ضوّة
يمكن أن تقودك قدماك بكل سهولة لتدخل أياً من المستشفيات، وأياً من عنابر المرضى. كما يمكن أن يكون سبب هذه الزيارة هو الاطمئنان على صحة إحدى قريباتك بالمستشفى، هكذا هو الظرف المحيط. زيارة عادية لمريضة تقبع في إحدى غرف الانتظار بمستشفى الحوادث.
دخلت إلى المستشفى بشكل طبيعي مثل أي يوم آخر. قادتني قدماي إلى غرف الانتظار حيث بدأت نفسي تستعد لمنظر تلك الغرف التي لا تطيقها أبداً. فبمجرد الدخول إلى المبنى تبدأ عينيك في تصفح أنماط مختلفة من المرضى الذين ألقت بهم شتى العلل إلى هذا المشفى. مستلقون على فرش، أو بدونها على الأرض. ومن منّ الله عليه بسرير كان لا بد أن يتقاسمه مع غيره في وضع يتمنى كل منهما لو لم يكن من هؤلاء المحظوظين الذين أوصى بهم أحد معارفهم لدى أحد الممرضين أو دس في يده بعض النقد ليتصرف له في سرير يستلقي عليه إذ كانت الأرض أفضل بأي حال.
تحولت عيناي وسط أكداس المرضى ما بين الأرض والأسرة بحثاً عن مريضتي، لا يمكن أن يستوقف عينك شيء، فالمنظر لا يشجع أبداً على إدامة النظر، مجرد بحث سريع. لكن ربما هذه المرة أحسست بأن هنالك شيئاً مختلف، ربما كانت هذه هي النظرة التي ألقيتها عابرة على هذا الجسد الذي لم أتبين ملامحه جيداً، أو ربما ما كان لديه ملامح أبداً. مرت عيني عليه في لمحة خاطفة. أحد الأجساد العديدة لمرضى هذا المشفى، هيكل عليل يكتسي بما تيسر أو ربما لا يكتسي بما لم يتيسر من خرق بالية. ووسط هذه الكومة من العظام والخرق جذب عيناي بريق ينبع من مكان ما في هذه الكتلة. شيئاً فشيئاً تبينت أنها عينان. ضوّة. تجلس القرفصاء على سريرها الذي تشاركها فيه أماني مريضة الملاريا. هذه الالتفاتة إليها جعلتني أنتبه إلى قريبتي التي أقصدها في السرير المجاور لها. أما هي فلا أحد يعلم ماهي مريضة به، لم يكن حصولها على فرصة النوم على سرير ناتجة عن أي وساطات بل لطول ما مكثت في المستشفى.
****
زيارة أخرى إلى المستشفى. كانت النسوة في العنبر قد بدأن يمارسن عادتهن في التعارف السريع وممارسة “النقة”. تجمع عدد منهن حول وجبة أتت بها إحداهن. مكونة من كسرة خبز وطبقاً من البامية المجففة.
– والله ياختي البت دي تعبتنا شديد. كل يوم نحنا في مستشفى.
– وما عرفتو الصايبا شنو؟
– والله يا بت أمي كل دكتور يقول كلام براهو.
– طيب ما تودوها لي فكي. باقي في حاجات كدا الدكاترة ما بعرفو ليها.
– وديناها يابت امي، قال عرسو ليها. وود عمها أباها. هو عاد منو البعرس ليهو زولة تلتلو في المستشفيات؟
– خليها على الله يا اختي.
– وانتي يالاخت. عليك الله كان ما نزلتي اكلتي ليك لقمة. (كان الحديث موجهاً إليها فالتفتت إليهن بالكاد).
– …………………………………………………..
لم أستطع أن أميز شيئاً مما قالت، ربما اعتذرت إذ لم تنزل ولم تشاركهن الطعام ولا الحديث.
– إنتي من وين يالاخت؟
– من اللُبيِّض.
– من اللُبيِّض زاتها؟
– لالا، من حلة جنبها.
– والصايبك شنو يا بت امي؟
– ماني عارفة: إلا الحكيم قال ما بمرقني اسة.
– ونان مالك براك؟
– ……………………….
لم ترد. وعندما يئست المرأة من مواصلة الحديث معها، عادت إلى أحاديث مجموعتها. ولم تستطع عيناي أن تعود عنها. كان خاطري قد ذهب بعيداً مع سؤال تلك المرأة، وربما لم يكن أوان عودته قد جاء بعد وحان وقت انتهاء الزيارة.
****
– يمة، حاجة التومة مرقوها من المستشفى ولا لسة؟
– والله يا ولدي امس قالوا الدكتور قاليهم حالتها صعبة شديد وما بمرقها ليهم قريب.
– يعني لسة راقدة؟
– انت ما مشيت ليهم تاني ولا شنو؟
– ما أنا ماشي عليهم.
من خلال السيارات التي تقطع الأسفلت الداكن لشوارع الخرطوم، تخيرت حافلة تمر من أمام المستشفى. كنت حتى هذه اللحظة أحاول أن أقنع نفسي بأني ذاهب إلى زيارة قريبتي المريضة. محاولاً تجاهل ذلك الإحساس الغريب الذي ظل يدفعني إلى تخيل عنابر المستشفى دائماً، راسماً أمامي منظر سرير عنبر انتظار الحوادث. ليس سرير حاجة التومة بل ذلك الذي تقاسمته أماني مع تلك التي أصبحت ملازمة للعنبر.. ضوة (هو اسمها كما عرفت لاحقاً وبمحض الصدفة). دائماً هكذا هي، قرفصاؤها التي لا تمل منها. خيالها الهارب إلى الأبد. حديثها يحاكي نضوب قلب مايا التي ما عادت تذكرني ولا حتى لماماً.
لم أستطع بكل إصراري مدافعة هذا الإحساس. وعند باب العنبر راوغت عيني كل من وما أمامها لتلقي نظرتها الأولى هناك. لم تجد جسد أماني الضخم عائقاً. ومن طرف السرير القصي لاح رأس صغير عرفت عليه ثوبها.. ما كان إصرار بقادر على كبح قدميّ عن قصد تجاهها. ولكن استطاع الرأس الآخر القريب منها أن يفعل ذلك. ضوة تجالس أحداً ما؟ حولت وجهتي إلى مكان القصد المفتعل. كانت حاجة التومة تجاهد لفتح عينيها. أشرفت عليها من موقفي، فتبسمت لي، ثم أغمضت عينيها في إغفاءة. حدثتني ابنتها أن المرض يشتد عليها. وأن الطبيب قد نصح بتحويلها إلى مستشفىً تخصصي. لم أستطع إلا أن ألقي عليها نظرة طويلة..فتحت فيها عينيها فتهلل وجه ابنتها وسألتها.
– يمة دا عرفتيهو منو؟
– هـ…..
جاهدت كثيراً لتنطق بالاسم كاملاً في حين لم تسعفها عافيتها بغير أول حرف. ثم عادت من جديد لتغفو ولكن في غيبوبة هذه المرة. جلست مع ابنتها على طرف السرير. لتعاود عيناي البحث عن بريق ضوة. كانت تجلس على الأرض قرب سريرها. وبجانبها شاب يبدو أصغر منها سناً. (قد استطاع اليوم أن يجعلني أراها تبتسم) من أنت يا هذا؟ (سؤال تمنيت أن أطرحه عليه، ثم تنبهت فجأة إلى سؤال أهم منه لم أطرح بعد) من هي؟ (تأتيني الإجابة بلا سؤال..
– واشرَّي الليلة أول يوم يجيها زول.
– هي منو؟
– الزولة الراقدة في السرير القصادنا دي.
– قصدك الزولة السمينة ديك؟
– أماني؟ لا لا. أماني أهلها قالوا ما عايزنها تقعد هنا نقلوها مستشفى خاص، أنا قاصدة المسكينة دي.
– هي أصلو ماعندها زول؟
– قالوا بي راجلها وعنده عيال كمان. لكن من يومنا الجينا هنا ما شفناه جا عليها.
– يمكن يكون مسافر.
– والله قالوا قاعد في البلد دي. ساق عيالو منها ومشا قال هي قاعدة تتمارض.
– وهسا المعاها دا منو؟
– ما بعرفو والله، أول مرة أشوفو.
لم تستطع عيناي أن تبتعد عنهما خلال حديثي مع ابنة حاجة التومة، وما استطاع حديثها أيضاً أن يقلل من فضولي تجاهها، وما استطاع شيء ما للهدوء سبيلاً في نفسي – هل هو غيرة؟ ومع انتهاء حديثنا، وكأنما كان ذلك مؤقتاً ارتفع الشاب الجالس قربها عن الأرض ومد لها يده مودعاً واتجه ناحية الباب. وعندها التفت إليها مرة أخيرة ليودعها بنظرة وانصرف.
***
رنين الهاتف يتعالى في منزلنا بعد أن انتصف الليل، ويرد أبي.
– دا منو المزعج دا؟ تسأل أمي.
– دي بت حاجة التومة، ضاربة من المستشفى.
– خير إن شاء الله. أمها حصل عليها شنو؟
– قالت تعبانة شديد.
– طيب مش أحسن تمشي عليهم، على الأقل كان حصل امر الله يلقوا زول جنبهم.
في ذلك الوقت من الليل خرجنا إلى الشارع. أنا وأبي نبحث عن سيارة أجرة يمكن أن تقلنا إلى المستشفى. قذفت إلينا الصدفة بجارنا العائد بسيارته من مناسبة لأهله. وعندما علم بمقصدنا صمم على أن يقلنا إلى المستشفى.
– بارك الله فيك يا مالك أخوي.
– الله يجزيك خير. هو الجار كان ما اتلقى في الحارة يتلقي متين؟
عند مدخل العنبر كان أول من صادفناه ابنة حاجة التومة. تتكئ على الحاجز الحديدي أمام العنبر، وتخفي عينيها عن المارة والجالسين. كانت تبكي بكاءً ممضاً.
– إن شاء الله خير. ما تبكي يا بتي. الفيها الخير ربنا يسويها.
– أمي تعبانة شديد يا عمي.
– إن شاء الله خير، الدكتور قال شنو؟
– قال لازم تتحول مستشفى تاني، لأنو هنا ما بقدروا يعملوا ليها حاجة.
تطاولت الإجراءات بين تقرير الطبيب و تصديق المدير المناوب وبين انتظار عربة الاسعاف. حركتي بين مكاتب المستشفى تجعلني أحس بنقص في هذه الزيارة. لم أكن قد دخلت العنبر حتى تلك اللحظة التي حضرت فيها سيارة الإسعاف.
– أها يا أخوانا الزولة دي معاها منو؟
– أيوة.
– يلا عشان تشيل معانا.
دلفنا إلى عنبر المستشفى. تقدمت الممرض وسائق الاسعاف. وعيناي تتسابقان إلى إلقاء النظرة الممكن تجاه مقصدي. كانت كعادتها بقرفصائها المعتادة وعلى السرير- حتى هذا الوقت من الليل؟ متى تنامين يا ضوة؟
تحركنا بحملنا على درجات مدخل المشفى، وانطلقت بنا السيارة. أبي في المقعد الأمام بجانب السائق والطبيب المرافق. وفي المقعد الخلفي جلسنا أنا وابنة حاجة التومة بجانب أمها المريضة.
– الحصل شنو؟
– بعد ما طلعت نتائج الفحص الأخير الدكتور قال الزولة دي كان ما لحقوها ما بتصبح للصباح. وأنا ما كنت عارفة أعمل شنو. إلا بارك الله فيهو أخو جارتنا في العنبر قعد مع الحاجة لحدي ما طلعت ضربت التلفون وجيت راجعة.
– دا منو دا؟
– أخو جارتنا ضوة.
– دي مش الزولة القليلة دي؟
– آي. تذكر آخر مرة جيت فيها مش كان في زول قاعد معاها؟ أها طلع أخوها.
– طيب كان وين من زمان
– والله ما عارفة لكن الفترة الأخيرة بقى يجي عليها مرة مرة.
استطاعت سيارة الإسعاف العتيقة أن تصل إلى المستشفى الذي يقع في أطراف المدينة خلال هذا الوقت. وتتابعت إجراءات أخرى.
– الطبيب المناوب ما موجود في مكتبو. قالوا في العنبر متابع حالة.
– طيب نعمل شنو؟
– والله مافي حل غير ننتظر، أو نمشي نفتشو في العنابر.
– أنا حامشي أفتشو
انطلقت أجوس خلال المستشفى الذيي أدخله لأول مرة في حياتي. أتساءل في كل عنبر أجد فيه شخصاً مستيقظاً.
– دكتور عادل جا ماري بي هنا؟
– كان هنا قبل نص ساعة
– ما شفتو الليلة
– ما عارف
إجابات عديدة مصحوبة بإشارات متعددة تلقيتها من ممرضي العنابر كلها تعبر عن مغزىً واحد (لم تزعجنا في هذا الوقت من الليل؟). ثم أخيراً.. وصدفة كنت أمر من أمام احد العنابر وأتساءل في داخلي: هل أواصل البحث أم أكتفي بما لقيته حتى الآن؟
برز شبحان هكذا فجأة خروجاً من أحد العنابر، كان أحدهما يلاحق الآخر في إلحاح يبدو على الآخر منه الضجر.
– يا دكتور يعني مافي أي طريقة؟
– أنا قلت ليك مافي أي حاجة بقدر أعملها ليكم إذا ما جبتو الدوا دا
– يا دكتور لكن أنا حاولت وما قدرت
– طيب أنا أعمل ليك شنو؟ أكتر من أنو أكتب ليك ورقة لي ناس الزكاة.
– هم قالوا ما عندهم ميزانية.
– ياخي المهم اتصرف
قدّرت أنه الطبيب المقصود. ولكن قبل أن أبدأ معه الحديث. تصادمت عيناي مع الخيال الآخر الذي كان يلاحق الطبيب. إنه هو. الأخ المزعوم لضوة. توقف عند ذلك عن متابعة الطبيب. وبينما توقف برهة يستجمع ما سكبه عند الملاحقة كان القهر قد دفع إلى عينيه بدمعة وحبسها أيضاً قبل أن تنحدر فبادر إليها بظهر كفه مسحاً. وألقى إلي ظهره بينما كانت قدماه تحاولان العودة إلى حيث أتى. مر عندها الطبيب قربي، لكن ظلت عيناي معلقتان بوجه الشاب الذي كانت خطواته أضعف من أن تعيده إلى مقصده. فكانت خطواتي أسرع منه.
عندما لحقت به، لم أشأ أن أستوقفه. ولم أكن أدري ما يمكن أن أقوله له. فدخلت إلى العنبر الذي يقصده مستبقاً له عليّ أجد بداخله ما يبرر وجودي في هذا المكان في هذا الوقت. كان العنبر غارقاً في صمت تشقه حشرجة تنفس ثقيل لرجل بدا لي أنه قد أتى من خارج الزمان. كان الوحيد المستيقظ في العنبر. يجاهد كي يجلس على سريره، كأنه يجاهد القرون التي يحملها على كاهله. وقفت أتأمل هذا المنظر عند المدخل. أحسست بدفء إنسان من خلفي، فالتفت فإذا بذات العينين أو هكذا خُّيل إلي، عينيها – ضوة في مواجهة عيني!.
– ممكن لو سمحت يا أستاذ؟
أفسحت له المجال ثم لم تستطع خطواتي إلا أن تتبعه، كان يسير مسرعاً نحو المريض المستيقظ وأنا من خلفه. وقبل أن يصل كل منا إلى مقصده كانت حشرجات تنفس الرجل تخفت رويداً رويداً حتى انقطعت بصرخة الرجل.
– ضوة أختك آااالحسين.
كان يخرج روحه بين حروف تلك الصرخة التي أخمدت أنفاسه تماماً، وكان الحسين يسرع إليه ربما ليمنع الموت عنه أو هكذا كان يأمل.
– يابا……………
انتقل التسارع منه إلىّ أيضاً. لا أبحث عن سبب لذلك بل أريد أن أسرع إليه فقط. لكن وهنه كان أسرع منا أنا والحسين، وكان ما استطعنا أن ندركه منه هو التماعة عينيه الأخيرة. أو مرور ضوة عبرهما وهو في طريقه إلى الله.
تسمرنا أمام الفراش لبرهة، ربما كانت طويلة أوربما لم تكن أصلاً. تحسس الحسين ما تحت السرير. ليجذب جوالاً مكتوباً عليه عبارة “سكر كنانة” يبدو أنه كان أقصى ما يملكه ليمده على جثمان أبيه، ودون أن يهتم لوقوفي قربه، انسحب خارجاً من العنبر ليجلس على الأرض ممدداً رجليه عبر الممر، وظهره إلى الحائط ليطلق لعينيه ودمعات قهرها العنان وترك حلقه للغصص ترتع فيه كما تشاء.
ضوة.. من كان لك؟ ومن لك الآن؟
* كاتب من السودان