أيام الخرطوم الأخيرة
[ كانت الأيام الأخيرة* في الخرطوم التي سبقت سقوطها عصية على أهلها، فانعدم الغذاء حتى أكل الناس الكلاب والحمير، وتفشت الأوبئة، وتناثرت جثث الموتى في الطرقات. حتى أعلن غوردون باشا عن منح عشرين قرشاً لكل من يقوم بدفن جثة، وكانت المدافع تقصف المدينة تباعاً فتبعث الرعب واليأس، وازداد تسلل الناس وانضمامهم لمعسكر المهدي، ثم بعث المهدي إنذاراً أخيراً إلى غوردون في الخامس والعشرين من يناير قال فيه : “فإن النصائح تتابعت إليك ولم تلق لها بالاً، والدلائل ترادفت عليك ولم تزدك إلا ضلالاً، لأن الحق يغشى قلوب المؤمنين ولا يزيد الطاغين إلا خسارا” ].
(محمد سعيد القدال ، تاريخ السودان الحديث)
إلى بشرى الشفيع خضر
كل شروقٍ للشمس هو بداية مبكرة لغروبها. أية ولادة هي طريق ينتهي بالموت. لكنني لم أمت بعد. كنتُ ممدداً على الفراش ليس إلا. بينما ينسحبُ الضوء تدريجياً عبر النافذة التي كانت تعُد في الخارج عتمةً جديدة. لكنها هذه الليلة كانت أكثر ضراوة.
مرّت قيلولتي بلا أحلام. توقفتْ المروحة تدريجياً وتحول السكون التام في الغرفة إلى عتمة خانقة تليق بظهيرة في ساعة كسوف. استيقظتُ وكأنني لا أزال نائماً. أشرعتُ جفنيّ عن آخرهما فعجزتُ عن رؤية أي شيء. أية محاولة لتشغيل المصباح كانت بلا جدوى. لقد نفذتْ الكهرباء.
شعرتُ بكسلِ روحٍ مغادرة تعجز عن تحريك جثتها. خلعتُ قميصي وألقيتُ به كيفما اتفق وكذلك فعلتُ بالبنطلون. مدتُ يدي في حدود الوسادة كأعمى يتحسس حدود أطرافه بحثاً عن الهاتف. كانت الساعة تشير إلى الثامنة إلا ربعاً. نمتُ فوق العادة. فتحتُ واتساب متصفحاً الرسائل الجديدة. مجموعة المحادثة التي كانت تضم أفراد عائلتي ازدحمتْ بوابلٍ من رسائل المجاملات والصور المنتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي لفساد الرئيس وحاشيته. مجموعة ثانية كانت لزملاء دراستي في الجامعة وأخرى لزملاء العمل استغلتْ غياب الإناث منها وامتلأت بالنكت الجنسية والألفاظ التي لا يجدر بالرجل «المحترم» التلفظ بها أمام امرأة ليست زوجته. تثاءبتُ إلى أن وجدتُ رسالة من ابتهال. فاجأتني على اقتضابها بعد فترة انقطاع طويلة بيننا : “وينك؟”. كتبتُ فور قراءتي لها : “في البيت إنتي وين؟”. كان البرنامج يشير إلى أن آخر مشاهدة لها على الخط كانت قبل ساعة. أخذتُ أنتظر حتى تقرأها لأتأكد من كونها على قيد الحياة أملاً فيما يسريّ عليّ مساء هذا الخميس الرتيب إلى أن خانتني بطارية الهاتف أخيراً بإنذارها أنها تضاءلتْ إلى ١٥٪ فأطفأتُ مؤشر الإنترنت محاولاً الحفاظ على رمق البطارية الأخير.
خلعتُ سروالي الداخلي وأنا أجر ساقيّ إلى الحمام. أخذتُ دشاً فاتراً أيقظ أطرافي ودهمني بشحنة من النشاط. استمنيت وأنا أتذكر عبوس فتاة حبشية من الوجع استطعتُ أن أخطفها قبل شهر من الطاولة التي تجلس خلفها لبيع المشروبات الساخنة في شارع الصحافة لنتضاجع بشغف مقابل مائة جنيه ووعد بأن أكون زبوناً دائماً لمقاعدها. همستُ وأنا أقذف “تقست” وتراجعتُ فوراً عن رغبتي في شرب القهوة بحي الدِيم ما أن لطخ سائلي جدار الحوض .
ساد صمتٌ أثقلَ من وطأته الليل الحالك وتوجب عليّ الذهاب لفرع شركة الكهرباء لشراء رصيدٍ منها لمواصلة الحياة المدنية المتوقفة. أمي ليست هنا. ما دفعني للاشتياق لسماع بعض الإلحاح قبل أن أُهم بالذهاب. كانت تقضي عطلتها على مسافة تفصل الجحيم عن الفردوس برفقة أختي المتزوجة من مغترب في الإمارات. من المضحك أن أصف سفر أمي بالعطلة، وكأن لها مهنة غير البقاء في المنزل والطبخ والغسيل وتبادل النميمة مع جاراتنا. منذ أن قرر والدي أن الحياة في السودان لا تستحق أن يقضيها المرء مريضاً بالسكريّ وارتفاع ضغط الدم في سنين تقاعده المملة، ففر هارباً ونزل على جانبه الأيمن في حفرة ضيقة في مقابر فاروق اختفى فيها من سأم الحياة في المرض.
فتحتُ اللاب توب أملاً في ملئ الغرفة الشاغرة بخلفية موسيقية ما. أحبطني هو الآخر ببطاريته الموشكة على النفاذ والتي كانت بالكاد ستسمعني أغنيتين أو ثلاث قبل أن ينام. تملكتني رغبة غامرة في الاستماع للموسيقى. كان الأمر ليكون مرهوناً لأي فنان قبل أن أشعر بحنين مفاجئ لصوت محمود عبد العزيز. لم تكن ذاكرة الكمبيوتر تحوي أي أغنية له. فضلاً عن نفاذ البطارية، فيما ازدحمتْ ذاكرتي أنا بأغاني عديدة له. بكلماتها وألحانها. لولا أن صوتي كان يقتصر في قدرته الطربية على مجموعة من الصُم. تذكرتُ جهاز الكاسيت القديم والشرائط المردومة بالغبار في صندوق من الكرتون يحتل مساحة شاغرة تحت سريري مع الكثير من الكراكيب والهتش ما من سبب عملي للاحتفاظ بها سوى الحنين وحب التملك. نحن نعبد الكراكيب. خصوصاً تلك التي ورثناها عن أبي. لم يترك لنا سوى بيت من خمسمائة متر في نمرة ٣ وقطعة أرض منسية في الجريف اكتشفتُ في آخر زيارة تفقدية لها أنها تعرضتْ للاحتلال من أرملة نويراوية نصبتْ فيها خيمة كانت بالكاد تؤوي أبناءها الأربعة الذين يقتاتون من ريع بيعها للعرق. كانت تصنعه وتعبئه في قوارير البيبسي والكوكاكولا التي تفقد هويتها ما أن تمتلئ بالسائل الكحولي الشفاف. بجودة قل مثيلها بعد استقلال الجنوب ونزوح أغلب الجنوبيين إلى دولتهم الجديدة الممتلئة الآن بالحانات والنوادي الليلية وخمور مستوردة من كينيا وأوغندا. ذلك الحسد الدفين كان من جملة السمات الاجتماعية التي لطالما جعلتني أتمنى لو كنتُ جنوبياً. قبل أن تندلع الحرب هناك مجدداً بين رفاق التحرر، لأقنع بهويتي التعيسة هنا في الشمال.
مكانٌ شاغر لبطارية واحدة في أحشاء الآلة كان يفصل بين صوتها وأذني. لم أكن قد استخدمتُ المسجل منذ شرائي لأول جهاز كمبيوتر قبل عشر سنوات. واصلتْ أمي استخدامه لفترة طالت قليلاً. لكنها هي الأخرى اعتادتْ التقنية الحديثة وصارت بارعة الآن في ملاحقتي يومياً ورشقي بوابل الرسائل المجانية عبر برامج المحادثة على الإنترنت حتى بات لديها حساب في فيس بوك اضطررتُ إزاءه لإنشاء حسابٍ آخر وهمي حتى لا أقع في حرج عدم قبولها في قائمة أصدقائي، وتعريض كتاباتي وصوري لفضولها وحبها الدائم للتلصص على خصوصيتي. تحديداً علاقاتي النسائية. بعد أن صرّحتُ لها معترفاً بعدم رغبتي في الزواج قبل أن أصبح مليارديراً، أو أن تقع في حبي ابنة ملياردير.
خرجتُ قاصداً دكان صالح وأنا أحاول تذكر آخر مرة اشتريتُ فيها بطاريات. كانت حدقتاي قد اتسعتا تدريجياً وصار بمقدوري رؤية الأبعاد. لم يكن القمر قد أشرق بعد عندما اكتشفتُ أن الحِلة بأسرها كانت تعاني من انقطاع التيار الكهربائي. رغم ما يشكّله ذلك من صعوبة. كون انقطاع التيار عن منزلي ليس بالأمر الذي يمكنني أن أنهيه بشراء الكيلووات بالمال. إلا أن إحساس المشاركة في الأزمة مع جيراني أشعرني أكثر بالتضامن وأقل بالسأم.
كان صالح يبيع بضاعته في الدكان العتيق منذ أن كنتُ في المدرسة. يجلس على بمبر قصير من المعدن مع جمع من الجيران الذين كنت أعرفهم بالاسم. سنوات من المآتم والأعراس والسمايات والأعياد كانت كفيلة بأن يعرف أكبر شيخ في الحِلة أصغر غلام فيها، ورغم توقفي عن صلاة الجمعة في المسجد إلا أنني لا زلتُ أحتفظ بعلاقة ود مع الجميع. خاصة أن لوالدي حظية لدى أغلب الجيران بسمعة لم أبذل أي مجهود لتوارثها والحفاظ عليها في سلالته. سلمتُ عليهم واحداً واحداً بمزيد من الإجلال يناسب أعمارهم سائلاً صالح:
– بلقى عندك حجار بطارية ؟
– البركة في قطعة الكهربا الخلت الناس تتذكر البطاريات.
تدخل أستاذ خوجلي العجوز الذي درسني لعامين في مرحلة الأساس :
– قالوا الكهربا قاطعة لغاية بُريّ.
– موت الجماعة عرس!
علّق عوّض. الذي كان أصغرهم سناً وأكثرهم ثراءً لعمله في قطع غيار الركشة.
أطلق عم صالح صيحة “يا قنديل” ووجه من مقعده فتاهُ الذي كانت تبتلعه رفوف الدكان بغبارها ليبحث عن البطاريات. كان في وقفته خلف لهب الشمعة يضاهي ظله في سواد البشرة حتى لبدا هو الآخر ظلاً لعم صالح في دكانه. ما كان يشكل مفارقة مُرّة مع اسمه المضيء بينما تختفي ملامحه تماماً في العتمة. لا أذكر أنني تبادلتُ حديثاً مع هذا القنديل تجاوز عبارات السلام الرتيبة منذ أن جاء به عمه العجوز إلى هنا. خالد. كان أحد الخدم في بيت أبي صالح، والذي ربطه حبل الرق الرمزي بعائلة مالكيه القدامى وقرر من تلقاء نفسه التحرر منهم بعد أن أسكرته مريسة اتفاقية السلام بالكثير من الأمل الكاذب، وعاد إلى قطية من القش في سفح أحد جبال النوبة التسعة والتسعين. قبل أن يعود مع اندلاع الحرب مجدداً بين عشيرته والحكومة فيما بدى لوثةً نسي الجنوبيون أن يأخذوها معهم إلى دولتهم الوليدة. عاد خالد بصحبة هذا الشاب. الصامت دوماً والمغلوب على أمره. كانت الأقاويل المتداولة تبرر عدم رضاه بنعمة الأمان في العاصمة بطموحه الطبقي الذي لم تتسع له جدران دكان صالح. يعزز ذلك حصوله على درجة البكالوريوس في تخصص ما من جامعة كادوقلي. لم أكن متأكداً إن كان في جنوب كردفان كلها جامعة أم لا، ولم أرتكن إلى سهولة أن التأكد من صحة تلك الأقاويل يرتهن فقط إلى سؤال عم صالح عنها أو حتى قنديل نفسه، فهو لم يكن يعنيني في شيء، وكل ما أردته منه هو أن يناولني ما سيفيق الحوت من أعماق بحره ليغني بصوته الجهور في غرفتي.
سألني عن المقاس الذي أرغب في شراءه وهو ينفض الغبار عن العلبة عندما قررتُ احتياطاً أن أشتري أربعة أصابع جديدة. بدلاً من محاولات العض بالزردية على البطاريات القديمة أملاً في تنشيط شحنتها بالطرق التقليدية، وما تقتضيه في حالة عدم نفع العض أن يتم الاحتفاظ بالبطاريات لفترة من الزمن في رف الثلاجة. التي آلتْ درجة حرارتها الآن إلى ما يليق بخزانة ملابس. نقدتُه ورقة لم أتبين تحديداً فئتها قبل أن يعيد لي الباقي دون أن أعدّه. ضحك صالح على نكتة سخيفة ألقى بها عوّض فيما شيعتهم بابتسامة مقتضبة عائداً باتجاه كلابٍ استغلتْ الظلام لاحتلال الصدى بنباحها في أزقة خلت بدورها من المارة.
أربعة شرائط بأسرها وجدتها لمحمود عبد العزيز لم يشفع شرائي للبطاريات الجديدة لكي يعمل المسجل ويوقظها. نسيانه مركوناً في تقاعده ذاك قتله كليةً. وجدتُ الكثير من الشرائط القديمة التي لطالما أطربتني في الصغر. شريطان لفرقة البلابل. الماستر: ألبوم من توزيع يوسف الموصلي لطالما قتلتني كمنجاته في أغنية «أقول أنساك» وما تذكرني به وبما يود العاشق الخائب أن ينساه. حتى مع الشخشخة الصادرة من الشريط وكأنها مؤثر صوتي مقصود لإثارة الحنين لزمن آفل. تحديداً عندما ينقلب اللحن عند الجملة الموسيقية :
“حبك عشته من أول .. من زمناً بعيد طوّل
ما بقدر أسيب حبك .. أغيب عنك بعيد وأرحل”.
الآخر المنسوخ كتب على ملصقه بقلم أزرق جاف «البلابل والكابلي». أتذكر منه عن ظهر قلب قصيدة منسوبة ليزيد بن معاوية اتسقت كلماتها الكلاسيكية بغرابة مع اللحن وهي تغنى على الإيقاع الخماسي. شرائط لألبومات مختلفة لفرقة الجلاد قبل أن ينفرط عقدها. تسجيلات لحفلات محمد الأمين في لندن والدوحة. محمد وردي بالطبع، أحدها كتب عليه بنفس القلم “طنبور رطانة”، وجلسات بالعود لزيدان إبراهيم ومصطفى سيد أحمد، وشريط نادر لأغاني بالأمهرية لحنان بلوبلو قبل أن تتزوج محمود عبد العزيز الذي صار صوته يحكني من داخل جمجمتي فيما يشبه نوبة المدمن إلى الجرعة. كنت لأستسلم للملل بصحوة المستيقظ للتو قبل أن أتذكر أن جهاز المسجل في سيارتي لا يزال يعمل، فخرجتُ.
يا روحي..
لأنه..
لأنه..
لأنه قاسي عليّ
أنا يا حبيب روحي
يا روحي..
في حكمك
لأنه..
لأنه قاسي عليّ
أنا يا حبيب روحي
يا..”
أدرتُ المحرك لأقف في حالة التأهب دون أن أضيء مصابيح السيارة أو حتى جهاز التكييف المعطل. أخرجتُ عرنوس البنجو الأخير من الدرج وبعد تنظيفه من البذور لففتُ سجارة سرعان ما أشعلتُها وأنا أدوس على البنزين لأفسّح السجارة. بدأ الخدر يتسلل إلى رأسي شيئاً فشيئاً وأنا أتحرك خارجاً إلى شارع الصحافة. أقود ببطء فيما يزحف صوت محمود الشجيّ في طبقاته العليا، والرخيم كلما تراوح في المساحات الدنيا. شيئاً فشيئاً داخل رأسي. أنفثُ الدخان من النافذة في اتجاه مصابيح الرصيف النائمة. فيما تستيقظ نجوم السماء للسهرة، وتلمع على غير العادة فوق شوارع الخرطوم. أغلق النوافذ لأحبس رائحة البنقو. كان محمود على المقعد المجاور لي مواصلاً الغناء. يسرح بعينين لا تحدقان في شيء بعينه فيما تخرج الكلمات بعذوبة من حنجرته. يدوخ رأسه مع اللحن فأرى خلف رأسه طول خصلات شعره اللامعة والممسدة بعناية قبل أن يعيد جمجمته للخلف في الوقفات ليرتطم بمسند المقعد ويواصل إطفاء عينيه كمن يغفو. عوض أحمودي في الخلف يعزف على العود وهو يهز رأسه باستمرار بنظرة إلى السقف تغيب عن الضوء خلف نظارته المعطلة. من ورائي تماماً عازف إيقاع مغمور لا أرى وجهه. أغنية الحقيبة العتيقة التي لا أستمع إليها إلا من فم محمود تنبض مع ضربات قلبي فيما تستوحذ علي سعادة السَطل المؤقتة. مبتسماً للبيوت والدكاكين التي امتلأت بمصابيح البطارية وألسنة الشموع، والسواد يلتهم المشوار دون أن ينتهي إلى ما يفوق في حجمه الشرارة. تندلع أغنية أخرى في الوقت نفسه فيلتفتُ إلي الحوت منزعجاً من التداخل. النشاز لا يوقف عوض عن ضرب أوتار العود لكنه يشوشه. أتبين رنة هاتفي وأنا أبدل تروس السرعة في اتجاهٍ بلا هدف. أتناول الهاتف. إنها ابتهال.
– ألو ؟ أنت وين يا دين ؟!
– ويـــــــــن يا بهلولة ؟!
أشد الياء ابتهاجاً بصوتها فيما تقضمها عندما تصمني بالدين. قطعتُ من رأسي كنية لم يسبق لي أن ناديتها بها. «بهلولة» فتضحك. لم أنطق بأي جملة إضافية فعرفتْ ما يدور برأسي من سحابات البهجة، فاعترفتْ :
– مُشتهياك
– أنا كلي حقك
– طيب تعال ياخ!
– إنتِ وين ؟
– سألتني في الواتس نفس السؤال ورديت عليك لكين إنتَ اختفيت.
أردتُ أن أخبرها أن الهاتف يحتضر، وأن الحياة بلا كهرباء تليق بطريق سفر ينتهي في حقول السمسم بالقضارف. لكن اختصارها لاسم البرنامج بذكر مقطعه الأول وقف في حلقي كلقمة أكبر من قدرتي على البلع. أكره من يسمون فايس بوك بالفيس، وواتساب بالواتس، وعبد الله بالعبد، فسألتُها بعد هنة :
– الكهربا قاطعة عندكم برضو ؟
– إنت عايش وين ؟ الكهربا قاطعة من الخرطوم كلها.
تأكدتُ من ذلك ما أن لففتُ المقود وعدتُ شمالاً باتجاه شارع القيادة العامة. قدتُ من الخرطوم ٢ حتى امتداد ناصر في ظلام حالك أنقذتنا من حوادثه مصابيح السيارات. كل المباني ملثمة. حتى منشآت القوات المسلحة بامتداد الشارع الذي كان يصب في النيل. مررتُ بجوارها كشبح. مبنى القوات البرية على شكل طابية محاصرة. مبنى القوات البحرية على شكل قارب على وشك الغرق. وحده مبنى القوات الجوية وسقفه البليد الذي يبدو وكأنما حطت عليه طائرة بالفعل كان مضاءً عن آخره باستثناء غريب. الرمزية الساذجة لمعمار هذه المنشآت عديمة الجدوى ذكرتني بما قاله لي صديقي محمد حمد ذات مرة ونحن نعبر أمام المنطقة العسكرية الأخطر في البلاد:
– هنا بيبنو في مبنى على شكل عين.
– وده شنو ده كمان ؟
– مبنى الدفاع بالنظر!
يضحك محمود عبدالعزيز حتى الدموع ما أن أتذكر سخرية صديقي على تصريح وزير الدفاع السابق. الذي تفوه به في لقاء تلفزيوني مصوّر ومنقول للملأ. أعقب قصف سلاح الجو الإسرائيلي لقافلة عسكرية في شرق البلاد كانت تهرب سلاحاً لقطاع غزة. مبرراً غياب الدفاعات الأرضية ورصد الهجوم بالرادار إلى اعتماد جنوده في مراقبتهم على العين المجردة، وأنهم كانوا على استعداد لصد الهجوم الغاشم لولا أنهم كانوا يؤدون صلاة العشاء فيما كانت طائرات العدو المهاجمة قد أطفأت كشافاتها.
أضحك مع محمود وأواصل القيادة حتى شارع عبيد ختم. يعلق أحمودي من الخلف بأن قواتنا المسلحة عاجزة عن صد أي هجوم خارجي. لا الحفاظ على حلايب من المصريين، ولا على الفشقة من الأثيوبيين، ولا على بقايا السيادة الوطنية المزعومة من الإسرائيليين، ولا حتى من أي مليشيات محلية أو مجاورة. أندهش من رأي أحمودي وأوشك أن أغمز بالتساؤل عما إذا كان قادراً على قول ذلك في إحدى الحلقات الكثيرة التي يظهر من خلالها على التلفزيون. أتراجع عن ذلك في رأسي مواصلاً الضحك. أكتفي بالقول بأن الجيش بارع فقط في قصف المدنيين والعزل في الأطراف المنسية. يصمت محمود فأدرك أنه استاء من انجراف بهجة البنجو إلى السياسة. أقف في أول إشارة مرورية بلا أضواء فيما يبدأ سياج المطار في الظهور على اليمين. أتذكر كيف حطمناه يوم جنازة محمود. ألتفتُ إليه لأسأله إذا ما كان قد سمع أصوات هتافنا الساخط وكأننا نزلنا في مظاهرة غضب من الله الذي خطف منّا تسجيتنا اليتيمة في هذا العالم، مكرراً فعلته بعد أن أسقط طائرة جونق قرنق، ولم يبق إلا على من يؤدون أدوار الشر في الفيلم المسيخ. لا أجد محمود. المقعد فارغ. رأسي يتخلص من سحابة البنجو الأخيرة التي تتبخر ما أن تنطلق أبواق السيارات المزعجة من خلفي وهي تحتج على توقفي أمام مصباح الإشارة المعتم. فأستاء من السياسة التي تتسلل عفانتها حتى إلى خيالتي وحيداً.
فوضى مرورية. لا أحمر ولا أصفر ولا أخضر. مصابيح سوداء وزحام عبثي كأنه القيامة. بطارية الهاتف تقل عن ٧٪ وأنا أسابق الوقت للوصول إلى بيت ابتهال. أستعيد وعيّ تدريجياً وأتذكر طريقاً مختصرة لا أدري إلى أين ستنتهي حتى تجلس ابتهال بجواري بكامل حضورها.
لم أنتظر كثيراً أمام مطعم الموناليزا الذي لم يكن يقدم البيتزا ولا الباستا بل الكوارع. الفكرة وحدها كانت قادرة على تبديد الجوع من رأسي. كيف لأشهر لوحة في متحف اللوفر أن تكون اسماً لمطعم يقدم حساءً من حوافر المواشي ؟ كنت أرغب في طرح السؤال على ابتهال فقط لإثارة السخرية لكنها ما أن فتحت الباب.. أن أرى تلك الابتسامة مجدداً وحضنها المدبب الذي لطالما زغزغ رغبتي للغرق في حضنها حتى النوم، بذاك العطر الذي لا تحسن أن تغوي بغيره.. نسيتُ ما وددتُ قوله. لومها وسبابها كان يليق أكثر بابن عمتي لا بصديقة قديمة. لطالما رغبتُ أن تتطور علاقتنا إلى ما هو أبعد من شكوة كل منا للآخر من قصصه الغرامية الفاشلة والمآسي التي ينتهي إليها وقوعنا بالحب. ثمة فراش ما كنا نتفق ضمنياً على أن لا نتوسد كلمات الغرام فوقه والاكتفاء بالونس. في شكل من العلاقات لم يكن قد سبق لي أن اختبرته مع فتاة. أشتهيها وتشتهيني. لكننا نخشى أن نتخذ أي خطوة في اتجاه اشعال الشرارة إلى آخرها مخافة أن نحترق.
كل شيء كان كلا شيء. الخرطوم عمياء تماماً لدرجة توقفت فيها عن الانشغال بالتهديد ونحن نعبر عن أبسط رغباتنا. قبلتُها على خدها محاولاً استطعام أحمر الشفاه في طرف فمها دون أن أراه، وكأنني أختبر منعتها. لم تكن قبلة كاملة في الفم لكنها راوحت الأطراف وهي لم تعلق، ومارسنا تنقيب الظلام.
عدتُ باتجاه شارع أفريقيا ملتفاً على المطار من جانبه الآخر عندما أدركتُ أن البقاء وسط الخرطوم يعتبر إهداراً لهذه الليلة الاستثنائية من الضياع. كان شريط الكاسيت قد انقلب إلى جانبه الآخر داخل المسجل في اللحظة التي أنهتْ فيها ابتهال آخر شعلة من اللفافة. قامت بحركة لا إرادية بأصابعها محاولة إنزال طرحة لم ترتديها أصلاً. ضحكتُ بمفردي دون أن تعلق مكتفية بإرجاع مقعدها إلى الخلف مختفية عن أنظار مارة وعابرين ما كانوا لينشغلوا بها في لجة الفوضى. لطالما أحببتُ رغبتها الدفينة في التخلص من كل شيء يعيقها. في التعريّ. رغم أنني لم أرى أبداً حدود جسدها إلا ملثمة. كانت قد وصلت أخيراً إلى حالة الغياب فيما تزداد وطأة حضورها على خاطري.
نطقتْ بعد فسحة من الزمن لم أشعر بوطأة مروره :
– عايزة شيشة.
دائماً ما تعبر عن رغباتها المفاجئة فور بلوغها للخاطر. قبل عامين. كنا نجلس بجوار سيدة تبيع الشاي في شارع النيل. تحديداً عند التلة في آخره قبل الالتفاف لشارع أوماك. عندما بدأ ثلاثة فتيان ممن يعملون في غسل السيارات بتشغيل أغنية من مسجل سيارة برادو كانوا يعملون عليها وفوجئوا بأن الأغنية كانت لنجاة غرزة وعازف الأورغ الربع، فرقص ثلاثتهم في وسط الشارع ببناطيلهم المشمرة ودلاقينهم المبلولة. كان مشهداً مبهجاً دفع الجميع إلى الضحك بمن فيهم صاحب السيارة. ابتهال المجنونة قفزت باتجاههم وأخذت في الرقص. اندلعت صيحات مرعبة كالتي تخرج من شاحنات نقل الجند عند أداء الجلالات، وقبل أن تصل أية سيارة نجدة كنت قد دفعت الحساب وخطفتها. لم أكن بعد قد اشتريتُ سيارتي المازدا فاستقلينا الأمجاد.
صاحت بيأس: عايزة أرقص!
وأخذتْ تحكي بأسى في سيارة الأجرة عن عطلتها السابقة بالقاهرة. عن النوادي الليلية التي ارتادتها، وشوقها إلى تلك الليالي التي كانت تسهر فيها حتى ساعات الصباح الأولى منهكةً من الشرب والرقص دون أن يقف على باب الفندق منتظراً رقيبٌ أو حسيب. تفحصتُ ثيابها، وسألتُها إن كانت تمتلك فستاناً للسهرة: أكيد! قالتْ، واتجهنا إلى امتداد ناصر.
بعد ساعة. كانت ابتهال في ثوب سهرة أزرق . يكشف ظهرها بشكل مثير للمشاكل والعسكر . ما جعلها تغطيه بشال خفيف من الساتان كانت نظرتي له لاتزيد عن كونه ورقة توت . لكنني اختطفتها إلى قاعة أفراح ما في حي العمارات . دخلنا . تناولنا العشاء أولاً ثم دخلنا إلي ساحة الرقيص لنسلم على العريس والعروس – لم نكن نعرف أياً منهما – مستغلين حالة الفوضى التي يمثلها حضور عشيرتين ترتبطان للتو برابطة النسب . اضافة إلى الزملاء والأصدقاء من الجانبين ، ورقصنا مع الفنان وفرقته الصاخبة دون أن يلتفت أي شخص إلى كوننا غريبيين تماماً عن حفل الزفاف . المكان الوحيد الذي كان يوفر لابتهال الشعور أنها في نادي بموسيقى حية.
في العادة كنا نقوم بتدخين الشيشة في بيت أحد أصدقاءنا المشتركين. غامرنا مرّة أو مرتين بالتدخين في مطعم فينسيا المطل على النيل. كان يشكل قدراً من الحماية لأنه كان تابعاً بصورة ما للجيش. رغم أن تدخين الشيشة في الأماكن العامة كان ممنوعاً حتى على الذكور. أصحاب الامتيازات الأعلى في البلد. في حالة الفتيات فهن دائماً عرضة للاعتقال. خصوصاً إذا كن كابتهال. من اللاتي لا يولين اهتماماً باحترام الزي المحتشم. متجاهلات للف رؤسهن بالحجاب أو ممن يتجرأن على الخروج من منازلهن ببنطلونات الجينز. كأن أي فعل يقوم به الإنسان لعيش حياة طبيعية هنا هو خرق للقانون. للعادات والتقاليد. وحده القتل، وتشريد الآلاف من قراهم واحتكار الثروة وسرقة المال العام كان أمراً عادياً. كان سياسة الدولة.
توقفتُ على بعد عشرات الأمتار من بوابة الوصول في المطار. تذكرتُ قرمبوز عندما قال ذات مرة ونحن نقف في شرفة بمقر السفيرة الهولندية ذات حفل : البلكونة دي مطلة على أحلى مكان في السودان.
– وين ده ؟
أشار باصبعه باتجاه مباني المطار قائلاً: صالة المغادرة.
انتبهتْ ابتهال لتوقف السيارة. التفتت لليمين فرأت مدخل نادي التنس. سألتْ : حننزل هنا ؟
أشرتُ للناحية الأخرى من نافذتي. كان هناك ما يشبه الحديقة في المساحة الفاصلة بين حي المطار وشارع أفريقيا. أشجار من النخيل كانت تؤوي تحتها في الهواء الطلق عشرات الكراسي البلاستيكية لسيدات يبعن الشاي وشبان يتجولون حاملين لأنابيب الشيشة المعدنية وقللها الزجاجية. لم يكن باستطاعتنا إلا أن نميز حمرة الجمر وأضواء السيارات في الخلفية. كانت دامسة تماماً :
– يلاّ!
تجاسرنا ونزلنا. مساحة الغياب التي توفرها العتمة إضافة للتجاهل الذي عيشتنا فيه غيبوبة البنجو كافية لألا ينتبه أحد إلى أن ابتهال امرأة. رغم أن كل من يبعن الشاي كن نساء. إلا أن انحصارهن خارج مرتبة الزبون. انتمائهن لشريحة لا تُصنف هنا ضمن «بنات الناس» و«أولاد القبايل» كان يجعل من تواجدهن كخادمات مسموحاً. رغم أن كل ما كان يجعل من ابتهال ممنوعة من ارتياد مكان كهذا – لحماية سمعتها – كان متوفراً فيهن إلا مدى سواد البشرة. معيار التصنيف الأكثر عبثية في بلد نالت اسمها لسواد بشرة أهلها.
طلبتُ لها شيشة ممتنعاً عن مشاركتها. لم يعلق الشاب على وجود ابتهال بملامحها المموهة مع انعدام الضوء. فيما أكدتْ هي عليه بحرص : “نعناع صافي!” واختفى إلى بقية شأنه ما أن وضع أمامها الشيشة. فيما طلبتُ أنا من بائعة الشاي فنجاناً من الجَبَنَة. كان الكافيين مواتياً لمزاجي ساعتها. بينما شعرتْ ابتهال أخيراً ببهجة التدخين في الشارع وسط الجموع.
على عكس بقية العاصمة. كانت هذه المساحة مستقلة عن سلطات محلية الخرطوم وموظفيها المدججين بشرطة أمن المجتمع. مثلتْ تلك الفسحة استراحة للجنود وصغار الضباط من العاملين في جهاز الأمن والمخابرات الوطني الذي لم يكن مقره الرئيسي بعيداً، ورغم ما يمثله جنوده من الرعب لأي كان. كانوا هنا يجلسون بشكل مسالم بينما يدخنون الشيشة ويشربون الشاي ويتسامرون كأي بشر طبيعيين. حتى أولئك الذين يرتدون زيّ قوات الاحتياطي المركزي. كانوا هنا يرفهون عن أنفسهم ويضحكون. متخلين عن قدرتهم على التحول إلى وحوش وأشباح. بل وينقدون الباعة ثمن مشروباتهم ودخانهم. في أرخص مقهى يمكن أن يرتاده المرء في الخرطوم ٢. لأن زبائنه لم يكونوا كأي زبائن. كانوا «أسياد البلد».
أمسكتْ ابتهال بيدي متجاوزة حدود المروءة. مواصلة إخراج الدخان من فمهما بأريحية تامة كتنين أليف. شعرتُ لأول مرة بالسعادة في الشارع. كنتُ أحدق إليها صامتاً خيفة أن ينتهي الأمر باستيقاظي في فراشي. عندما ترامى إلى أذني صوت شخص يجلس في الجوار:
– قالوا الجبهة “السَّورَّية” ضربت سد مروي!
يبدو أن الشائعات قد انتشرت أخيراً:
– الجبهة الثورية دي مش في الغرب. الجابها الشمالية شنو ؟
– يا زول إنت نسيت ؟! قبل ستة سنين دخلوا أم درمان عديــــــــل كده!
– الله يستر ما يجو تاني!
– شكلو كده.
تذكرتُ تلك الأيام. كانت بيانات حركة العدل والمساواة قد أسمت تلك المعركة بـ«عملية الذراع الطويل». التي انتهتْ بمجزرة قتل فيها أطفال مدججون بالسلاح على مركبات بيك أب استطاعتْ بشكل مفاجئ أن تخترق غرب العاصمة في غفلة من الجيش وأجهزة الأمن. انتهتْ المعركة فوق جسر يفصل كلية القيادة والأركان عن غابة السنط في الخرطوم بانتصار قوات جهاز الأمن، وانتشرتْ الأساطير بعدها عن أولئك المقاتلين التائهين. الذين استطاعوا أن يقطعوا المسافة الساحقة من تخوم تشاد حتى وادي النيل في ليلة واحدة هزت كيان سكان العاصمة ووهمهم الهش بأن بقاءهم في العاصمة يجعلهم بمعزل عن أهوال الحرب المستعرة في أقاليم الغرب وكأنها في دولة أخرى. حتى لكان طلبة الجامعات يهرعون إلى حملات التبرعات والتظاهرات الجماهيرية لنصرة فلسطين و«المجاهدين في غزة» متجاهلين مواطنيهم الذين يُقتلون ويتقاتلون في مكان مجهول وبعيد يدعى دارفور. انتشرتْ الصور والتقارير في اليوم التالي للمعركة. عشرات الأسرى من المراهقين الذين كانوا ينظرون للكاميرا بذهول. تاهوا عند أول شارع مرصوف ومحاط ببنايات من طوابق متعددة. بعضهم كان يسأل السكان عن مقر مبنى الإذاعة وبعضهم وصل هناك بالفعل وفوجئ بالدبابات تستقبلهم من بوابة مسرح الفنون الشعبية والمسرح القومي اللذين يعشش فيهما جنود يفوق عددهم الممثلين والمخرجين كأي ثكنة عسكرية. لم أنس بعد زوجة عمي الذي يعيش في حي العباسية وهي تحكي عن الجارات اللاتي خرجن لاستقبال “الجنجويد” – على حد تعبيرها – بالزغاريد وأطباق الطعام كأنهم المخلصون. متناسية أن من يُطلق عليهم الجنجويد هم الذين يقاتلون لحساب عشيرتها هناك.
غرقتُ في كوابيس الماضي حتى أيقظني صوت اللاسلكي.
قفزتْ ثلاثة أشباح من كراسيها وتحركتْ ناحيتنا وتجاوزتنا. سحبتْ ابتهال يدها من فوق ذراعي وألقت بليّ الشيشة على الأرض. لكنهن غادرن في الاتجاه الآخر، وعندما عبرن الشارع من أمام سيارة توقفتْ لهن تعرفتُ على زيهم، وبدتْ سحنات الجند – وللمفارقة – من قبائل غرب البلاد، فيما لمحتُ طبنجة توجه فوهتها النائمة باتجاه مؤخرة ثالثهم. بدا أن ذلك المقبض سيستخدم أخيراً. هنا وسط الخرطوم.
قالت ابتهال بفزع : يلا نمشي!
مررتُ عشرة جنيهات للسيدة التي كانت هادئة بتواطئ، وكأن ما سيجري لا يعنيها. الجميع بقوا في أماكنهم. في ظرف دقائق خمس كنتُ أنطلق بالسيارة في اتجاه الشرق.
“مســــــــــــاء الخيــــــــــر
يــــــــــــــــــا أميــــــــــــــر
يا الحُبَك.. شَغَلَ الضميــر
الضميـــــــــــر يــــــــــــــا
غيرك ما لــــــــــــــــــــــي
سميـــــــــــــــــــــــــــــــــر”
كان محمود عبدالعزيز يلتهم مساحة الصمت التي بيننا بأغنية عبدالعزيز أبو داوود الأثيرة لدي. كنتُ قد شغلّتُ الراديو خطأً ليلتقط موجة إذاعية من أم درمان فيما كانوا يذيعون أغنية من تراث الجعليين – أو البطاحين لا أذكر – بوصفها نشيد المذابح العرقية المفضل لجنود الجيش :
«أنا ليهم بقول كلام.. دخلوها وصقيرها حام»
ضغطتُ الزر لتشغيل الكاسيت فوراً. كانت ابتهال غائبة عن الوعي. فيما قفز إلى ذهني تسجيل مصوّر للأغنية شاهدتُه على يوتيوب ذات أمسية مازوخية. أدتها على المسرح مجموعة من الفنانين المصاحبين للسر قدور من برنامجه «أغاني وأغاني» هذه المرة في حفلٍ بالأُبيض. كان المسرح يعج بالجمهور من سكان كردفان عندما هرع إلى الخشبة كل الجالسين المعممين في الصف الأول ملوحين بعصيهم مبتهجين بأغنية الحماسة سيئة السمعة. إلى أن رأيتُ في صدرهم والي شمال كردفان أحمد هارون، فأغلقتُ اللاب توب من الهلع!
شيء من الضباب بدأ يغلف الأجواء. بدت الصورة أكثر عتمة مع شيوع الكتاحة. كأن انقطاع الكهرباء عن المدينة لم يكن كافياً لإثارة الفوضى لتضربها عاصفة من الرمل. جو من الخوف بدأ يتسلل متأخراً من نوافذ السيارة وأصوات أبواق السيارات تعلن غرق المدينة. رأينا ونحن نغلق النوافذ من بين الضباب الرملي دبابتين تخرجان من سياج المطار إلى اتجاه ما. فيما كانت دبابة ثالثة واقفة عند ناصية شارع جانبي أحاطتها فوضى من الركشات. قدتُ قاصداً الشوارع الجانبية في اتجاه يبعدني عن هنا. عندما وصلنا إلى شارع النيل في اتجاه برج الاتصالات الشاهق سألتني ابتهال :
– ماشين وين ؟
– حنهرب!
دقائق أخرى وانتهينا في حيّ الجريف. عبرتُ من أمام أرض أبي فوجدتُ الخيمة فارغة. لم يكن ثمة أثر للأرملة وأبناءها سوى أقمشة مأواهم التي أخذتْ تتهاوى مع هبوب الريح. تخليتُ عن فكرتي المبطنة وقُدت باتجاه المزارع المطلة على النيل الأزرق. في حصاره الطبيعي الذي كان يطبقه على العاصمة من الشرق ملتفاً في شمالها إلى الغرب حيث يلتقي بالنيل الأبيض وهو يطبق الحصار على الخرطوم من جهة أم درمان. ليواصل في مقرن النيلين أطول قبلة في التاريخ. باتجاه بحر الهرب الأكبر. المتوسط.
عندما توقفتُ أمام النيل كان الماء أسود. حتى القمر كان في المحاق.
تطبق المزارع من حولنا بمزيد من الوحشة. لا يصدر منها إلا صوت جريد النخل المتراقص للريح. كمائن من الطوب كانت تحتل الضفة من أمامنا اختفى عمالها وغفيرها. غادرتُ السيارة ممسكاً بيد ابتهال ونزلنا في اتجاه الماء. الدخان الخانق في الضفة ينتشر حيث جلست نسوة من النوير ميزتهن في الغبار. كانت لهن نفس الشلوخ التي على وجه الأرملة. أكبرهن سناً كانت المعلمة. تجلس القرفصاء في اتجاه الماء وهي تدخن الشيشة مكتفية بإعطائهن التوجيهات. على قدر كبير فوق كومة من الحطب المشتعل كن يقطرن العرق. سلمتُ عليهن دون أن يشعرن بالمقاطعة. لم يلتفتن حتى لابتهال، وردين عليّ بتحية فاترة.
– داير قزازتين
– الأرقي لسه سخن
– ما مشكلة.
كانت ابتهال غارقة في الدهشة من المشهد بشكل استشراقي. لم نكن حتى قد ابتعدنا خارج العاصمة. عندما مررتْ لي إحداهن قارورتين من العرق الساخن. نقدتها ورقة من فئة الخمسين وأمسكتُ بابتهال مبتعداً في اتجاه الجرف. البابور المعد للسقاية ظل ساكناً. نزلتُ باتجاه خرطومه الممتد إلى قاع النهر وطلبتُ منها أن تخلع حذائها وتشمر بنطلونها الذي التصق بساقيها بشكل عجزتْ فيه أن تشمره من شدة ضيقه. لم تتكبد حتى عناء النظر خلفنا أو سؤالي عن الوجهة. نشوتها بأنها تعيش وقتاً غير اعتيادي دفعتها لأقصى ما يمكنها اختباره، وكأي من فتيات الجنوب تصالحتْ مع جسدها وخلعتْ البنطلون تماماً. ابتسمتُ دون أن تصدر ضحكتي صوتاً لألا أشعرها بالحرج. قلتُ لها وأنا أحمل القارورتين وفردتي حذائي في تأهب لعبور النهر:
– حتندمي!
سرّجتُ القارورتين حول بنطلوني الذي كنتُ لا أزال محتفظاً به في موضعه، ومدتُ ذراعي الفارغة لها. عبرنا. ما أن لامس الماء ساقيها حتى بدأت تتأوه من البرد فيما تجاسرتُ على النهر كي لا يُقلل من شأن ذكورتي التي باتت تعنيني الآن أكثر من أي وقت مضى. كان ذلك الجانب من النهر ضحلاً، فبدونا كمسيحيّن يسيران على الماء. إلى أن وطأت أقدامنا الجزيرة.
استغرقنا نحو ثلاثين متراً. لم نكن حتى بحاجة إلى زورق. لكن وجودنا على تلك المساحة الرملية وسط النهر. تلك الجزيرة التي تغرق سنوياً في موسم الفيضان منحتنا الاحساس الكافي بأننا بعيدان عن الخرطوم. التي اختفتْ الآن خلف الضباب الرمليّ والعتمة. لم يكن على الجزيرة شيء سوانا. قطعة يسيرة من الصحراء حفرتُ في طرفها ثقبين سرعان ما غرقا بالماء الفاتر ودفنتُ فيهما القارورتين بغرض تبريدهما، وارتمينا على الرمل دون أن أُلمّح إلى احتمال وجود التماسيح في أطراف الجزيرة. لسبب ما. شعرتُ بأن النهر كان آخر مخاوفنا. وحدها ابتهال كانت صامتة من الصدمة وهي تحدق للضفة الأخرى وكأننا اجتزنا الحدود إلى أثيوبيا. حيث سنستكين بمأمن عن الأعين الحاقدة. معاً. بمفردنا، وسرعان ما ستفتح القارورة ونشعر بنشوة الماء من حولنا كأننا قوم جلوس من حولهم ماء!
قالت ابتهال وهي لا تزال ساهمة باتجاه نساء النوير حول الحطب:
– عايزة أعيش هنا
– لما الشمس تطلع حتغيري رأيك.
لم تعترض:
– خلاص خلينا نعيش الليلة هنا. الليلة بس. كأنوا دي آخر ليلة.
كانت المرة الأولى التي تصدر فيها قولاً رومانسياً بذلك الرخص دون أن أشعر بالاستياء:
– خلاص. نكملها للآخر
لم يكن لتلك العاصفة الرملية أن تتبدد لولا هطول المطر. أخذتْ ابتهال تضحك بخبل. فيما بدأت ثيابنا تبتل حتى التصقتْ بجسدينا. بدتْ عاجزة عن سترنا بلا معنى. فيما سرى اتفاق ضمني بيننا بأن نبقى. تبللنا تماماً، وأخذنا دون سابق اتفاق بخلع ثيابنا. احتفظتُ بسروالي الداخلي فيما أضافت ابتهال إلى ذلك سوتيانها. سرعان ما تخلصتْ منه بوصفه قيدٌ أخير قابل للكسر. تحررنا من الأسر كليةً ونحن نشاهد الفراغ المبلل. صوت الماء المنهمر من الأعلى على الماء الجاري في الأسفل. أمسكتُ بكتفها ورميتُ جذعها على الرمل الرطب. كانت ساكنةً تماماً ومطمئنة كما يجب. لا حطب النوير ولا تلألئ النجوم كان ليفضحنا وهي تختفي خلف الغيوم. قبلتُها ودفنتُ وجهي في وجهها. تسع سنواتٍ من المراهقة العذرية المغلفة بالصداقة تبددتْ. دون أن تعوزنا الحاجة إلى التجاسر بقارورتينا الممتلئتين. أمسكنا ببعضنا أخيراً بعد أن فلتنا من الخرطوم. ما كان لأصوات الأعيرة النارية ولا الدانات والحرائق أن تشوش علينا استنشاقنا لزفير أنفاسنا المتصاعدة. كانت هنا في وسط النهر الضحل ذروة لحرب أخرى لن تنتهي بالموت. حرب جميلة خضناها أخيراً بعد ركود من الانتظار والحصار المحرّم. بغية الاستعاضة عن حياتنا التي لم يحق لنا أن نعشها كيفما نريد بلحظات ختامية مغتلسة. سنختار فيها على الأقل نهايتها كما نشتهي. عاريين لا تسترنا سوى عتمة الخرطوم.
هوامش :-
* وردت الكلمة في طبعة ٢٠٠٢ من الكتاب بوصفها “الأيام الخيرة” ورغم ما تمثله من تغير تام في المعنى إلا أنه من الواضح أن حذف الهمزة كان خطأً مطبعياً.
* كاتب من السودان