غوايات

لوحة

أنت لا ترسم البرد.. لكنك ترسم شخصا يرتجف جسده، قد يرتجف لأسباب عدة، لأنه خائف مثلا أو جالس في انتظار حبيبته بعد شوق طويل، أو ربما يقلد في شخص آخر يرتجف أيضا، يمكنك أن تلبس الشخص في لوحتك معطفا وقبعة، سيدفآنه، لكن ماذا ستفعل للاعتقادات الأخرى؟ فأثر الرجفة سيبقى ظاهرا، والذين يتأملون اللوحة سينتظرون أن تأتي حبيبته، أو أن يحل السلام في العالم لكي لا يخاف من شيء، فأنت لم ترسم البرد.. أنت فقط رسمت شخصا يرتجف.

أكثر المتفائلين سيعتقدون أنه يرقص! ما المانع في أن تكون هذه الرجفة الصغيرة رقصة؟ لابد أنها معزوفة شرقية بعود عتيق كان مهملا لوقت طويل، وأصابع صغيرة هي التي تخدش أوتاره بخوف، لماذا هي خائفة؟ لأنها تغني ألمها للآخرين.. لذلك يرقص الشخص الذي في اللوحة بهذا الشكل، لكن أكثر المتشائمين سينظرون إليه ببؤس لأنهم يعتقدون أنه يحتضر، هكذا يفعل الذين على وشك الموت؛ يهتزون وتمتقع وجوههم كأنهم يغادرون حياة جميلة!.. هذه الحياة التي كانو يلعنونها كثيرا يتمسكون بها الآن لآخر لحظة! ماذا ستفعل يا صديقي إذن؟ فأنت لا تستطيع رسم البرد الذي يعاني منه الشخص في لوحتك، ربما سترسم بجواره حطبا مشتعلا، ألسنة نار هادئة لا تتوق إلى السماء بحرص لتبين أنه ينشد الدفء، لكن ذلك لن يضيف للوحتك شيئا؛ فهناك مائة سبب وجيه لإشعال نار.. مثلا أنه يريد أن يحرق العالم! أو أنه يريد أن يصنع فنجان قهوة، أو لأنه فقط يملك أعواد ثقاب وليس لديه موضوع آخر، أحيانا نفعل الأشياء فقط لأننا نستطيع فعلها! ثم إنك لو رسمت نارا فلن يصدقك أحد، فمن المفترض أن تحرق النار الأشياء وأول هذه الأشياء هي اللوحة المرسومة عليها، فالنار لا تُرسم، مثل البرد تماما، وأنت تريد أن ترسم البرد.. لكنك فقط رسمت شخصا يرتجف.

بعض المتأملين سيقولون إن الشخص في اللوحة لا يمكن أن يكون منتظرا لحبيبة؛ فالحبيبة لا تنتظر هكذا! لا يبدو متوردا ولا حتى عينيه لامعتين، وإذا افترضنا أنه قلق من كثرة الشوق.. فلا يبدو منكسرا بما فيه الكفاية، ثم إن الحب لا يمكن رسمه، يمكنك أن ترسم عاشقين وشاطئا وشمسا على وشك الغروب ووردة على وشك أن يهديها أحدهما للآخر، لكنك لن تظهر ما يكنه القلب، تستطيع أن ترسم خدودا حمراء أو ابتسامة ممتعة أو حتى قُبلة، لكن الحب مثل البرد يظل أمرا لن تجزم به ريشتك. وأما هذا الشخص الذي في اللوحة، حتى لو كان ينتظر حبيبته، فأنت لم ترسم الحب.. أنت فقط رسمت شخصا يرتجف.

لكن للحق، أنا معجب كثيرا بموهبتك، كيف استطعت أن ترسم شخصا يرتجف؟ أعني كيف هززته؟ كيف جعلت تلك الخطوط الثابتة تتحرك لتشكل هذه الرجفة المدهشة؟ لقد أخبرتني مرة أن أي رسمة من رسماتك هي ظلك الذي يسقط عنك ليتشبث بالورقة، وأن لوحاتك هي الانكعاس المباشر لك ولما حولك، لم أدرك أنك تعني ما تقول حرفيا!.. ربما هذا الشخص يرتجف لأن رياحا عبثت بالورقة وحركتها!.. ولكني لا أرى رياحا هنا، إذن ربما هو أنت ذاتك!.. فيدك التي تمسك بالورقة ترتجف، لماذا ترتجف؟ أهو البرد.. أم أنك تنتظر شخصا ما؟!

*كاتب من السودان

 

وقاص الصادق

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى