ثمارغوايات

انتظار

وقاص الصادق

وفي رواية أخری، الكرسي هو الذي يجلسُ عليك، ساعة الحائط هي التي تنظر إليك بين الحين والآخر، صفحات الكتاب هي التي تقلبك بقلق، الحروف هي التي تقرأك دون أن تفهم شيئاً، کوب البرتقال أدخل مصاصته فيك وصار يشرب، والتفاحة تقذفك في الهواء مرتين ثم تقضمك، أنت الآن شهي جداً، أنت الآن تنتظرها.

قبل قليل حين دفعت باب المطعم لتدخل.. الباب هو الذي فتحك، التفت إليك الناس ليروا داخلك مباشرة، ثمة حدائق کثيرة قد نمت فيك في الطريق إلی هنا، البستان القريب هو الذي قطف منك الزهرة، تألمت قليلا لكنك تحب العطاء، فنبتت زهرة أخری بداخلك، أما الشجرة فهي التي جلست تحت ظلك، هل کانت فروعك طويلة بما يكفي؟ لم تجدك السحابة! کانت تبحث عنك لتهطل عليها بمطر خفيف، لكنك کنت مشغولا بمشوار مهم، المشوار هو الذي مشی بخطواته عليك، فقد تمدد جسدك شوارعَ واسعة ورحبة ورصيفها حنين، ليست کشوارعنا، السفينة دخلت بمضيقك الصعب، لكنها مخاطرة تستحق.. والطائرة حلقت فوقك علی ارتفاع منخفض، علها تسقط بأحد مطباتك الهوائية، أتری؟ لقد کنت شهيا جدا، لقد کنت في الطريق إليها.

في السابق کنت عنيدا، کما البشر الآخرين، تريد أن تصير کل شيء أو لاشيء، والأشياء حولك وسائل إما أن تملكها أو أن تحتقرها، أخذت وقتا طويلا لتدرك أنك لست مرکز الأرض، لتدرك أنك نقطة باء صغيرة وسط الكثير من الكلمات والجمل وأن أنصاف الأشياء قد تكون ممتعة؛ فالكمال ممل وخادع أغلب الوقت، أخذت وقتا طويلا لتدرك أنك وردة قضت جل حياتها تحاول أن تصير شجرة دون أن تستمتع بكونها وردة، أتری؟ حاولت أن تطير وأن تحفر إلى أعماق الأرض ولم تجرب المشي الخفيف الهادئ. کنت مزعجا للكرة الأرضية حتی أنها رغبت أن تحك رأسها في مكانك بالضبط، کنت ستموت بين أصابعها لولا أنك تأخرت عن الزلزال، لأنك رأيت وجهها في المحطة وفاتتك الحافلة.. ثم غيرت وجهتك تماما.

تماهيت مع ما حولك بعد أن أدرکت أنك تعرف القليل، وأن الأنصاف تكملها الأنصاف الأخری، وأن الناقص في علاقتك مع الأشياء هو أن تحبها، أتری؟ کان لا بد أن تكون عاديا وجميلا لكي يستنشقك العطر حين بخخته علی نفسك هذا الصباح، القميص ارتداك برفق، ولونه الأزرق فرح، وحَسِبَ نفسه سماءً لما خرجت به إلی الشارع ليمتلئ بالنجوم من أثر اقترابك من النافورة التي لاحقتك بقبلاتها، لكنك کنت عفيفا.. فقد کنت علی بعد شارع واحد من أن تلتقيها.

والآن أنت هنا، تنتظرها، ساعة اليد مستمتعة برؤية وجهك کثيرا، والجريدة تطالعك أحيانا وأحيانا النافذة، إذ تراقبك بشغف، مستمتعة بالمطر الخفيف بعينيك، کل الأشياء.. کل الأشياء تراقب انتظارك لها، لكنها -وفي هذه الرواية الأخری- لم تأت.

*كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى