ثمار

كَمِينُ الحِواراتِ الحادّة

حاتم الشبلي

ذاتَ ليلةٍ عارية من الأصدقاء، أو كَمِينُ الحِواراتِ الحادّة

أعرفُ تماماً أنهُ ليس بوسع الكائن أن يتوقف عن التفكير إلا في حالة الموت، كما أن الحياة لا تستطيع أن تتوقف عن مفاجئتنا بالثلج والحصى والشوك. وحدنا الذين نتَسَنَّمُ فضولنا وإرادتنا لنقذف بذواتنا في أتون المجاهيل والعوالم الجديدة. وحدنا من نخلق حياتنا، بالقرار، عبر المسير المضني، عبر الدم والعرق والدموع والسهر. نتسلقُ تلك الأسوار الشاهقة، خلسةً أو اقتداراً فستريح على شبكيتنا صورة أنيقة، وردة الصباح. لا تلبث أن تستغلق رؤيتها بعد حين، إذ أن الأسوار تستطيل أكثر، وأصابعنا العشرون ستقطر بولاً ونزفاً وجراح، ثم يكون الهَول؛ ترتَجُّ أجسادنا بالأرض التي اكتَست بطبقةٍ سميكةٍ من هياكل عظمية وبقايا أحلام وذكريات قديمة لأناس سبقونا في مسار الشغف، وفي تلك التحديقة.
هل ننهض من جديد؟!!
بداخل كلٍّ منّا فينيقٌ صغير، وهذا أمرٌ عادي تماماً؛ كما أنهُ بداخل كل طائرةٍ توجد سترة نجاة، حتى أننا لا ندري في البداية بأنه موجود من فرط عاديتهِ وبداهته. ليس هناك مايدعو للاستغراب أو الإنكار، ولكن هنالك طرق مختلفة ومتباينة لإرضاع هذا الفينيق ونموّه! أرأيتم كيف تبدأ التعقيدات؟!
كلنا تشدنا الألوان والألحان، ولكن صديقي يذوب في تلوينات اللوحة ذات الإيقاعات الاستوائية الساخنة، على النقيض من مزاجي، تفتنني رقة اللون ولطفه، فالسماوي عندي هو قوة الحس، وإني لأرى كم كان الثوار الأرجنتينيون موفقون في اختيار ألوان قبعاتهم حينها، حتى صار رمزاً لعلم بلادهم، والليموني عندي تقطير الأحساس الصافي؛ روح الوفاء، أيقونة العاشقين، كما أن الوردي يلهمني ويملؤني نشاطاً ومرحاً. هكذا كنتَ ترى الأشياء، تستصغر نكبات الأيام وتقلّباتها. ماذا حدث لك الاَن؟!
يالهذه الفينيقات الكريمة! تحتملنا جميعاً رغم اختلاف أمزجتنا وانشغالاتنا المتفاوتة.
قلت لي: لقد نلتُ نصيبي من الحصى أيتها القدور السخية…
بهذه الطفولة الجريئة نفض بكارة الحلم في ذاتنا، ثم نستبيح الخطى والطرق لنرى (وردة الصباح). هل نحن من فعل هذا أم أنه الفينيق الذي اكتمل فينا شكلاً وروحاً فصرنا فينيقاً وصار هو نحن.
أحياناً تثقل قدميك، وتختلط عليك الأشياء، أو كما يصف ذلك علماء النفس بمنطقهم الذي يعرفونه (المنطقة العمياء)، أو قد تنهار قواك العقلية، فلا تقوى على التركيز في موضوع محدد أكثر من دقيقتين مثلاً، وكنتَ تقدم تعليلاً طريفاً بأن ذلك ناتج عن (قلة نسبة الكحول في الدم). أو أن يمضي بك التفكير في معارج بعيدة فترى الأشياء بعدسة مكبرة أكثر من اللازم، وكأنك مهووس بتجريد الغلالات والكشف وسبر المخفيات. وقد تأخذ قلماً وورقة وتبدأ بتسجيل انطباعات وحكايات عن تجربتك الشخصية حول الحياة مع البشر تتخللها أكاذيب وخزعبلات ونقائص وأحلام تخصك وحدك ولكنك تسحبها على الآخرين، وتعلن بعدها عن كتاب (ياود يا حكيييييييييم يا عميييييييييييييق إنتا).!!!
وقد وقد، إلى أن تجف الأقلام من حيلها وخربشاتها، ولكن ضمن كل هذه التشكيلة المحترمة من الاحتمالات، في تلك اللحظات البائسة التي يسميها البعض (مفترق الطرق)؛ ذاك الوصف الذي اقتَبَسَتْهُ إدارات المرور في بلدان العالم، في تلك المرحلة المظللة القلقة توجد فرصة، بل فرص، ما عليك سوى أن تحرر ذلك الفينيق الرهيب بإشارة واحدة فقط. دعه يعمل، سيدعك تمر.
هل أنت مستعدٌّ لكل ذلك؟
نعم، أنا حميدان الذي قضى عشرين عاماً من تدريس التاريخ، تاريخ البلاد المزيف في المدارس الثانوية، الذي يسميه البعض (حميدان السكران) ويسميه الآخرون (أستاذ حميدان)، نعم مستعد لذلك. بكل ميراثي الثقيل من العشوائية واللامبالاة والجنون وحب الناس والرزايا والتحديات والتشوهات، فأنا لستُ ذاك الولد الأهبل الذي كان يجلسُ هنا، أمامي، قبل يومين، وقال بعد كأسهِ الرابعة:
(الحياة مُملة).
تذكرتُ أمي حينما كانت تقول (الجمل ما بشوف عوجة رقبتو). أدركتني التجربة الآن، صدّقتُ حكمتها في صباح اليوم التالي، عندما أغاظني أنني في الأمر كله أنفقت ليلة كاملة من عمري الغالي، ووجبة عشاء كنت أنتظرها طيلة أسبوع، وموسيقى وأغاني الكاشف التي تبددت في الهواء. كل ذلك ضاع في تلك المنادمة البايخة، كم تحسرت على خميسي العزيز!!
كانت ليلة ثقيلة فعلاً، مضت بأحاديث تافهة عن فلان الكاتب المشهور الذي يتحول إلى ملاكم بعد كأسه الثانية، وزوجة فلان الفلتكاني التي تخونه مع صديقه الفنان، والصحفي الوجيه الذي توسل لأحدهم كي يمنحه ثمن إيجار منزله لأنه مهدد بالطرد والتشريد مقابل نشر تعليقات وتلميعات حول قصائده وأغانيه. وما إلى ذلك من سخافات… ما دخلي أنا بكل ذلك؟ ومن الذي سمح لهؤلاء المجانين باقتحامي، هم وقصائدهم وحبيباتهم وملابسهم الداخلية وتلطيخي بوساوسهم وأزماتهم، من الذي أتى بهم إلى غرفتي لإفساد مزاجي بهذا الشكل. أحياناً نقابل من يجعل الدقائق أكثر مللاً من خطبة الجمعة.
من قال الرحيل؟
نعم أفكر في الهجرة، كل الأنبياء والأشقياء هاجروا، هل توجد مشكلة في التفكير بهذا الشكل؟، لست معتاداً أن ألتمس التبريرات لأفعالي، ولكن هذه المرة يأتي ديكٌ مشاكسٌ لينقر على رأسي ويجبرني على الالتفات والإصغاء لأسئلته المتناسلة. المشكلة أن ديكي المجنون هذا، لا يترك لي وقتاً لأرتب أفكاري بهدوء، وكأنه مذيع في برنامج على البث المباشر. كم هوأمرٌ مزعج.
محمد ضاق ذرعاً بأرضه وأهل مدينته، اختار أن يهاجر، وفي نهاية الأمر عاد منتصراً، المهدي أيضاً، بدأ نشاطه بالهجرة تيمناً بالسيرة الإسلامية، وحرر الخرطوم. كانت هجرته الأولى هي حجر الزاوية الذي بنيت عليه المهدية. وهنالك النبي موسى، في مصر، حينما أدركته اللعنات الفرعونية يمم صوب البحر، وهنالك إله يرعاه من فوق سبع سماوات منسقةٍ جيداً، لاحظوا، إنه انتصر أيضاً. وفي تاريخنا قصة أخرى؛ هنالك المك نمر، حمل مَتَمَّته على كتفه واستقر في عيشه وهنائه ورغده بعيداً، هناك في هضبة الحبش، وكان أن ترسخت تلك الأواصر المعروفة لحدي الآن مع أهل تلك الديار للدرجة التي عبر عنها صديقي عادل أرسطو، ذات مساء، في محفلٍ ثقافي، حين قال: (الحبش بحبوا السودانيين، لكن السودانيين بحبوا ناس تانيين).
أما أنا، حميدان، فسأهاجر، سأرى كلّ شيء بأم عينيّ هاتين، سأنقب، سأكشف، سأقضي اليوم بساعاته الأربع والعشرين حفراً وتفتيشاً وسبراً، سأعود إليك يا خرطوم منتصراً، راضياً على جناحي كِتَاب، وستأتي حوايتي لتزفني إلى لحظتي، اللحظة التي سالَ عمري في انتظارها، ودون ذلك رأسي يا دقوشة….
نماذج الهجرة جميلة ومتوفرة جداً، إذن سأهاجر.
مجنون ليسَ إلا، كَيفَ أترُك غرفتي وأرحل؟، الصباح يأتي عبر نافذتي الخشبية، يتسرب ضوءاً وئيداً حتى تمتلئ غرفتي بالنهار، هل سأرى صباحاً هناك؟، وهذه الرِمال، شجرة التبلدي الفخيمة، الراكوبة، محطّ مزاجاتي الصباحية ونهاراتي السعيدة، رقصة القمر في تلك السماء الصافية، لحظة غروب الشمس وأنتَ مستلقٍ على ظهرك في بطن الوادي، رائحةُ الهواء، تلاميذي، من سيحكي لهم من بعدي عن أجدادهم، وعن معاركهم وانتصاراتهم سوف تلتهمهم فبركاتُ بخت الرضا، وتلفيقات المؤسسة الرسمية.
دقوشة يا طفلتي الجميلة، يا نعناعة أيامي، كيف ستمضي بكِ الأيام، هل ستستطيعين الحياة في تلك المدينة القاسية؟! هل ستحتمل الخرطوم شرودك ونزقك واندفاعك؟! هل بأمكاني أن أحمل معي ابتسامة واحدة لطفلة بقميصها المزركش، ومِشاطها القصير، غرفتي، تلك الجدران ذات الطلاء السماوي، نافذتها الوحيدة التي تتوسط الجدار المقابل للباب الخشبي الموارب على الدوام، عنقريب الزعف الكبير الذي يتسيد المكان، مكتبتي التي أنفقت أكثر من عشرين عاماً في بنائها والتي لا زالت ذاخرة رغم كمية التعديات والنهب المنظم الذي تعرَّضَت له عبر السنوات.
تلك الحروف والكلمات التي تظهر في أماكن عشوائية من الجدران، تواريخ، أرقام تلفونات، عناوين، أسماء أشخاص، لوحات غير مكتملة، ذكرياتي الصغيرة، التي تفوح من كلّ أنحائها، هل أترك كل ذلك وأرحل إلى المجهول؟!
هنالك أشياء لابد من فعلها رغم قسوة الشروط، ولكن لا خيار، ما بدأ لابد وأن يكتمل، مهما كان الألم، إن البدايات تأتي دائماً مصحوبة بارتعاشات وقلق و خوف، كآلام المخاض، هنالك شيء ما قيد الانعتاق، تلك نواميس العالم يا حميدان.

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى