ثمار

والآن.. إلى أين؟

وهلّأ لوين

العنوان/ السؤال باللهجة اللبنانية “وهلّا لوين؟” لفيلم المخرجة اللبنانية نادين لبكي، المنتج في العام 2011، يتصل بالمعنى الأولي للمشهد الأخير، حين يحتار أهل القرية في دفن جثة الفتى “نسيم”، في مقبرة المسلمين أم مقبرة المسيحيين المتجاورتين، حيث إن أمّه غيّرت دينها من المسيحية إلى الإسلام – كجميع نساء القرية اللواتي غيّرن دياناتهن – درءاً لعودة القتال بين أهالي القرية ذوي الدينَيْن، خاصة أن “نسيم” قُتِلَ في طريق عودته للقرية برصاصة طائشة لقتال بين مسلمين ومسيحيين لا ينتمون للقرية.
وتتركز أحداث الفيلم في ما تبذله الأمهات من أجل منع عودة الحرب، وهن اللواتي اكتوين بها أكثر من الرجال الذين فقدوهن واتشحن دوماً بالسواد حزناً عليهم.

إلا أنني أمضي بالسؤال “وهلّا لوين؟ / والآن.. إلى أين؟”، إلى اتجاهين آخرين؛ أحدهما يتعلق برؤى تطوير الدراما السينمائية، والآخر باستدعاء وصناعة معالجات يمكنها أن تهدّئ من روع العداء المتنامي بين المكونات القومية والدينية، المتداخلة والمتجاورة.
ويمكن نقدياً إزاحة الفيلم – افتراضياً على الأقل – إلى مقارنة ضمن السينما التجريبية التي بدأت تتسرب تأثيراتها إلى السينما السائدة، نحو تطور المفاهيم الفنية وأحياناً أبعادها الاقتصادية؛ فعلى الرغم من طابع الكوميديا الساخرة الذي دمغ التوصيف الدرامي للفيلم، إلا أن التراجيديا المباغتة تشكل جزءاً رئيسياً؛ وهكذا تتوزع مواقف حادة عدة مثل أن تخفي “تقلا” قتل ابنها وتخفي جثته في بئر منزلها في مشاهد موجعة حقاً، إلى حين تدبير حيلة جلب مغنيات وراقصات أوروبيات وتخدير رجال القرية بالحشيش بمقهى “الست آمال” في كوميديا جلية، وينساب التركيب المشهدي والسردي سهل التلقي بانتقالات سلسة مُحمَّلاً برسائل ذات مضامين عميقة، ومعالجات صادمة إذا ما تم طرحها في الواقع اليومي، لكن معظمها يقدم في قالب كوميدي، كأنْ تغيّر نساء القرية دياناتهن؛ المسيحية إلى الإسلام والمسلمة إلى المسيحية، في سبيل حقن الدماء. ما تقول عنه مؤلفة الفيلم – في حوار لها على موقع قنطرة – بأنها أرادت للمجتمع أن يفكر بطريقة مختلفة.. أن “يذهب بتفكيره إلى أبعد مدى، أن يقبل الآخر بحيث يصبح الآخر”.
ويحفل الفيلم بأساليب المحكيات الشعبية والاستعراض والغناء، المُستوحى من التراث العربي وامتداداته التاريخية ومُجاوراته الثقافية، في تناسق مع واقعية المشاهد لقرية لبنانية يقطنها مسلمون ومسيحيون وبها كنيسة ومسجد، يعود أهلها للتعايش بعد كل قتال يستجيبون له في تداعٍ مع الصراع الديني الذي عَمَّ لبنان.

الفيلم من إخراج نادين لبكي، كما أنها كتبته مع رودني حداد، ومثّلت فيه وأيضاً غنّت، وبذا فإنها لا تمتهن الإخراج بقدر ما تقدم رؤية فنية متكاملة في الفيلم، بل مشروعاً سينمائياً، بحسبان أن هذا الفيلم هو الثاني – بعد فيلم “سُكّر بنات” – المُنتج في العام 2007 – ولن يكون الأخير الذي تشتغل فيه نادين على العناصر الرئيسية للفيلم (التأليف، الإخراج ودور البطولة)،  وهي تشارك البطولة إلى جانب آخرين – تماماً كما في “سُكَّر بنات” – فدور “آمال” الذي تؤديه نادين في “وهلّا لوين” أو دور “ليال” في “سُكّر بنات” هو دور يَنظم السرد السينمائي ويجاور بطلات وأبطالاً آخرين، يخوض معظمهم تجربته التمثيلية الأولى. وتقول نادين عن ذلك إنها لا تطلب منهم أن يمثّلوا بل أن “يكونوا مثل ما هم”، في تطوير منهجي لوظيفة الممثل داخل العمل الدرامي، ما أشار إليه قبلاً المسرحي التونسي عبد الغني بن طارة – في حوار سابق لي معه – بأنه “اللعب المسرحي” أو “اللعب الدرامي”، فيما أعتقد أنه محاولة لكسر الجدار الجديد الذي نشأ في نهايات القرن العشرين – بفعل غزارة الأعمال الدرامية – بين التمثيل والواقع. ويتصل هذا التطوير المنهجي بمحاولة نادين في أفلامها الاقتراب من الواقع اليومي كما تقول “أنا لا أريد أن أصوّر فيلماً، أريد أن أصور لحظة حقيقية في حياة هؤلاء الأشخاص”، لذا فإن نموذج القرية اللبنانية – مثلاً – الذي يعرضه فيلم “وهلّا لوين” موجود في الواقع اللبناني، بل إن بعض المشاهد للكنيسة والمسجد المتجاورين صوّرا بإحدى القرى.
وبهذا فإن الاحتفالية المتجسدة في الاستعراض والغناء ولغة الحوار الإيقاعية أو ربما ما يجوز توصيفه بتكثيف المحتوى الفني، والواقعية التي تعكس الحياة اليومية إلى جانب ”الممثلين الواقعيين” إذا جازت التسمية، والكوميديا المتلاحمة مع التراجيديا أي التجانس بين نوعين فنيين، والحضور الطاغي لنادين/للفنان برؤيته وأدائيته؛ كل هذا يمكن أن يُستخلَص بقراءة عابرة كسمات عامة لمشروع نادين لبكي السينمائي، الذي يفتح السؤال – إلى جانب مشاريع سينمائية تجريبية عدة – على الدراما السينمائية عموما ويفتح السؤال على سينما الشرق الأوسط: “والآن.. إلى أين؟”.. خاصة أن تعدد العناصر الفنية وسلاسة العمل، تجعله صعب التكوين على المستوى النظري لجمعه هذه السمات في عمل واحد، على الرغم من وجود نموذج ناضج، مما يعني أنه كذلك عسير على المستوى التطبيقي، ليكون مقبولاً جماهيرياً، إلا أن الفيلم وبحسب إفادات صحفية عدة، على الرغم من عدم حصولي على أرقام دقيقة، لقي إقبالاً جماهيرياً عالياً في لبنان ومصر ودول المغرب العربي والخليج العربي، إضافة إلى عروض في الولايات المتحدة، لكني لست متأكداً أن الفيلم تمكَّن من تحقيق أرباح جيدة أو حتى تمكن من  تغطية تكاليف إنتاجه التي تجاوزت ثمانية ملايين دولار، وهي بيانات تساعد في قراءة إذا ما تمكّن هذا الفيلم “التجريبي” من دخوله اقتصاديات السينما على الرغم من الأمر يتصل باقتصاديات السينما في الشرق الأوسط عموما التي ما زالت متعثرة، لكن الفيلم حصل منذ العام 2011 على جائزة الجمهور في مهرجانات عدة أبرزها مهرجان كابور بفرنسا، مهرجان أفلام الجنوب بالنرويج، مهرجان الدوحة ترايبكا السينمائي، وجائزة كاديلاك للجمهور من مهرجان تورنتو بكندا، إضافة إلى جوائز ومشاركات أخرى أهم، بينها مشاركته في مسابقة “نظرة خاصة” بمهرجان كان السينمائي العام 2011م.

في الفيلم يدعم المجتمع علاقة الأرملة المسيحية “نوال” بـ”ربيع” الشاب المسلم، وتتحرر السلطة الدينية من تزمّتها بقبول اقتراح النساء بتخدير رجال القرية وجلب راقصات أوروبيات، بل إن القس والإمام يرحلان عن القرية تاركَيْن النساء يصدمن الرجال بتغيير دياناتهن. ويتسامح الإمام والقس ويهدّئان النفوس حين تعيث غنم المسيحيين خراباً في المسجد وحين يكسر صبي مسلم صليب الكنيسة، وهما الحادثتان غير المقصودتين، إلا أن التسامح يمضي إلى درجة أسمى حين يكسر مسلم تمثال السيدة العذراء رداً على ما حدث في المسجد، وحين يعتدي مسيحي على طفل مسلم معوّق لأنه وضع دم دجاجة في أناء احتفالي بالكنيسة، وتقدم “تقلا” والدة الفتى “نسيم” تضحية غالية للغاية، ليس فقط بإخفاء موت ابنها وجثته لكنها تطلق الرصاص على ساق ابنها الأكبر كي لا ينتقم لأخيه. إذن فإن التسامح والصبر على الأذى والروح الطيبة والسلطة الدينية التي تُعلِي من لُحمة المجتمع وسلامه، حفظت القرية من هلاك الحرب، لكن الحلول التي اقترحتها النساء هي حلول تجريبية ليست بعيدة عن الواقع فقط بل إن القرية في الفيلم بعيدة عن المدينة، ومحاطة بالألغام، وإشارات البث التلفزيوني والإذاعي لا تصلها بيسر، ولهذا نجحت نساء القرية في إخفاء خبر عودة الحرب الأهلية عن رجال القرية؛ النساء البطلات اللواتي بذلن الصبر والحيلة، وكأنمّا ثمّة إشارة إلى ضرورة قطيعة ما مع الماضي السيئ أو مع الراهن المُحرِّض على العداء، من أجل مجتمع سلام.

الفيلم الذي يبدأ بلقطات عامة ساكنة للقرية دون شخوص عليها سرد محكي بصوت نادين لبكي، يعود إلى بعض هذه اللقطات بعد حوالي ٨٠ دقيقة؛ مع خلفية صوتية لجرس الكنيسة ولأذّان المسجد، قبل نهاية الفيلم، حين تبدّل النساء دياناتهن، تمهيدا لدفن “نسيم” بسلام، وينتهي بعبارة “وهلّا لوين؟” كآخر عبارة في المشهد الأخير، لتُلقي بالسؤال إلى المتلقي “والآن.. إلى أين؟”، ربما بوعي ارتدادي إلى أحداث الفيلم؛ إما أن ينخرطوا في دوامة الصراع والتفرقة التي ستفنيهم جميعا، أو أن يبحثوا عن طريق يتجاوز الآلام والأحقاد الراكدة إلى مستقبل ينقذهم من محيط الألغام، ألغام النفس بالأساس.

*كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى