خطاب الرواية الحديثة وتوقع أُفق التلقي
(إنَّ غاية الفن هو نقل الإحساس بالأشياء كما تُدرَك وليس كما تُعرَف، وتقنية الفن هي إسقاط الأُلْفَة عن الأشياء أو تغريبها وجعل الأشكال صعبة، وزيادة صعوبة فعل الإدراك ومداه، لأنّ عملية الإدراك غاية جمالية في ذاتها، ولابد من إطالة أمدها، فالفن طريقة لممارسة تجربة فنية الموضوع (CHOKLOVSKY)
انطلاقا من المبدأ الذي أرساه شكلوفسكي فإن الفكرة من إنتاج الأدب ليست بالضرورة عملية سهلة ولا تقوم على نقل الأفكار بيسر لمتلقيها وهي بذلك تستهدف القدرات التي ينبغي اكتسابها من قبل المتلقي حتى يصل إلى غايات النص وفق معارفه وظروفه النفسية والاجتماعية، فمسألة تغريب الأشياء وإسقاط الإلفة عنها تقتضي نزوعا نحو إيجاد قواميس جديدة والإتيان على القوالب الجاهزة بمعاول تكسرها وتعيد بنائها في صورة أخرى مغايرة قد تؤدي الغرض ذاته وقد تنأى عنه إلى إنتاج أغراض جديدة. وهذا يجعلنا نهتم بالانتصارات والفتوحات التي حققتها مناهج الحداثة وما بعدها وذلك بنقلهما لمجال الاهتمام من الكاتب والنص إلى المتلقي والقارئ باعتبارهما طاقة محتملة من المعاني في تعدديتها. سواء تم ذلك على يد “جمالية التلقي” أو على يد غيرها من المغايرات الأخرى.
ولعل تلقي الأدب بصفة عامة يواجه بعض المشكلات من مثل سيميولوجية القراءة، بلاغة القراءة، سوسيولوجية القراءة، ظاهراتية القراءة، نقد استجابة القارئ، أسلوبية القراءة.حيث ان العناصر المذكورة تقتضي في وعيها تسلح المتلقي بجملة مفاتيح معرفية وإدراكية تقوده الى الإفادة من هذه العناصر حتى يحقق الغرض من القراءة والتفاعل مع النص.
وبذلك يمكن لنا الإدعاء بأن المبدع / الكاتب سواء كان ساردا أو شاعرا فإما أن يملك المعرفة الكافية التي تمكنه من إنتاج نصوص تستوعب كل معارف المتلقي وإمكاناته وخبراته وإلا فعليه مغادرة الحلبة معترفاً بعدم القدرة، ذلك لأن الثقافة بدالّها ومدلولها إما أن تكون عميقة أو لا تكون. وما يجب علينا فهمه هو أن الأديب الكبير لا بد أنه مثقّف كبير. فإذا ما أخذنا بهذا القول في الأدب الذي يعبر عنه لفظاً سنجد أن جمال الأدب ما هو إلا مواجهة ضمنية بين فكر الأديب واللغة التي يستخدمها للتعبير عن أفكاره بحيث تتلاقى أنظمة اللغة مع ثقافة الأديب وهذا يعني أن العلامة اللغوية لحظة دخولها إلى خطاب الأديب فإنها تدخل بكل حملها الدلالي الذي يشكل ثمرة الخطاب الذي انتمت إليه العلامة تلك مع الوضع في الحسبان تفاعلية المتلقى مع هذه الدلالة إذ هي في أحايين كثيرة متواضع عليها اجتماعياً ومرتبطة بثقافة جماعة ما في شراكة بائنة بين الأديب والمتلقي تبدأ من لحظة يكون فيها المتلقي خارج النص يصغي إليه ويتلقى منه المعلومات كما أرادها الأديب وتتطور هذه الشراكة تدريجياً حتى تبلغ مرحلة الاستعارة والتي تكون فيها الهوية الواقعية للعبارة قد انتفت تماماً وصارت بذلك هويتها احتمالية – بمعنى أنه لم يعد للعبارة عالمها المرجعي – وبذا تنتج العلاقة الذاتية بين المتلقي والعمل الفني وليس المنتج له. وبهذا يكون المتلقي قد اكتسب لنفسه خاصية جديدة بموجب شراكته مع العمل الأدبي بحيث يكون قد انتقل إلى عالم مختلف له فيه ما للمؤلّف، وإن كانت رؤيته فيه رؤية من الدرجة الثانية تشتغل من داخل آليات اشتغال رؤية الكاتب. وإذا كانت لذّة المؤلّف كامنة في الإمساك بالمتلقي والسيطرة عليه داخل خصوصيّة تشكيله العالم، فإنّ لذّة المتلقي كامنة في الحريّة التي أُعطيت له داخل ذلك التشكيل، فبات بمقدوره أن يرى فيه تشكيله الخاصّ به.
وبذا فإنّ اللذّة التي يحصل عليها كل منهما – الأديب والمتلقي – تصبح ارفع وأرقى كلّما اقتربتا من الدرجة التي يكون لكلاهما حق اعمال مخياله في النص، ومن هنا تسمو الأدبية وتتحق للعمل الفني حياته. وهذا ما يبرر حسب رأينا اننا دائماً امام تصور ما؛ ذلك التصور هو أن النص يتميزعن مؤلفه وفق عدة معطيات أهمها بالتأكيد قراءة المتلقي له والتي تتحرك صعوداً وهبوطاً بالنص وفق متغير أساسي هو الزمن وهذا ما يجعل من التأويل سلطة مفتوحة لتغير دلالات النص من حيث القراءة والتلقي. وحسب بول ريكور فإن محاورة النص هي إنتاج مشترك لحقيقة تشغل الأفراد وتؤسس تاريخهم ومصيرهم المشترك. هذه المشاركة لا تنصب فقط في محور واحد بل تنفتح على إنتاج تصورات وصياغات مفاهيمية متعددة وفق معانٍ جديدة تنتجها هذه المحاورة. ومن خلال هذه المحاورة يمكننا أيضاً أن نستجلي حقيقة أفادتنا من التاريخ كعلاقة تحاورية تنبني في الأساس الأول على الفهم الذي يتصل بالآخر التاريخي مما يؤهلنا إلى مساءلة حاضرنا وصياغة أسئلتنا له وفق ما هو مفهوم.
من هذة المقدمة يمكننا أن نعرج إلى جوهر المسألة لنلخص مفهوم التلقي في محاوره التالية:
خبرة المتلقي وذوقه الجمالي:
لا تنحصر مهمة المتلقي فقط على مسألة القبول أوالرفض، بل هي مهمة تقتضي البحث والتنقيب وإعمال كل ادوات الفكر ، وليس كل متلق قادر على كشف الدلالات التي تحتويها صورة محدده بمجرد استخدامه لفكره الخاص ، بل ان العمليه تتطلب قدره كبيره على إدراك العلاقات في مجال الصورة. فخبرة المتلقي ” تقوم في الأصل على معيارين – معرفي وذوقي – وبذا فإن خبرة المتلقي القائمة على معارفه وذوقه الجمالي هي ما يمكن اعتباره وسيلته لاستكشاف العناصر الجماليه في النص.
فعملية التلقي في أصلها عملية مشتركة يشارك فيها صاحب النص بتجربته وادواته ، واللغة بدلالتها التي تحتمل التحول ، والمتلقي بخبرته الفنية وذوقه الجمالي. وبذلك تجد ان عملية التلقي للنص ربما شابهت شكل الهرم بحيث تبنى قاعدته من المنتج والمتلقي معاً بينما يكون النص في قمته.
مستويات تطور المتلقي:
ساهم الانتشار الواسع للنصوص الجمالية عبر الوسائط المتاحة الآن في رفع مستويات التلقي وذلك أنه أضحى بإمكان المتلقي أن يقوم بعملية اختيار النص المناسب لذوقه ( رواية أو غيرها) ومن ثم قرائته ومحاورته بحسب قدراته، ومع توفر النصوص وإمكانية تكرار تجربة القراءة أصبح من الممكن للمتلقي بناء قاعدته المعرفية التي تمكنه من المشاركه في نقد الأعمال الفنية. وهذا فقط لأنه قد امتلك بعض المعايير الجمالية التي تؤهله للانخراط الفعال في المسيرة الأدبية، مما أجبر الكتاب على الاحتياط واستحضار مستويات القراءة المحتملة قبل الشروع في إنتاج النص، وبفضل وجود المتلقي واستبطان أفق تفكيره لحظة الكتابة فإن الرواية تحديدا أصبحت مرغمة على إنتاج تغييرات ملحوظة على مستويات لغتها والتخييل والموضوعات التي تطرحها، فعلى مستوى اللغة مثلاً فقد انتقلت من مرحلة رصف الكلمات واستخدام اللغة كأداة لتوصيل المعنى إلى إنتاج دلالات جديدة وتحويل اللغة في بعض مستوياتها إلى عامل جمالي يساهم في المعمار الجمالي للنص، أما على مستوى التخييل فلعله من الظاهر أن معظم الكتابات الروائية الحاضرة قد جعلت من الغرائبي مادتها لنقل مفاهيمها وفلسفتها ولعل هذا كله قد ساهم بوضوح في نقل المتلقي من دوره السلبي القائم على الاستهلاك إلى دور آخر إيجابي بالضرورة وهو مشاركته الفاعلة في بناء النص بما أجبر عليه الكاتب من التزام تجاه مستوى معارف المتلقي علاوة على محاوراته الذاتية للنص وتأويله بمقتضي قدراته الذاتية لتتعدد بذلك قراءات النص الواحد والأمر – أمر التأويل – غير متروك على عواهنه هكذا بدون ضوابط، أما تقوم العملية بما يمكن تسميته بالعملية التوضيحية للمعاني الكامنة أو الخفية، وبذلك لا ينبغي للتأويل أن يقتصر على إيجاد معنى واحد وربما كان هذا المعنى سطحياً ولأن إدراك المعنى يأتي دائما من القراءة، فإن إعادة القراءة تعتبر من الأمور التي تمكن من تعدد المعاني واكتشاف إحالات جديدة للمعنى عند كل قراءة وهذا الإدعاء يبرره أن التأويل مشروط ببنية المعاني التخييلية، وبذلك فإن تعدد القراءات حتماً سيفضي إلى تعدد حالات التخييل والتي تؤدي بدورها إلى تأويلات ربما انتهت إلى معنى جوهري – هذا المعنى الجوهري قد لا يطابق مراد المؤلف بمقدار ما يوافق فهم المتلقي.
طبيعة بنية النص وفهم المتلقي له:
من الضروري بمكان أن تكون هناك طبيعة معقدة يمكن اعتبارها حاضناً للبنيات النصية، وبرغم أن النص يحتوي مجموعة من الدلالات والإشارات المعرفية –أيا كانت طبيعة النص – إلا أنه لا يستطيع الإيفاء بغرضه ما لم تكن هنالك استجابة فعاله من متلقيه، وهذه الاستجابة لا يمكن حصرها في تسليم المتلقي بمقولات النص وأفكاره بينما من الضروري أن يشارك المتلقي هذا في محاورة مفاهيم النص من خلال تحليل خطابه ومحاورته على مستوياته الأفقية والرأسية وبذلك يظهر لنا أن البنيات النصية عند تحليلها تخييلياً فإنها تتمظهر في وجهين تقريباً:
أولاً: الوجه اللفظي الذي لا يمكن أن يكون اعتباطياً لمجرد وجوده داخل أي متن أدبي وبذا يجب التعامل معه باحترافية وإبعاد أي احتمال يقول بعدم القصدية، أو أن اللفظ المحدد لم يخدم فكرة النص، أو أن الدلالة المرجوة لم تتحقق بسبب من خيانة العبارة، وربما سنحتج أن ليس من عبارة ترد في أي سياق أدبي هي ليست مقصودة ولا تؤدي إلى غرض.
ثانياً: الوجه التأثيري؛ وهو ما يقوم من تفاعل بين بنية النص في صورتها الدلالية وتعاطي المتلقي معها حيث إن البنية اللفظية ربما انحرفت عند المتلقي عن الدلالات التي أرادها المؤلف بناءً على قدرات المتلقي التأويلية، فينتج من ذلك مستوى من التأثير من المتلقي على النص. وعلى ذلك فإن وصف التفاعل بين الوجهين اللفظي والتأثيري يجب أن يجسد في ذات الوقت بنيتي التأثير (النص) والتجاوب (المتلقي).
فالنص في أصله أفكار وتصورات وبالتالي لا يمكن تلقينه للمتلقي وإنما يتم إدراكه حسياً وهذا الإدراك يتوقف في البدء على قدرات المتلقي كما يتأثر أيضا ببنية النص ذاته. وهذا ما يجعلنا ندعي بأن فهم النص يتطلب من المتلقي امتلاك أفق من الانتظار المرن وقدرة على المراوغة في مسايرة التوجه العام للنص بحيث يتمكن خلال ذلك من مراكمة افتراضات تأويلية تسير موازية للمتوالية السردية ومقاطعة لها حيناً، فالنص مهما ضاقت رقعته أو اتسعت لا يساوي بحال استخلاصات المتلقي حيث إن المتلقي لا يكتفي بمطاوعة المؤلف والالتزام بما هو مكتوب، بل يتجاوز ذلك إلى تضمين افتراضاته التي أحصاها أثناء عملية القراءة.
وفي ظني هذا هو ما عناه رولان بارت حين صرح بفكرة موت المؤلف حيث لم يكن يقصد الغياب الكلي للمؤلف وخروجه، وذلك ببساطة أن هذا الزعم كان قد تبنته قبله المدارس الشكلية في انكفائها على النص وحده وقد صرح به كذلك دريدا في قوله (لا شيء خارج النص) ولكن بارت كان يسعى للتأسيس لفكرة أن النص لم يعد منغلقاً على فكرة مؤلفه المحضه بل انفتح على احتمالات أخرى للتلقي يدخل من ضمنها القارئ مشاركا بخبرته ومعارفه والمؤثرات الاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمع مكان النص، وعليه ليس من الممكن لمؤلف مهما بذل أن يحكم قبضته على النص، خلاصة ما يمكن القول به أن النص نسق كامل من العمليات والتراكيب ويقع داخل هذا النسق مكاناً يخص المتلقي، بحيث يدخل من خلاله ليعيد ترتيب جزيئات هذا النسق وتراكيبه بما يخدم فهمه للنص بذا فمسألة فهم النص وتحقيقه للتفاعل مع القارئ، تقتضي تمكنا من وحدة النص والاستجابة لمتطلباته، وبمعنى أكثر وضوحاً فإن تأويل النص الإبداعي يعني اتباع النهج الذي يفتحه هذا النص.
من جملة ما ذكرناه سابقاً فإن عملية التلقي لم تعد هي تلك العملية الاستهلاكية المحضة، بل هي عملية مشاركة فاعلة من القارئ، يدخل فيها إلى النص من خلال ما جمع وامتلك من خبرات ومعارف، وبذلك لا يسلم بظاهر ما قال به العمل الأدبي، بل يحاور النص بطريقة تمكنه من تأويل مقولات النص ومحتواه المعرفي وبالتالي لم يعد مؤلف النص هو السلطة الوحيد في إنشاء مفاهيم النص فمشاركة المتلقي وتفاعله مع النص المنتج ربما وضع المؤلف في مأزق أن يتوقع القدرات النقدية والتفاعلية المتوفرة لمتلقيه وهذا يجعله أمام تحد كبير، هو أن المتلقي صاحب فكرة أصيلة في النص المنتج.
أخيراً بقي أن نستعرض بعض النماذج التي نرى أنها قد استوعب أشراط الحداثة في تفاعلها مع المتلقي.
رواية “أشباح فرنساوي” لمنصور الصويم:
لعلنا إذا ما تتبعنا الخيط السردي لمجمل كتابات الصويِّم السردية، نجدها لا تلتزم التقنيات السردية المألوفة، بل تنزع دائماً إلى انتهاج طرائق وتقنيات جديدة كلياً، حتى إنها ربما احتاجت إلى دربة خاصة للمتلقي، حتى ينفذ إلى مغزاها، وهذا بالضرورة من العلامات التي تؤكد على نضوج المشروع السردي ابتداءً، بجانب الموضوعات والقضايا والأسئلة التي يثيرها إنتاجه السردي، فمع اتسامها بالجدة، فهي أيضاً قضايا بالغة التعقيد، ويظهر ذكاء الصويِّم في أنه لا يقترح حلولاً في كل مسروداته للقضايا التي يثيرها، بل يُشرع باب الأسئلة التي من شأنها أن تفتح الفضاء للتلقي بحسب معارف القراء.
في (أشباح فرنساوي)، فإن أول رهانات الكتابة هو ما تعمده الصويِّم من لغة مخادعة، ترتفع بقارئها حيناً إلى مصاف لغة “أهل الأحوال”، ثم رويداً رويداً تقربه من لغة اليومي، وظني أن التحولات في هذه اللغة ليست عفوية، بل تعمدها الصويِّم ليشير بها إلى أن هذا العمل لا يلتزم الطرائق المألوفة. وتبدو قصدية الصويم في حركة شخوص الرواية، التي تكاد تضع كل الشخوص في موضع البطل، فبرغم ما يظهر من أن “محمد لطيف” ربما يكون بطل الرواية، إلا أن المتلقي سرعان ما ينتقل ليجد أن المكان بانتقالاته بين نيالا، السامراب، الفتيحاب، جريدة الزمان، قسم تكساس جنوب، هو أيضاً بطل من أبطال الرواية، وأن “بشير”، والملازم “ياسر”، وسيادة العقيد، والعاهرات، و”حنانة” الصغيرة المغنية، وشلة بيت السامراب، ومعهد جوته، ومثقفي أتينيه، كل يؤدي دور البطولة بحسب اللحظة التي يتأسس فيها خطابه داخل النص، وربما احتمالية أن يكون كلٌّ من هؤلاء بطلاً، قد مكّن الصويِّم من إدراج مقولات الرواية وفلسفتها بسهولة، تمكِّن من استيعابها وهضمها بذات اليسر الذي تتحقق به المتعة في متابعة السرد.
لا يمكن بأي حال الوقوف على فصول الرواية وتشريحها نقدياً، ما لم يُفهم أن الرواية (أشباح فرنساوي) تؤخذ كلياً، باعتبار أن الفصول تتصل ببعضها، ليس على مستوى موضوعاتها فحسب، بل أيضاً على مستويات لغتها وتقنياتها وزمنها، مع بعض التقاطعات المكانية بين الفصول، هذه قطعاً قيمة إضافية تضاف إلى العمل، بحيث تجعل السرد متصلاً غير منفصل، وقد مكّن من ذلك استخدام نصف الدائرة في زمن الحكي، في صعود تدريجي يهبط بذات التدرج ويمضي بعد ذلك في استقامة يبدأ بعدها بالصعود، هذه التقنية في تحريك زمن السرد تعد نادرة جداً، وربما هي من الطرائق غير المستخدمة إلا في قليل من الأعمال السردية فتحت الرواية جملة مسارات واستفهامات حول قضايا متعددة، فهي -الرواية- وفي بعض أسئلتها، قد استطاعت مناقشة البنى المجتمعية المتفككة، وتصدعات وتهتك من هم سلطويون، تمثلهم شخصيات: الشرطي، القاضي، بائع العقاقير، التاجر، وغيرهم، كما أن الرواية قد استطاعت وبوعي كامل فتح مسار الأسئلة حول علاقات العمل، ومسألة الاستخدام القائم على المحاباة دون الكفاءة – راجع المدقق اللغوي في مهامه شبه المستحيلة ومحاولة فرض سكرتير التحرير سلطته ثم حواره الحاد مع رئيس التحرير.
هذه الرواية في ظني تجربة سردية حديثة، تتحرك بقارئها أثناء محاورته لها في أفق من الانتظار طابعه الدهشة والمتعة، إذ أن النص يسمح بتوسيع واقع القارئ وأفقه التوقعي من خلال الانتقالات المتعدده من مشهد الى آخر دون اتباع خارطة مشهدية منتظمه ، مما يجعل اولى مهام القاريء هي محاولة ربط هذه المشاهد القارئ، انطلاقا من قراءته لمقاصد النص وخفاياه الجمالية من خلال سياقات جمالية حولها الكاتب بذكاء إلى خطابات محكية تؤسس للحدث المشترك بينه وبين المتلقي،
أولاً: فقارئ هذه الرواية، سيجد نفسه في مواجهة نص تتحقق من خلاله حالات من اللّذة وحب القراءة، من خلال:
جمالية التلقي المقترنة بالدهشة الفنية، التي يحصل عليها قارئ هذا العمل السردي، فيتأثر به ويتفاعل معه في الآن ذاته –جماليا- بمعزل عن العملية الإدراكية.
ثانياً: التأويل الاستعادي الذي يتحقق للقارئ وفق قراءة استعادية تهدف إلى إعادة ترتيب الفهم بحيث يبرر القارئ من خلالها دهشته وكشف الأفعال الكامنة في هذا النص السردي.
ثالثاً: التلقي باعتماد التاريخ كمفتاح لعملية التأويل، بالإعتماد على كشف عناصر التنظيم الزمني والموضوعي للنص، خصوصاً وإن هذا النص السردي الذي نحن بصدده يراهن على رؤية وموقف فكري يمتزج فيهما الخيالي بما هو واقعي والاجتماعي بما هو سياسي وكذلك الأسطوري بالديني مما جعل من تداخل الأحداث والشخصيات وتكرار المشاهد وتباين المواقف من أهم العناصر الجمالية التي خدمت علاقة التبادل والتفاعل مابين النص ومتلقيه في ما يشبه التنبيه بقضية الوجود والتي هي أساسها الإنسان، بما تثيره من رغباته وميولاته وأحاسيسه المتباينة إزاء مواقف دقيقة ومعقدة كالموت والحب والسلطة، بلغة سردية مثيرة، وبأساليب محكمة ساهمت في تزويد الأحداث بطبيعة سردية جعلت أمر تلقيها ممكناً.
رواية “رماد الماء” لعبد العزيز بركه ساكن:
هذا النموذج حسب ظني يحمل كل سمات الحداثة في الرواية، ولعله أيضاً يعتبر من متلقيه مشاركاً في الفعل ولم يضعه في موقع المستهلك، فرواية “رماد الماء” لعبد العزيز بركه ساكن التي صدرت في طبعة مستقلة ثم بعد صدرت كجزء من “ثلاثية البلاد الكبيرة”، لا يمكن تلقيها دون سابق دربة في القراءة، ولعلك لو تتبعت سير النسيج السردي فيها لوجدت أن الرواية إفادت كثيراً من التقنيات السينمائية في تقطيعها المشهدي وانتقالها بالمشهد من مكان إلى آخر في جملة فصولها الأربع عشرة، وبرغم أن التي جعلها الكاتب مبتدأ للفصول كل على حده قد سهلت كثيراً على القارئ بأن جعلته يتهيأ للانتقال إلى فضاء جديد، إلا أن تقنية الرواية ككل لم تكن مما تعوده القراء وربما جعل مهمة بعضهم غير يسيره خصوصاً إذا وضعنا في اعتبارنا ما ذهبنا إليه سابقا من أن التلقي كعملية لا بد لها من خبرات سابقة ومعارف تستند عليها، هذه الرواية فتحت أفقاً جديداً للتخييل وأتاحت للمتلقي أن يفيد من كل تجاربه الحياتية فهي (الرواية) قد اتخذت من كل أشكال الفنون المعروفه طريقاً لها في بلوغ أهدافها، ولعلنا نلحظ أنها ضمت في تقنيتها الصورة، ولغة الشعر، والموسيقى، وشريط السينما، فهي أقرب ما تكون إلى نص مفتوح. يقول بركة: “قطط مشوية، قردة مشوية، صقور مشوية، أرانب مشوية، أسد، كلب، قط، ولد، ولد، ولد، نساء مشويات ينمن قرب جنائز الآلة، أشجار مشوية، أحذية عليها بقايا أرجل بترتها الألغام، عسكر اموات، مقابر جماعية، هاونات معطوبة، جندي محترق نصفه الأعلي ، نصفه الأسفل في الخندق، سحلية لا رأس لها، خوذ حديدية بداخلها رؤوس، حراب ودروع من جلد وحيد القرن، نمل شديد السواد منكمش علي نفسه”. يبدو هذا المشهد وكأنه مشهد سينمائي كامل، يعتمد في تلقيه على الصور الذهنية المختزنة عند المتلقي بموجب معارفه وخبراته السابقة، ولعل من خبروا الحرب سيكونون أكثر تفاعلا مع هذا المشهد من الذين لم يشهدوا حرباً من قبل ذلك ان المشهد لا ينطوي فقط على صورته الأفقية هذه بل يحيل إلى حالات الرعب، أصوات الرصاص، صراخ الأطفال، عويل النساء، النتائج ومحصلات الحرب؛ ليست هي المقصودة بذاتها، بل الفعل نفسه وما ينطوي عليه من بشاعه؛
في هذه الرواية لم يجعل بركة من متلقيه محايداً أو مستهلكاً بل أشركه في تأسيس الفكرة المرجوة من النص، والملاحظ هنا أن الجملة السردية في “رماد الماء”، برغم تكثيفها إلا أنها تفتح أفق المتلقي على جملة أسئلة تبدأ من اللحظة التي يقوم فيها المتلقي بمساءلة النص عمّا الذي تسبب في كل هذا الموت، الرصاص، والجثث؟ ليرجع إلى الوراء قليلا متخيلا صورة الحرب، كفعل لا كنتائج، وهذه العودة بدورها تقود إلى سؤال أكبر من ذلك وهو ما الداعي أصلاً لقيام حرب؟ لينفتح على احتمال إجابة ربما وفرتها صورة “سلطان تية” المرسومة بدقة في الرواية، وهي ما يتعلق بفكرة الهوية، الاستلاب والتي تظهر بوضوح حين تحدث الرواية عن عملية التهجير. علاوة على ذلك لا بد من الإشارة للطرائق التي انتهجتها رواية رماد الماء تقنياً، فهي (رماد الماء) قد استخدمت منهج تقديم النتائج على الحدث وهو ما يمكن تعريفة بمصطلح flash-forward، كما أن تكرار المشهد الافتتاحي للرواية ذاته في آخرها لم يكن اعتباطيا بمقدار ما خدم استخدام الكاتب لتقنية الزمن المستدير (الزمن الدائري) الذي يُقرأ تأويليا على أن الكاتب من خلاله يريد إيصال فكرة أن الحادثات لا بد أنها متكررة بما كانت عليه.
عملياً تتوفر رواية “رماد الماء” على مجموع الأسئلة المرتبطة بقضايا الهوية، التهميش، وشبهة التطهير العرقي. لكن هذه الأسئلة لا يمكن إدراكها بصورتها المطلوبه ما لم يحقق المتلقي المستوى المطلوب من المشاركة في النص، وبصورة أكثر شمولا ما لم يكن للمتلقي من المعارف والخبرات عن مثل هذه القضايا بحيث يمكنه الانتباه إليها بمجرد استخدام إشارات تدل عليها، فإنه لا يستطيع أن يبلغ مرمى الرواية. ما يمكن قوله إن رواية “رماد الماء” قد انتهجت منهجاً يقربها من أن تكون نصاً للمتلقي أقرب منه إلى أنها نصاً للكاتب، وذلك أن تفاعل المتلقي معها يفتحها على آفاق أوسع، ويرجع ذلك إلى أن لغة الرواية برغم ظاهرية بساطتها إلا أنها احتشدت بمعاني ودلالات تتعدد بتعدد القراءات لها، وبذلك يمكن أن تتعدد تأويلاتها حسب ظروف التلقي لها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
*ROLAND PARTHES -The pleasure of the text 1973 – Published: edition du seuil- P 18
*Victor choklovsky: theory of the prose 1925O- P 56
*Paul Recoer: time and narrative 1980- p27
بول ريكور – الإنسان الخطأ – ص 68
بول ريكور – نظرية التأويل – الخطاب وفائض المعنى – ص 32 و 47
منصور الصويم – اشباح فرنساوي – رواية 2014 *
*عبد العزيز بركه ساكن – رماد الماء – ثلاثية البلاد الكبيره – 2009
* كاتب من السودان