يعاود شومسكي في هذا النص، الذي يلخِّص مضمون المحاضرة التي ألقاها في جامعة كولمبيا، 6 ديسمبر 2013، الاشتغال بعُمق على قضايا الإنسان وإشكالات الوجود البشري. فهو يحاول، من خلال طرح التساؤل عن ماهية الخير العام، أن يسبر عميقاً كل ما يخلق إحساساً مشتركاً بالرضا والتوازن بين مختلف المجموع البشري المعاصر، أي حقوق البشر الطبيعيَّة ومصالح الناس في كل الأزمنة والأمكنة، مُقارباً عدة أطروحات نظرية تعالج الحقوق الطبيعيَّة من زوايا وأبعاد مختلفة. وكالعهد به دوماً وأبداً، وباحتدامه الأخلاقي الناصِع، يَلِجُ تشومسكي الفكر الليبرالي الغربي المؤسِّس نظرياً لجل هذه القضايا، مُشرَّحاً الاختلالات العميقة التي تَكتنِف التجربة الحيَّة المُعاشة: أي التناقض الكبير بين ما يعمل على تحقيقهُ البشر وما يمارسونه ويفعلونه على أرض الواقع المُعاش. فالاختلال كامن في الإحساسات والمعايشات من جهة، وبينها وبين تصورات البشري لما يجب أن يكون عليه وجودهُ الحق، من جهةٍ أخرى. إن تشومسكي، من خلال هذا الاشتغال العميق، لا يُلامس روح عصره وقضاياه الشائكة والمعقدة فحسب؛ ولكنه أيضاً يرتادُ آفاقاً أرحب ويفتح مساراتٍ جديدة لقضايا الحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فليس الخير مقصوداً لذاتهِ وبتمامهُ المُطلق، وإنما ما ينيرهُ من نشدان وتحقق يجسدهما العمل الدؤوب على أن تصون التجربة البشرية المعاصرة الحقوق الطبيعيَّة والعيش الكريم: أي ما يجعل الحياة المعاصرة أكثر امتلاءً وأقل خواءً. أن يتحقَّق الإنسان بوصفه إنساناً فحسب، من خلال احتمال الوجود ومعايشته بنيل كل فرد ومجتمع لحقوقه الطبيعيَّة.
النص:
البشر كائناتٌ اجتماعية. أما نمط الكائن الذي يكونهُ شخصٌ ما، فإنه يعتمد بشكل جوهري على الشروط الاجتماعيَّة والثقافيَّة والمؤسساتيَّة التي تُشكِّل أسلوب حياتهُ. لذا، فإننا نجد أنفسُنا مُنقادين للانخراط في جُملة من الترتيبات الاجتماعيَّة التي تُفضي بدورها إلى كُلَّ ما يتعلَّق بحقوق البشر ورفاهيتهم، أو تلك التي ترتبط بُكلَّ ما يصبو إليهِ نُشدانهُم من تطلُعات ومطامح ـ بتعبيرٍ آخر، الخيرُ العام. ولتحديد منظور الرؤية، فإنني أطمحُ إلى النفاذ إلى ما يبدو أنهُ يُمثَّل بالنسبة لي حقائق بدهية، أي تلك التي ترتبط بفئة مُهمَّة من المبادئ الأخلاقية، والتي لا تكون ذات طابع عالمي فحسب، وإنما أيضاً تستمد عالميتها بشكل مُضاعف، وذلك عندما نختبرها عملياً ونرفضها في آنٍ واحد. إذ تبدأ هذه الحقائق في الانبثاق والتسلسُّل من مبادئ عامة جداً، كتلك التي تتمثَّل في أنهُ ينبغي أن نطُبِّق على أنفسنا ذات المعايير التي نطبقها على الآخرين (إن لم يكُن على نحو أكثر قسوةً)، إلى مذاهب أكثر خصوصية ودقة، كتلك التي تختَصُّ بالعمل على الارتقاء بالديمقراطية وحقوق الإنسان، على الرغم من الزعم على عالمية هذه القضايا، حتى مِن قبل مَن هُم أكثر وحشيَّة وقسوة ـ وذلك على الرغم من وجود سجل واقعي مروَّع ومُعتَم.
إنَّ أفضل نُقطة للانطلاق تبدأ من العمل الكلاسيكي لجون ستيوارت مل “مقال في الحُريَّة”. إذ يصيغُ، في اقتباسٍ تأسيسي، الآتي: “إنَّ الأساس الجوهري، المبدأ المُرشِد، والذي يتكشَّف حيالهِ كُل جدالٍ مبثوث في ثنايا هذه الصفحات، يتمحور بشكل أساسي حول: الأهمية الجوهريَّة والمُطلقة للتطور الإنساني في سياق تنوَّعه الأكثر خصوبةً وثراءً”. إنَّ هذه الكلمات المُقتبسة من فيلهلم فون همبولت، مؤسس الليبرالية الكلاسيكية، تحيل، في سياقٍ من التقصي، إلى أن المؤسسات التي تعمل على تقييد هذا التطور تفتقر إلى أي مشروعية، ما لم تُبدِ بطريقةٍ ما القُدرة على صوغ مسوغات حيال ذلك.
إنَّ انشغالنا بالخير العام، ينبغي أن يحثنا على إيجاد سُبل ما مِن شأنها أن تُسهِم في بذر كُل ما قد يُمكِّن التطور الإنساني من بلوغ تنوَّعهُ الأكثر خصوبةً وثراءً.
وبالمثل، نجد أن آدم إسميث، أحد مُفكري عصر التنوير، والذي يُشاطِر نظرائهِ الرؤية نسبياً، يشعُر أنهُ لا ينبغي أن تكون هنالك صعوباتٌ بالغة التعقيد تحول دون التأسيس لسياسات تتمحور حول الطبيعة الجوهرية للإنسان. فمن خلال “نظرية الشعور الأخلاقي” لاحظ إسميث “إلى أي حد يمكن افتراض كم يكون الإنسان أنانياً. إذ تُبرهن بعض النزوعات في طبيعتهُ على ذلك، بحيث تحثُّه على البحث عن تحقيق مصلحتهِ من ثروة الآخرين، ونزوعهُ إلى انتزاع كُل ما يكون مصدر سعادة للآخرين من أجل سعادتهُ هو، على الرغم من أنهُ لا يستطيع الحصول على أيِّ شيء منها غير التمتُّع بالنظر إلى النعيم الذي تُغْدِقُهُ هذه الثروة على من يحوزونها ويملكونها”. ويشدَّد اسميث على تلك القوة المُتأصلة التي تفرض سُلطتها، والتي يُطلِق عليها “السلوك القذر لسادة الجنس البشري” ـــ “الكل من أجلنا، ولا شيء من أجل الآخرين”. لكن ربما، بحسب اسميث أيضاً، تُخفِّف “النزوعات الخيِّرة والرحيمة المُتأصلة في الطبيعة البشرية” من غلواء هذا الداء العِضال.
وعلى الرغم من غرق الليبرالية الكلاسيكية في مياه الرأسمالية الآسنة، إلاَّ أن ما أبدتهُ من حس إنسانوي لم يمُت بعد. إذ نجد أن رودلف روكر، المُفكَّر والناشط الفوضوي من القرن العشرين، قد أخذ بمعالجة أفكار شبيهة بتلك التي محضها اسميث البحث والتقَّصي. إذ يصف روكر ما يُسميه بـ “سيادة اتجاه في التطور التاريخي للكائن البشري”، يُكافح من أجل “تحرير وإطلاق كُل القوى الفردية والاجتماعية في الحياة”. وقد كان روكر مأخوذاً بتقليد فوضوي بلغ ذروتهُ في الاتجاه العُمَّالي الثوري ـ وبمصطلحات أوربية، نموذج مُتنوَّع من “الإشتراكية الليبرالية”. إلاَّ أن هذه النموذج المُشتق من الاشتراكية، وكما يُشدَّد روكر، لا يرسُم ملامح وأبعاد “نظام إشتراكي ممركَّز ومُغلق ذاتياً”، بحيث يمنح إجابة شافية لكل الأسئلة والمشكلات التي تطرحها الحياة البشرية، ولكنهُ لا يعدو أن يكون اتجاهاً في التطور الإنساني، يُكافح ويعمل من أجل تحقيق ما تعمل على تثويرهُ التصورات والأفكار التنويريَّة.
ولكي يكون مفهوماً، وفضَّاً لأي التباس، فإن الفوضوية تُعد جُزءاً من سلسلة واسعة ومتعددة الأطياف من الفكر الاشتراكي الليبرالي، وما يرتبط به من تجارب وممارسات، كتلك التي تشمل الإنجازات التي حققتها الثورة الإسبانية (1936)، والتي بلغت الأبعد من خلال المشروعات المملوكة للعمال، والتي تنتشر اليوم في الحزام الريفي الأمريكي، في شمال مكسيكو، وفي مصر، والعديد من البلدان الأخرى، إلاَّ أن ثُقل هذه المشروعات العمالية الصغيرة تتركَّز في إقليم الباسك في إسبانيا، كما أثمر هذا الاتجاه عن توليد العديد من الحركات التعاونية في العالم، إضافةً إلى تغذية أحد أكثر روافد الحركة النسوية إيجابية، فضلاً عن مبادرات العمل المدني وحقوق الإنسان.
إنَّ النزعة الأكثر توسَّعاً وشمولية في سياقات التطور الإنساني تبحث عن تحديد طبيعة بُنى التراتبية والسلطة والسيطرة، والتي تعمل بدورها على تقييد التطور الإنساني، ومن ثم إخضاع هذه البُنى لتحديات العقلنة الذاتية: أي أن تُحاكم نفسك على نحو يبرهن على سلامة المسوغات. أما إذا لم تكُن هذه البُنى قادرة على تلبية تطلُعات هذا التحدي، فإنهُ ينبغي أن يتم تعريتها وتفكيكها، وطبقاً لما يعتقدهُ الفوضويون، “تجديدها جذرياً من أسفل”، كما لاحظ ذلك مُعلق مثل ناثان شنايدر.
جزئياً، تبدو هذه الأصوات كما لو أنها تُجسَّد حقيقةٌ بديهية: لماذا يدافع كل شخص عن البنى والمؤسسات غير الشرعية؟ لكن هذه الحقائق البدهية تحمِلُ على الأقل حيادية كونها حقيقة تعمل على تمييِّز هذه المؤسسات والبُنى عن نموذج جيد للخطاب السياسي. وأعتقد أن هذه الحقائق تُعدُّ مفيدة بوصفها حجر الزاوية الذي ينهض عليه إيجاد الخير العام.
وبالنسبة لروكر، “فإن المشكلة التي تُلحُّ على عصرنا تتمثَّل في تحرير الإنسان من لعنة الانفجار الاقتصادي ومن العبودية الاجتماعية والسياسية”. وينبغي أن نلاحظ أن النموذج الليبرالي الأمريكي يختلف اختلافاً كبيراً عن التقليد الليبرالي الكلاسيكي، من خلال قبول الدفاع عن العمال ومناصرتهُم في وجه طغيان ملاّك الأعمال والاقتصاد، وأيضاً حماية أي شخص من قيود الأسواق وخصائصها التدميرية. وبكلمات روكر، يبدو من الشائع اعتبار أن الفوضوية تنُاهِض الدولة، عندما تُناصر أي نموذج إداري يعمل على التخطيط لإدارة الأشياء من أجل مصلحة الجميع؛ كما يكمن وراء ذلك حلقة واسعة من فيدراليَّات المجتمعات ذات الحكم الذاتي ومواقع العمل المستقلة. واليوم، نجد أن الفوضويين يعملون على تكريس هذه الأهداف لتدعم بشكل دائم سلطة الدولة لصالح حماية الناس والمجتمع وكوكب الأرض نفسه من كل أشكال الخراب التي يعيثها رأس المال الخاص الممُركَّز. إذ لا يوجد في ذلك تناقض. فالبشر يكابدون العيش ويعانون في وجودهم الاجتماعي الحالي. إن الوسائل الموجودة حالياً يجب أن يتم استخدامها لحماية وفائدة الجميع، حتى لو كان هدفاً طويل الأمد يعمل على بناء خيارات بديلة.
وفي البرازيل، نجدهمُ في أوساط حركة العمال الزراعيين “يتحدثون عن توسيع نطاق وأرضية القفص” ـ قفص مؤسسات الدولة السلطوية والتي يمكن أن يتم توسيعها من خلال الكفاح الجماهيري المُشترك ـ كما حدث ذلك بشكل حيوي وفعال على مر العديد من السنوات. وبوسعنا أن نوسِّع أبعاد الصورة للتفكير في قفص مؤسسات الدولة السلطوية لحمايتها من الوحوش البربريين الذين يجولون في الخارج: النهابين، المؤسسات الرأسمالية المدعومة من قبل الدولة والتي يتم تكريسها من حيث المبدأ لتحقيق أرباح خاصة، إضافة إلى فرض سلطتها وسيطرتها على غمار الناس وتهميش مصالحهم. وعلى الرغم من تنميقات الخطاب الرسمي بتبجيل هذه المصالح، لكن على مستوى الممارسة والمبادئ وحتى القانون يحدث فصل مؤثر وفعال.
معظم العمل الجدير بالاهتمام في الأوساط الأكاديمية لحقل العلوم السياسية، يمكن أن يُقارن بالمواقف العامة والسياسات الحكومية. فمن خلال أطروحته البحثية “الازدهار والتأثير: اللامساوة الاقتصادية والسلطة السياسية في أمريكا”، يكشف الباحث بجامعة برنستون، مارتن جيلنز، أن غالبية سكان أمريكا محرومون بشكل مؤثر من حقوقهم الشرعية. فحوالي (70%) من السكان، من يعيشون على الحد الأدنى من منحنى الثروة/الدخل القومي، ليس لهم تأثير فعال على السياسات العليا للدولة، طبقاً لما توَّصل إليه جيلنز. وبالصعود إلى أعلى المنحنى، فإن هنالك زيادة بطيئة في حجم التأثير. ففي أقصى الحد الأعلى من المنحنى نجد هولاء الجذابين المترفين الذي يلقون بتأثيرهم على السياسة، بوسائل معروفة. ليكون النظام الناتج بلوتوقراطياً وليس ديمقراطياً. أو ربما، بشكل ألطف قليلاً، وكما يطلق عليه الباحث القانوني كونور جيرتي “الديمقراطية الجديدة”، شريك آخر لليبرالية الجديدة – النظام الذي من خلاله يستمتع فيه القلة بالحرية، إضافة إلى توفر الإحساس العالي بالأمن الذي يستشعره الصفوة فحسب، ولكن في خضم نظام تكون فيه الحقوق العامة أكثر شكلية. وبالمقارنة، وكما يكتب روكر، فإن النظام الديمقراطي الحقيقي من المتوقع أن يعمل على إنجاز خاصية “خلق اتحاد بين مجموعات حرة من الرجال والنساء على أساس العمل المشترك والتخطيط الإداري للأشياء من أجل مصلحة المجتمع”.
ما من أحد أخذ الفيلسوف الأمريكي جون ديوي بوصفه فوضوياً، على الرغم من آخذ أفكارهُ بعين الاعتبار. فهو يرى أن: “السلطة اليوم تَكمُنُ في السيطرة على وسائل الإنتاج، المؤسسات المالية، النشر العام، النقل والمواصلات. أيٌ ممن يملك هذه الوسائل، بوسعهِ أن يحكُم الحياة في بلده”، حتى لو كانت الديمقراطية بأشكالها هي السائدة. وحتى تبقى هذه المؤسسات في أيدي العامة، فإن السياسات ستظل تلقي “بظلالها على المجتمع من خلال الأعمال التجارية الكبرى”، كما هو مرئي وملحوظ اليوم. هذه الأفكار تقود بشكلٍ طبيعي إلى اجتراح رؤية للمجتمع تتأسس على سيطرة العمال على المؤسسات المنتجة، كما تم استبصار ذلك من خلال رؤى مفكري القرن العشرين، أبرزهم كارل ماركس – وعلى نحو أقل – جون استيوارت مل. فقد كتب مل: “إن شكل التكوين الاجتماعي، مع ذلك، إذا ما عمل الكائن البشري دوماً على تطويره، ينبغي أن يتم توقعهُ بوصفه الشكل السائد، على أساس أن تنهض هذه الرابطة الاجتماعية للعمال أنفسهم على شروط المساواة، الملكية الجماعية لرأس المال من خلال الانخراط في أعمالهم، والعمل تحت إدارة مديرين منتخبين يستبدلون أنفسهم تلقائياً”.
إن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية كانوا مدركين لمخاطر الديمقراطية. فمن خلال نقاشاتهم ومجادلاتهم حول وثيقة الدستور، الصيغة الأساسية، حذر جيمس ماديسون من هذه المخاطر. ومن الطبيعي أن يتم أخذ إنجلترا كنموذج. فقد لاحظ ماديسون “في إنجلترا اليوم، إذا ما تم منح كل طبقات المجتمع حق الانتخاب والاقتراع، فإن ملكية ملاك الأراضي من الممكن أن تكون غير آمنة. إذ أن قانون الإصلاح الزراعي سرعان ما يأخذ مجراه، مما يضعف ويقيد حق الملكية”. إن المشكلة الجوهرية، التي يُلامسها ماديسون مُستبصراً، تتمثل في أن “تشكيل نظام ننشد أن يدوم لعصور” كان ينبغي أن يتأسس على حكام حقيقيين من أقلية غنية، وذلك لتأمين حقوق الملكية. إن الخطورة التي تنجم عن المساواة وحق الاقتراع للجميع، يخول مطلق السلطة على الملكية التي تكون بحوزة من يملكونها بدون المساهمة فيها”. إن البحَّاثة يتفقون بشكل عام مع تقييم الباحث جوردون وود، من جامعة برنستون، الذي يرى أن “الدستور كان بشكل جوهري وثيقة أرستقراطية صممت لفحص النزوعات الديمقراطية لتلك الفترة”. وقبل ماديسون، بزمنٍ بعيد، نجد أن أرسطو، في كتابه “السياسة”، عالج نفس المشكلة مع الديمقراطية، فمن خلال مراجعته وتقييمه لعدد متنوع من النظم السياسية، توصل أرسطو أن النظام الأفضل، أو ربما على الأقل أفضل النظم السيئة، هو الذي يأخذ شكل الحكومة. ولكنه يُشرِّح الخلل: إن الغالبية العظمى من الفقراء يمكن أن يستخدموا سلطتهم التصويتية لانتزاع ما يملكه الأغنياء، وهو ما يكون غير عادل. إن ماديسون وأرسطو توصلا إلى حلول متناقضة: فأرسطو، من جانبه، ينصح بتقليل الفوارق التي تنجم عن اللامساواة، بحيث من الممكن التوصل إلى كل ما يتعلق بخلق إجراءات دولة الرفاه. بينما نجد أن ماديسون، من جانبه، توصل إلى التقليل من سطوة الديمقراطية. وفي سنواته الأخيرة، نجد أن توماس جِفرسون، الرجل الذي صاغ إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية، كان قد قبض جوهر طبيعة الصراع، والذي كان بعيداً عن نهايته. ولقد كان جِفرسون أكثر انشغالاً بقضايا حيوية حول المساواة ومصير التجربة الديمقراطية. فقد كان يميز بين “الأرستقراطيين والديمقراطيين”. فهؤلاء الأرستقراطيون “هم من يخافون ولا يثقون في الشعب، والذين انتزعوا منه القوة والسلطة ووضعوها في زمام وتحت مقاليد الطبقات العليا”. وبالمقارنة، نجد أن الديمقراطيين “يتماهون مع الشعب ويثقون فيه، والذي يرون أن معظمه ينزع إلى النزاهة والسلامة، وذلك على الرغم من أن هؤلاء الديمقراطيين لا يضعون معظم حكمتهم في متناول المصلحة العامة”. واليوم، نجد أن الناجحين من “أرستقراطيي” جفرسون “من المحتمل أنهم ينخرطون في النقاش حول الدور القيادي الذي ينبغي أن يلعبوه: التكنوقراط، المثقفين الموجهين سياسياً، أوالمصرفيين والتنفيذيين.
إنها من الوصايا السياسية تلك التي تتمثَّل في بحث التقليد الليبرالي الأصيل وهو يتفكك وينبني جذرياً من أسفل، بينما الصناعة تتغيير، كما يشير إلى ذلك ديوي، “من النظام الإقطاعي إلى نظام اجتماعي ديمقراطي”، بحيث ينهض تحت إدارة العمال، مع احترام كرامة المنتج كشخص أصيل في العمل، وليس كأداة في أيدي آخرين.
وكخُلد كارل ماركس القديم – “صديقنا القديم، خُلدنا القديم، من يعرف جيداً كيف يعمل تحت الأرض، لينبثِق فجأةً” – فإن التقليد الليبرالي يحفرُ دوماً مقترباً من السطح، ودوماً ما يكون مهيئاً لينبجس، أحياناً بطرقٍ خاطفة وغير متوقعة، باحثاً عن أن يحقق حول ما يبدو بالنسبة إلى تجربة منطقية حول الخير العام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Reference: what is the common good ? – Chomsky – info