لقد كنا انتهازيين، لكن دون أن نسرق مال أو جهد أحدْ.
هذه انتهازيتنا: لم نكن في تلك الأيام مستعدين أبداً لتفويت أي مناسبة، دون انتهازها لإقامة حفل رقص. لقد كان شعوراً بالحاجة الملحة إلى الرقص والغناء يجتاحنا على الدوام، تدفعنا في ذلك رغبة مشتعلة كالجمر، في أن نصبح مثل الفنانين الذين كنا نرقص معهم، أكثر من كوننا نرقص على إيقاعاتهم؛ إذ كنا نتشارك مشاهدة الكليبات المصورة لأولئك الفنانين المحببين إلى قلوبنا، ونحن وقوف، حتى نتمكن من تقليد حركات الفنان مباشرة. هذا على العكس تماماً من مشاهدتنا لأفلام “السكس”، حيث كان صمت ثقيل مثل الإسفلت يسَود الجو، قبل أن ننصرف ورؤوسنا ملوثة تماماً بالتفكير، مَنْ سوف تنفذ معنا هذه التطبيقات بالغة التعقيد من اللذة؟ وهذا بابٌ آخر من الانتهازية يُفتح.
فتحت الرغبة في إشباع الرغبات الجنسية عندنا، التي أصبحت مثل الجحيم لا تمتلئ قط، انتهازيةً أشد وطاة من الأولى، وجعلتنا خبثاء لدرجة التقاط البنات من المناسبات الدينية، دون أن نشعر بأي إبرة من الإيمان تخز ضمائرنا، وكان يوم “كمبوني” من بين المناسبات الدينية المميزة على الإطلاق، إذ كانت الفتيات من جميع الأشكال والألوان والجهات، يوجدن في مكان واحد وفي اللحظة نفسها، لقد كان الأمر أشبه في الكثير من جوانبه، بتجمع الحشرات عند مصباح ليلي.
هل قلتُ حشرات؟
آسفٌ جداً لاستخدام تشبيهٍ مقزز مثل هذا، لكن الحقيقة النتنة التي لا يمكن لي إخفاؤها، تتمثل في الطريقة التي كنا ننظر بها إلى الفتيات يومذاك، تلك الطريقة التي جعلت الفتيات في مرتبة واحدة مع السلع الاستهلاكية التي نحتاجها من أجل مضي الحياة إلى الأمام، أي مثل المشروبات الغازية وأعواد الكبريت والقمصان وحتى كتبنا المدرسية.
كل هذا دون أن نشعر بأي تأنيب للضمير، يريح عن كواهلنا الشعور بالذنب. فلسفة تلخصها مقولة مجهولة المصدر تؤكد أن “الضامن نسوان مثل الواثق بالشيطان”، وربما لهذا السبب على وجه الخصوص لم يكن أحد منا يشغل باله بأي فتاة، غير الفترة التي يكونان فيها معاً. لقد كنا نلخص الموضوع كله في كلمتين:
– أمسك وفك.
ظلت طريقة تعاملي مع البنات، تلتزم نهج الكلمتين بصرامة، حتى تغيَّر كل شيء بعد ذهابي إلى ذلك الحفل، في تلك الليلة الباردة من شهر أكتوبر، التي كانت تصادف ليلة العاشر من الشهر، أي يوم احتفالات “كمبوني” المعروف شعبياً بيوم “عشرة عشرة”.
2
منذ الصباح كان “جون” يلح عليَّ مثل الباعة المتجولين، وأخذ يكرر عليَّ القول نفسه مرة تلو المرة: “يجب أن نذهب الى الحفل الذي حدثتك عنه”.
– هل أنت مجنون؟ إنه يوم عشرة عشرة، وتريد منا تضييع فرصة الفرجة على جميع ألوان الطيف من البنات!
كنت أجيبه محاولاً إزاحة فكرة عدم الذهاب إلى احتفالات “كمبوني” من رأسه، لكنه كان يصر على دعوته بالاقتراح:
– اضرب عصفورين بحجر، لنذهب إلى الاحتفالات وبعد ذلك نمر بالحفل.
إن “جون” عندما يبدأ بالإلحاح من أجل الحصول على شيء ما، فإنه لا يتوقف حتى ينال ما يريد، وأسلوبه بسيط: الإلحاح ثم الإلحاح ثم الإلحاح، مثل قط أصيب برائحة السمك المشوي. غير متأكد من الوفاء بوعدي قلتُ له: “سوف أحضر”.
كان صمت لا أحبه يحيط بالمنزل الذي دلني عليه “جون” صباحاً، وتحت البرد الذي يصفر وجدت نفسي وحيداً أنتظر. شعرت بالارتياح قليلاً لكن شعوراً آخر بالاستياء كان يخالجني أيضاً، ربما لأني وصلت مبكراً جداً بحيث تركت الفتيات الجميلات خلفي، في الوقت الذي وجدت فيه الحفلة ما تزال بعيدة الانطلاق. كنتُ بالضبط قد بدأت التفكير كيف سوف أقضي على هذا الوقت الفارغ مثل قبر مرفوع الغطاء، عندما شرخ صوتٌ ظلام الليل البارد منادياً:
– ماذا تنتظر؟ ادخل.
إنه “جون” وقد وصل أخيراً، أخذت نفساً عميقاً ثم دخلنا معاً.
– يوشك البرنامج أن يبدأ.
أكمل “جون” كلامه ونحن ندخل المنزل “المطرطش” بالجير الأسود، لاحظتُ شيئاً يقاوم النسيان؛ لوحة مذهبة اللون، مكتوبٌ عليها بخطٍّ يدل على إحساس عميق بالخيلاء والكبرياء: (منزل المهندس شول وأولاده)، ورأيتُ كلباً ضخماً يرقد تحت شجرة الجهنمية أمام مدخل الصالون مباشرة، يلف عنقه طوقٌ أسود يجعله مثل أقرانه الذين يظهرون في أفلام الكرتون، ولهم كل صفات الدهاء البشري حتى الكلام.
– يبدو مدللاً جداً.
تمتمتُ بصوت خافت، لكن “جون” رد محذراً:
– إياك من الإساءة إليه، إنه السيد “سكوبي دو”.
رغم الصمت الذي كان ثقيلاً بالخارج، فقد كان كل شيء على وشك أن يبدأ، لقد كان ذلك الصمت، ليس سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة، فبمجرد دخولنا بدأ كل شيء، كل ما سوف يجعلني حزيناً لسنوات مثل النبي “إرميا” صاحب بكائيات “أورشليم”، وما سوف يجعلني سعيداً بابتسامات ماكرة مثل ممثلي هوليوود.
ما الذي حدث بالضبط؟ تبدو ذكريات تلك الليلة مشوشة لديّ، وكلما أردتُ استعادتها يصبح الأمر مثل النظر من خلف زجاج السيارة إلى الخارج في ليلة تمطر، لكنني لن أنسى هذا أبدا: كنتُ أقف وحيداً بالقرب من إحدى النوافذ، لأنني لم أعثر على مقعد نتيجة تأخري، في البداية لفح رأسي شيء من الاستياء، لكن مشاعر الاستياء تلاشت بعد ذلك، فقد وجدت نفسي أنجرف إلى مراقبة فتاة، كانت ترتدي فستاناً أزرق تشوِّش زرقته الموحية بجميع مشاعر السماء والبحر، نقاطٌ حمراء مثل نوار زهرة “الأبوريا”، وكان الحذاء عالي الكعب يعطيها طولاً متكبراً، لكنه يفضح الغطاء عن ساقين لهما لون البن المحمص نصف استواء. وكنتُ كلما وقعت عيني عليها أجدها تبتسم، فأقول لنفسي “إنها تبتسم لك”، رغم أن الحقيقة، هي أنها كانت تبتسم للفتيات والفتيان الذين كانوا يشاركونها المجلس.
كنتُ ما أزال غارقاً في تلك الحالة من الاشتهاء والاندهاش، حتى سمعت سكرتير الحفل الذي كان يتحدث مستخدماً لغة المسلسلات المدبلجة، خالطاً حديثه في بعض الأحيان بكلمات إنجليزية من أجل إسباغ الأهمية على ما يقول، ينادي اسمي ضمن الخمسة المختارين كيما يرقصوا أولاً إيذاناً بانطلاق الحفل.
مَنْ وصل أخيراً إلى ساحة الرقص كان أنا، مع ذلك تمنيتُ لو كنت تأخرت أكثر، حتى أستمتع بالنظر إلى العتاب والزعل الخفيف، وهما ينبشان ملامح أخرى للجمال من وجهها. إنه الوجه الذي كنت أراقبه قبل قليل.
– الـ”دي جي” زعلان مننا الاتنين.
قالت موجهة الكلام إليّ، فتمنيت لو اختفى كل شيء، لنبقى نحن فقط، ولو غضب العالم كله منا. لكن لم يكن من مفرٍ لتنتهي الخيالات، وينقضي الرقص بيننا كذلك، حتى تستطيع العودة إلى حيث تجلس، مواصلة ما قطعته من توزيع الضحك والابتسام، دون أن تدري أنها قضت على هدوء فتى راكد الشعور، وجعلت من العجل الأرعن، الذي هو أنا، حملاً طيع الانقياد، ولأعود أنا إلى حيث كنت أقف، وعبير النعناع الذي خرج من بين شفتيها، رفقة الكلمات الشحيحة التي خرجت أثناء الرقص، وصوت الكمان الذي كان يرافق غناء “سيلين ديون”، يؤكدان أنني لستُ كما أتيتُ إلى ساحة الرقص، لقد كنتُ شخصاً آخر، يا إلهي، لقد وقعت في الحب!
بعد الحفل. لم أنم مطلقاً، وقد بدأ يظهر عليّ أول أعراض الحب، الغيرة التي ساقتني للتخيل أن أحد أولئك الذين كانوا يبادلونها الابتسام لا شك حبيبها، كما كان خاطراً بأن شخصاً ما قد يكون سبقني إلى خطب ودها، بحيث يصبح تفكيري فيها دون جدوى. كانت تلك الخواطر تلح عليّ إلى حد جعلني أحس بحمى شبيهة بحمى الملاريا، تزحف إلى رأسي المهلوس بتلك الفتاة، لكن شيئاً ما قالته أثناء الرقص كان يجعلني أتنفس الصعداء قليلاً، وأعود إلى طريق الأمل كلما تذكرته، قالت والرقص يوشك أن ينتهي:
– ربما تراقصني في عيد ميلادي المقبل، مكافأة على رقصك الممتع معي.
شكرتها على الإطراء مضيفاً ولساني يتلعثم، والتلعثم أيضا إحدى علامات الحب، أن عيد ميلادي أنا أيضاً يصادف شهر فبراير نفسه. ما كنت لأنسى أبداً ذلك الوعد الباهت، ورغم أنها بدأت كلامها بكلمة “ربما” التي تفيد عدم اليقين، تمسكت بالوعد مثل تمسك الغريق بالقشة، وفي رأسه أحلام ضخمة بحتمية النجاة.
في الأيام التالية فقدتُ كل رغبة في المزاح، بل أصبحت لا ألقي بالاً للأصدقاء الذين كانوا يطرقون الباب داعين إياي إلى لعب كرة القدم، وهذا الأمر بالذات هو ما حير أبي، لأنه اجتهد لسنوات من أجل إبعادي عن هذه اللعبة، التي كان يراها لعينة بالقدر الكافي لإبعادي عن حلمه في أن أصبح قاضياً يحظى بالاحترام. أصبحت أمكث في الغرفة لا أخرج منها إلا عند الضرورة القصوى، مثل قضاء الحاجة أو تناول الطعام، وهذ الأخير أصبحت أرفض تناوله على نحو متزايد، لأنه كان يخيل لي في بعض الأحيان، أنني إنما آكل تراباً، لقد كنت بالفعل أهلوس.
أصبحت حياتي تسير على هذه الوتيرة، من الفراغ الشامل يوماً بعد آخر، دون أن أدري إلى أين سوف يقودني هذا الانعزال في نهاية المطاف. هذا الانعزال أخاف أبي جداً، ذات يوم كنت أخرج من الحمام عندما سمعته يقول لأمي:
– أصبحت تصرفاته غريبة! إنها تقلق.
لكن أمي ردت بإجابة غامضة:
– إنهم الأولاد يكبرون.
“أنا بالفعل أكبر” قلت لنفسي، وأنا ألاحظ أن زغباً بدأ ينبت على ذقني. وقت مناسب. إنه الصف الأول، عامان آخران وأدخل الجامعة. إنه بالفعل إكسسوار جميل لتلك المرحلة الزاخرة بمختلف أشكال الوعود، مررت راحة يدي اليمنى على ذقني، “يا ترى ماذا كنت لأفعل به، لو أنه نبت في تلك المرحلة المبكرة من العمر، يوم كنا ندهن وجوهنا بقشور الليمون والبرتقال حتى تنبت لنا لحى وشوارب مثل الكبار؟”، تساءلت بنصف ضحكة.
كان يزيد من عزلتي ويراكمها، أنني لم أجد شخصاً ليشاركني الحديث عنها، أوليس من علامات الحب أيضا، الحاجة الدائمة إلى التكلم حول شخص ما، الشخص الوحيد الذي كنتُ أشعر بالارتياح عند الحديث معه، حول المواضيع التي أعتقد أنها مهمة؛ هو جون وحده، لكن مَنْ أنا حتى أتحدث معه؟
لكن في النهاية حدث ما كان سيحدث، إذ أن قارورة الزجاج لا يمكن أن تظل محتقنة إلى الأبد دون انفجار، كان شهر قد مضى حين تقرر للعزلة غير المجدية أن تنكسر، كان الوقت مساء، ربما السادسة، لأن المسجد القريب كان يرفع الأذان، عندما خرجت من الغرفة قاصداً فقط المرور بالقرب من المنزل المطرطش بالأسود، لقد خرجت دون أن أغلق مشغل الأغاني الذي كان يردد أغنية “القهوة الباردة”(2). كانت الأغنية قد تكررت أكثر من مرة، حينما وجدت نفسي أردد مع الفنان المقطع الذي يقول: “لا أستطيع الانتظار حتى صباح آخر، لا أستطيع، أنا لا أستطيع”.
لقد خرجت ورأسي ثقيل بكل أنواع الخيال والأفكار التي تهلوس بالعاشق.
3
كنت أجلس وحيداً على قبر معطوب الشاهد، بعيداً بعض الخطوات فقط عن الجموع المحتفلة بإحياء يوم الثاني من نوفمبر، يوم الموتى، عندما جلست بالقرب مني فتاة مرتدية عباءة سوداء تغطي جسدها بالكامل، جلست قريبة مني جداً، مسافة بالكاد تسمح للهواء أن يمر بيننا، ومن أنفاسها كان يفوح النعناع، سيما عندما تفتح شفتيها لتغني: “يا ربي، مخلصي، خذهم إلى السماء”، كاد قلبي يطير من قفصه، إنها هي، حتى الحزن، لا سلطان له على جمالها.
إنها هي نفسها مَنْ جعلت الانعزال نصيبي في الحياة، منذ أن راقصتني قبل شهر من عيد الموتى هذا، دون أن تدري كم جال في خاطري سؤال “متى ألتقيها” حائراً دون جواب، تعود لتجلس بالقرب مني، مشتتة أفكاري عن الدعوة للموتى بالغفران، مدوخة رأسي بعبير النعناع، أسأل نفسي: هل سألت هي نفسها كيف أصبحت أنا، لا أشرب الشاي إلا وهذه النبتة الهزيلة، تقف مقلوبة الرأس مثل خفاش داخل كوبي؟ هل سألت نفسها مَنْ هو ذلك الشاب، الذي كان يمشي جيئة وذهاباً، أماماً وخلفاً في الشارع حيث المنزل الأسود على أمل لقائها، قبل أن يفهم الجيران الأمر على نحو خاطئ ويسرعوا، إلى إبلاغ الشرطة أن ثمة من يتربص بممتلكاتهم يتمشى في الجوار؟ هل تخيلت هي أنني كنت سأبقى خلف القضبان أو قل سوف تبقى القضبان أمامي، لأيام وربما لشهور لولا أن حضرة الصول الذي ينادونه بالشيخ الجنوبي، الذي كان أحد أقرباء أمي بصلة دم بعيدة، ويقاسمنا السكن في الحي كذلك، قال وأصابعه لا تفارق سبحته المتآكلة:
– من سجن ابن أخي هذا؟
الأسئلة كانت ما تزال تموج في رأسي، وقد أصبح هو أثقل رأس في الدنيا، كأنه ليس الرأس الذي اعتدت على حمله طوال حياتي، حينما انتبهت أن القس يقدم بركة القداس النهائية، وكنت على وشك أن أغادر عندما انتبهت إلى أن الصوت المضمخ بعبير النعناع يقول مخاطباً إياي:
– أنت كلب حقيقي.
– المهم أن تكوني أنتِ صاحبة الكلب.
أجبتُ.
– أقصد أنك تتصرف مثل مولود حقيقي لبرج الدلو.
قالت والابتسامة لا تفارق شفتيها، ثم أضافت تسأل:
– هل تتلعثم دائما هكذا، عندما تتكلم، هل أنت تمتام؟
-الآن فقط.
أجبتُ.
-لنذهب.
قالت.
ما تلك السعادة التي شعرت بها، إنها لم تقل: “أستأذنك أنا ذاهبة”، بل قالت “لنذهب”. وذهبنا، من الحزن خرج الفرح، هل يشبه هذا لغز شمسون الجبار: “من الميت خرج الحي”.
كان على جميع مَنْ لاحظ كيف أن العزلة التي لم تدم أكثر من شهر، قد جعلت مزاجي مشوشاً جداً، بل ومنحرفاً جداً عن التفاؤل والاعتدال، أن يلاحظ أن شيئاً ما لا بد أن يكون قد وقع، ليغير مزاجي مرة أخرى من الوجوم إلى الإقبال على الحياة، سيما على جميع النشاطات التي غبت عنها خلال العزلة. لقد كان الأمر أشبه بإطلالة الخريف بغتة في منتصف يناير، أو ربما اتهمني البعض بتعاطي أنواع مختلفة من حبوب “الإيفرك” التي تسبب النشوة المباغتة، والحقيقة هي أنني نفسي لم أكن أتوقع أن الأمر قد يكون سريع الحدوث بهذا الشكل، الذي لم أتخيله حتى في أكثر لحظات تفاؤلي مجوناً وجنوناً.
ورغم أننا لم نذهب معاً سوى مسافة قصيرة جداً، بالقدر الذي يساوي فقط المسافة بين القبر، حيث كنا نجلس، ونهاية المقابر غير المسورة، حيث كان ينتظرها أفراد الأسرة من أجل العودة إلى المنزل؛ رغم ذلك؛ هذه المسافة الصغيرة كانت أكبر بأضعاف من تلك التي في أحلامي، تلك الأحلام التي كانت تختصر نفسها في شيء قليل يتمثل فقط في لقائها، لكن الذي حدث هو أنني وجدت نفسي، أقول لها ويدي ما تزال ممسكة بيدها، كأنما الخوف من أن لا أجدها مرة أخرى، كان يوسوس في روحي:
– إذن سوف أراكِ قريباً.
– لا تكن متفائلا جداً.
قالت وعبير النعناع لا يفارق شفتيها.
– لا بأس سوف أنتظر طويلاً.
قلتُ صادقاً.
– لا تكن متشائماً أيضاً.
قالت مبتسمة ثم واصلت الكلام مضيفة:
– ربما ترافقني في النزهة القادمة لـ”سكوبي دو”.
– جميل أن نعيش روح “ناشيونال جيوغرافيك”.
قلتُ ضاحكاً.
– “سكوبي دو” أرفع من ذلك.
قالت بحدة.
– لا أقصد الإساءة.
سارعت إلى الاعتذار صادقاً.
– أنا أيضاً آسفة.
قالت وقد خمد البركان في صوتها.
– ليس هناك ما تأسفين عليه.
قلتُ.
– بل حقاً هناك ما يستحق.
قالت وقد عاد إلى صوتها هدوء البحر، ثم أضافت بصوت هادئ مثل رذاذ مطر سبتمبر اللذيذ.
– لقد نعتك بالكلب لأن هذا الحيوان هو برجك حسب التقويم الصيني للأبراج.
– إذن أنا كلبٌ ودلو.
قلتُ فابتسمت هي.
ضحكنا ثم افترقنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من رواية (حجر أبيض) تحت الطبع
* شاعر وروائي من جنوب السودان