عن مصطفي مربّي الأحلام
الصوتُ الذي يأتي مُنعرجاً من سماء الحزن ويصيب سماءنا بالأحلام، وهو لا يزالُ يصنع العالم الآتي، نامياً في مُخيِّلات من عرفوا تهجُّده المشروخ بالحُبِّ، من العمق أو البعد، من الظلال الغُيوميَّة للذاكرة، ومن احتقانات الحروف في الكلمات، الصوت الممزوج بالخمائل الروحية المُنسربة في الذوات منذ آلاف اللحظات، الصوت الهلاكيُّ، النّائحُ، السائحُ، المنسيُّ في القِدَم، الصوت هو المسافة اللانهائية والسَّفرُ الأبدي. الصوت هو إعادةٌ جذريَّةٌ للخلْق وتشعيرٌ أوليٌّ بالحياة، بالحلم، بالدقائق الأوليَّة، تشعيرٌ بالكونيِّ واليوميِّ والمُلهِم، الأفق الملتحم بالأرض، الفيضانات الذهبية في النفس، الصوت هو المصطفى لعناية الأسماع، وإذابة اللامعنى في المعنى، كيف يُشرح الصَّوت؟! ربما بالإشارة، أو بالهذيان، أو بالصوت نفسه لا محالة!
والمصطفى لا زال يُربِّي أحزانَ أجيالٍ من السُّودانيِّين بالنُّبل، وكأنَّ حياته لمحةٌ ترى الحياة من نافذة الحزن غير المشروح، الغامض، الحزن الدهريّ، حين يكون مصيراً خاصاً بالإنسان، الحزن بالأصالة، بالوجود، بالرَّحم، بالصرخة المخاضية، بالدَّمِ والقلب والجسد؛ لا زال يُربِّي الأحلام الصغيرة الضائعة، والكبيرة الخائبة، مُستعيداً بالكلمات حيواتٍ لم نلمسها حتى يومنا، لكنَّا لا نسطيع خروجاً بغيرها.
ها يُحوِّل الكلام من بنائه اللغويِّ إلى آخر روحيٍّ، واليوميَّ إلى نداءٍ سماويٍّ.
والمصطفى لغة كاملة، لغة مُتخمة بالماوراء، تشير إلى ما هو أقرب إلينا من حبل الوريد، وأبعد من أن يُمس، ها يُربِّي الأزهار في حقول الشتاء، يُربِّي الشعر في حنجرة السماء، ويُشجِّر المسافة بالشجن.
ولا شكَّ أنه بذر شعراً لو لم يكن، لضاع دمه بين الشعراء، وبذر حساسياتٍ جديدة لحدَثِ الغناء المُتواتر منذ سَرور وكرومة وحتى آخر قطرة خمر مُغنَّاة، بل ولا شك أنه شاعر الكلمات حين يغنيها: يصير ذاتها وتصير ذاته. بل أنه أيضاً لفت أحلامنا إلى حياة أخرى مُمكنة، هي حياة الحياة.
ليس هو الشعر بل إعادة كتابته بالصوت، ليس هو الغناء بل إعادة خلقه بالشعر، ولا غرو أنَّ ما يُسطِّرُه من حلم فعل من أفعال النبوة، والمصطفى نبيٌّ بالمعنى الحزين للنُّبوة، حتى يكاد اسمه يُعلن عنه.
*شاعر من السودان