الشعر الآتي.. أو حال الشعر السوداني
(إن الشعر فيه تلك القوة التي تستطيع أن تسقط الأسوار بالغناء)
لويس أراجون
الشعر، أعني الشعر في لبوسه أردية التغيير و… المغايرة، هو فعل مبهر وضاجٌّ في حياتنا، ينمو ويزهر، ليصير وردة مكتملة العافية في زمن السلم. والشاعر نفسه يولد في خميرة السلام، تماماً كما يولد الخبز الدافئ من الدقيق المحايد، فالسلام يتيح أفضل الظروف لتجري التنمية جريانها وتصفو وتسمو شعارات التقدم والحرية والازدهار. إن آلاف الزهور تتفتح لدى مرور أول نسمة للحرية في سماء الوطن، والإبداع يعلو إلى أعلى الذرى في أزمنة الحريات الحقيقية والسلام الحقيقي، فتشمخ، بجموح فتى وعنفوان، أحصنة الشعر وتهب رياحه مدوية وفاعلة ورائعة!
هي، إذن، حالة، حالة كتابة مستقبلية، لكنها أيضاً، هي واقعية، فالخيالي هو الواقعي الأكيد – على قول درويش – ومما لا شك فيه أنها ستحوز السيادة علي صعيد الكتابة والإبداع. هي قصيدة التجربة الحياتية المعاشة، بكل مفرداتها وعناوينها وصورها وإيقاعاتها، بكلمة: هي قصيدة الحياة، الحياة اليومية للناس العاديين، وهي، أيضاً، عنوان حقيقي، جمالي ودال، لمراحل تاريخية معاصرة من حياة المجتمع، تضع رؤاها على الأرصفة وفي الشوارع حيث الناس وأمام الملأ فيشهدوا ميلادها ودورات حياتها نفسها. هي حالة إذن، لكنها تبدو رحماً رحيماً في الناس، تزدهي كل أوقاتها بفيسفاء ملونة وبأكاليل يانعة تتجلى بأجمل ما يكون، في مزهريات مضيئة في شرفات الشعر، فتجدها مزهرة ومزهوة بما يكفي لتصنع فرحها وتكون في الناس، إشارات وملامح تتراقص بموسيقى لغتها، وتؤشر للجديد وللتغيير القادم الذي يلامس المجتمع في تجلياته وفي تغيره وتململه الصاعد إلى أعالي الوجهات الجديدة حيث تكون، هي بذاتها، فعل اللحظة في حياة شعوبها وفي أفق الثقافة ومكون ثقافي لامع يتماهى بالجديد في منظور الحاضر نفسه. وهي، والحال كذلك، في الفعل الحيوي للتغيير الكبير الذي يصيب العالم في بلبال حياته وضجيج دوراته المتنامية؛ ولكن، أيضاً، باتجاه تطورها هي نفسها، هي، إذن، من الملامح الأساسية للتغيير نفسه.
وكيف نراها؟
يقول إدوارد سعيد (النصوص دنيوية)، نعم، هي كذلك، ثم إنها موجودة بالفعل والقوة في قلب هذا العالم، تتفاعل بأقصى حد وبعمق ثر في دنيا الأحداث والصراعات والهيمنات والمقاومات والتناقضات. ودنيوية النصوص هي علة فعاليتها السياسية والتاريخية، فإذا جرّدناها من هذه الدنيوية تصبح كائنات خاملة يظللها ويخالطها السكون، تغدو بلا حراك وبلا حركة، تصبح تيهاً محضاً يتمترس في نصوصيات مغلقة بلا أية دلالات موحية. والحال كذلك، فإننا نستطيع أن نقول، باطمئنان كامل، إن النصوص بصفة عامة – ويعنينا هنا الشعر بصفة خاصة – لا ينبغي أن تُعزل عن ظروفها وسياقاتها والأحداث التي جعلت منها شيئاً ممكناً، وذلك ببساطة لأن النصوص هي في ذاتها دنيوية، وهي أيضاً أحداث، بهذا القدر أو ذاك، وهي فوق ذلك كله، جزء من العالم الاجتماعي والحياة البشرية نفسها. إذن، يتوجب أن يُقرأ شعرنا الراهن وفق هذا المنظور، بفهم وبوعي عميق لمحيطه وإحداثيات الحياة من حوله.
وجه الشعر، وكيف يبدو؟
الآن، كما يترأى لي، فإن الشعر السوداني، وفي غير السودان، في مفترق طرق، وللحق يمكننا أن نقول: إنه اختار أن يخطو خطاه الواثقات بجسارة في وجهة مغايرة تماماً لمألوف الشعر عندنا، شعر مغاير وبرؤى جديدة ذات فرادة وابتكار، يخوض في تجاريب الكتابة، إنها وجهة جديدة، وللجديد، دائماً، في عرف الناس ومسلماتهم دهشة المسافة، تقف كعمود الملح أمام تطور القصيدة، تنهض، فجأة، أمامها عراقيل شتى، وهي تشق إليها طريقاً خاصاً بها إلى حيث منابع الإبداع وتخومه وشمسه الساطعة. هذا الواقع الملتبس يشكل، في ذاته، تحدياً صارخاً ومباشراً أمام الشاعر؛ وبالأحرى يصدمه بعنف كثير صقيل حد أن تهتز منه شعريته وذخائره المعرفية كلها، فإما أن يدع قصيدته تسير سيرها في وجهتها “القديمة”، أو أن يخرج بها في الملأ على غير ملامحها، في وجهة “حداثتها” المفترضة غير المألوفة، المغايرة تماماً لما هو سائد، فتثير الرعشة في جسد الحرس القديم، تستفزه حد أن تستنفره، في ذات الوقت، لكيما يقف أمامها، ساداً إليها مخارج انطلاقها ودروب سيرها وتطورها النامي باتجاه المستقبل، مستقبلها كقصيدة جديدة تطلع، كما الشهب، باهرة ومتوهجة في فضاء الشعر عندنا. وهي، إذ تفعل ذلك، تنفك من عقابيله كلها فتذهب إلى ذراها المشرقة بالبهجة والمعرفة والسمت الفريد. إن الشعر قد أدرك، بجلاء البصيرة النابهة، أنه لا يوجد شعر حقيقي خارج المحظور، ولا إبداع خارج الممنوع، فالإبداع هو انتهاك دائم للمألوف، وتعد على ميراث الأجوبة النهائية. إنه حالة عصيان فكري، لذا على من يطمع في إبداع شاهق يخترق سقف الحرية، أن يكون جاهزاً لكل شيء، بما في ذلك الموت مقابل حفنة من الكلمات – على قول مستغانمي. فالشعر، الآن، في مرحلة تحول عميق، وهو ليس تحولاً في طرائق الأداء وأساليب الكتابة وحسب، بل، هو أيضاً، تحول في الرؤية نفسها لكيما يروض العالم المفتت ليجعل منه وجوداً متماسكاً، وينشط، في ذات الوقت، بفعالية تجعل من الوجود نفسه أطروحة فكرية “مقذوفة” باتجاه مستقبل مضيء، يراه ويستشفره ويستغرقه، وهو إذ يفعل ذلك يخرج برؤياه من الأطر الثابتة والجواهر المستقرة، المطمئنة لوجودها لدى عرف الناس، وانتساباً، في ذات لحظته، إلى حيث التاريخ والأعراض المتحولة. الآن، كما نرى، أن هنالك وعياً جمالياً بدأ يتكون ويتجوهر ويتخلق في رحم الشعرية لدينا، وهنالك، أيضاً، وعي معرفي آخذ أيضاً في التكون. لقد بدأت القصيدة تفزع لتختلط اختلاطاً ثرياً بالحياة المعاصرة بكل تعقيداتها وصراعاتها واتساع معرفتها بالوجود.
ليست خلاصة، إنها تفكرات…
لعله – إن صح ظني – أنه منذ بداية الألفية الثالثة من عمر البشرية، دخلت تجاريب الشعر إلى مناطق عميقة الغور في الذات، حيث صارت “ومضة” الشعر الخاطفة تطلع من الدواخل ومن بين الشغاف، حد أن قيل – وذلك ليس كله قولاً زائفاً – إن الشعر هو ما يصدر عن الذات وما عداه ليس معدوداً فيه! اندثرت، بفعل التقدم الهائل والتقنية المتطورة، نظريات ومدارس وأنظمة فكرية عدّة، ومثلها حدث للأدب والشعر والفن بضروبه جميعها، انتهت من عالمنا المدارس كلها تقريباً، فغدت من الكلاسيكيّات والتاريخ الأدبي، فأصبحت القصيدة هي – وحدها – التي تحدد شكلها وسماتها وصورها ولغتها أيضاً، أصبحت كائنة من ذاتها، من ذات نفسها، هكذا – كما أرى – بدأت مرحلة جديدة في الشعر وفي توجهاته أيضاً؛ لكنني، وأنا أقرأ بعضاً من الشعر هنا، أبحث فيه – رغماً عني – عن الحدس! ولعله من المعلوم أن الحدس إدراك حسي للأشياء والأفكار والصيغ، وهو رؤية البصيرة إذ تكون في الإبداع وتتوفر عليها ذائقة المتلقي، إذ يكونان، كلاهما، المبدع والمتلقي يستندان إلى مهد الحدس في محاورة الأثر الفني. يقول كروتشه: “ثمة معرفة تأتي عن طريق التصور والإدراك الذي تُفرزه المعرفة العقلية، وعن طريق الإحساس، وهو نفسي ذاتي، ويتم تفاعل الإدراك مع الحس، أو تفاعل التصور مع الصورة عن طريق الحدس”. هكذا، كما نرى، يكون الحدس عالقاً في الصورة الشعرية، في شكل القصيدة، وشيء منه غير قليل في لغتها أيضاً. وأذكر أنه، قبل ألف عام تقريباً، قال أبو حيان التوحيدي شيئاً مثل هذا في (الإمتاع والمؤانسة)، مفسراً الإبداع بأنه: “ينبعث من أول مبادئه، إما عن عفو البديهية، وإما عن كد الروية، وإما أن يكون مركباً منهما”؛ فالحدس إذن، هو بديهة وروية، إدراك وحس، صنعة ما، وصدفة، واقع وخيال، حقيقة ووهم، علم وشعر، وهو في مجال التلقي ذوق سليم ونشاز، معرفة علمية ومعرفة فنية، هو تقليد ودهشة، متوقع وغير متوقع، برهان وتأويل… أبحث عن الحدس إذن، لأرى كيف فيه يتآلف الانشطار مع الالتحام، فأحس بذلك الحوار المثير المستمر في سمت القصيدة، لا حدود لتأويله ولا لتحليل شفراته، الظاهرة منها والمستترة، أليس جميلاً أن نكون في متعة التأويل نفسه إذ نمسك بالحدوس في جسد القصيدة؟
لنتأمل، إذن، وجه القصيدة في سوحها الناعم في هذا البراح، هنا، حيث نسعى، ونحن نتوجه صوب تلك الذرى لنرى وجه القصيدة وملامحها الجديدة مثلما نمعن النظر، في ذات الوقت، لنرى الملامح كيف تبدو في القصة والرواية والتشكيل والمسرح وفي الغناء والموسيقى، لنرى و ونتأمل، إذن، ونكتبها رؤانا.
* شاعر وناقد من السودان