ثمار

التقريرُ غير المعلنِ لحادثةِ كُوبري الحُريَّة

احمد-مبارك

(1)

   “دَهَسَ رجلٌ نحيلٌ للغاية، إثر نَوبَةِ غضبٍ مفاجئةٍ دهمته، أسفل كوبري الحريَّة، وقد أفرغ للتوِّ ثلثَيْ كوب قهوةٍ ساخنةٍ تعبقُ بالزنجبيل؛ ما يربو على مائتي مركبة خضراء ضخمة، وخمسمائة حافلة، تُقلُّ كمَّاً مخيفاً من أناسٍ مذعورين بحقائب ثقيلة وأجساد منهكة؛ يعودون إلى مساكنهم المنفية في الجنوب الأقصى لحزام مايو الأخضر، ونواحٍ طرفيةٍ عدَّةٍ؛ فضلاً عن السيارات الصغيرة وأكشاك العصائر الملوَّثة”.

 كان الرَّجلُ يجلس على كرسيٍّ أحمر متسخٍ قبالة بائعة شاي؛ يتأبط “فايلاً” أزرق، يفوق المقعد في الاتساخ، ولا تبين أيُّ ارتساماتٍ للضجرِ على مُحيَّاه الرَّائق. ثمَّة آخرون لا يكفُّون عن الثرثرة والامتعاض من هدْرِ المركباتِ العامَّةِ لحياتهم القصيرة أصلاً. الرجلُ الأشعثُ ذو الحقيبة الغامضةِ، ومن أرنبة أنفه تكاد تسقط نظَّارةٌ فُقدت، أثناء الحياة، إحدى عدستيها؛ علَّق بطريقةٍ تنسف أي احتمالاتٍ أُخرى لقعدةِ النظارة بغير التي عليها: نحن، يا سادة، نُهدر حياتنا، للمفارقة؛ في سبيل الحياة نفسها. ثم سحب بنطاله كاشفاً عن ساقه الاصطناعية!! ويبدو أن الرجل ذو “الفايل” الأزرقِ يُعاني ذات الأمر؛ وقد حفَّزته هذه الثرثرة الجانبية واستحثَّت غضبه الكامِن. (في تلك اللحظة صارت القهوةُ بحراً يملأ الفنجان.. وكان الرجل يوشك على البكاءِ).  وإذ يرفع الرجل بحر القهوة إلى فمه الذي أخذ يرتعش؛ أطاحت بائعة الشاي بالموقدِ تستنقذ اسطوانة غازها من قبضةِ البوليس.. وفيما يتجاذبانها؛ تمزَّقَ الغشاءُ الرقيقِ الذي يحبس الدَّمعَ في مِحْجَرَيْ المرأة. وعندما همَّ رجُلُ البوليس بتركِ الأسطوانة؛ إذ إنَّ كوب الدمع قد سَلَخَ يده؛ كانا قد أكملا تفاعلهما (الدمع والغاز)، بحيث لم يتمكَّن الباعةُ الجائلون المقرفصون داخل عربة النِّظامِ العام، بجانب كُدس البضائع، من الفرار. حتى أن أحدهم قد تفَحَّم في وضعية قفز.. ثم سَقَطَ مشويَّاً مثل  طائرٍ حزينٍ بين الأقدام.. ولم يعتر الذُّعر فرداً واحداً. نعم: ذلك أن ما يُرى مجموعاً في الواقع؛ يصيرُ، في الحقيقةِ، فرداً منفصماً عن المجموع؛ تهشُّه عصا نوازِعهِ الفرديَّة؛ المسوِّغ الذي يُهيأ للمتأمِّلِ وجودَ مساراتٍ متوازيةٍ وغير مرئيةٍ، تُسلك بتلك الصُّورةِ الجماعيَّةِ، فرديَّةِ الجوهر. فليس من كابحٍ هنا لانوجادِ التَّضامُنِ سوى توازي المسارات والعصا الفردية تلك.

(2)

    الفتياتُ ذوات الوجوه الملتصقة ـ كيفما اتفق ـ بالزجاج الأماميِّ للمركبةِ الخضراء؛ يحجبن الرؤية عن السائق. أقول إن الحرَّ لا يُطاق؛ لكنَّ للاختفاءِ داخل مركبةٍ ـ كيفما يكون ـ سعادة لا يمكن كبتها، إطلاقاً. على أنني لن أدرك الباعث الحقيقي لسعادة السائق.. وهو نفس المأزق الذي انحشَرَ فيه الرَّجلُ النَّحيلِ ربما بشكلٍ أكثر تعقيداً. فمن المؤكَّدِ أنَّه لم ينسَ حديث الرجل بالساقِ الاصطناعية قبل قليل. أما الآن فقد بلغ شعوره بالكآبةِ ذروته، وبدت على وجهه انقباضاتٌ مخيفةٌ؛ سقط على إثرها متكوماً ومتكوراً على نفسه يرتجفُ بطريقةٍ فريدةٍ؛ قُبيلَ أن يبثَّ بكاءهُ الغريب، الغامض؛ حالة رعبٍ مذهلةٍ خلقت، في ثوانٍ، بموقف “جاكسون” موجةَ جنونٍ وحَّدَت، على نحوٍ خلاقٍ، ذلك الجمع الغفير المُتنافر، لغايةٍ مشتركة! وها هنا تَتَحَتَّمُ وقفة؛ لأنَّ الغايةَ المشتركةُ هي نفسها فردية. أي أن الأعمى لن يُخاطر ـ بالنجاة ـ ليشيل المكسَّر. ومع ذلك.. وعلى الأقل؛ فقد أحدث الخوفُ من الموتِ، في نفسِ الجَّماعةِ؛ بسببِ استهدافهِ أمنها الشَّخصيِّ؛ حالة الرُّعب، ثم موجة الجُّنون، فالحركة. وإذن.. فقد وحَّدَ البُكاءُ الغريبِ، الغامضِ، للرَّجلِ الذي جلسَ ينشد بعض الراحة، الجمع الغفير؛ ببثه حالة الرعب في نفوسهم؛ فحدثت الاستجابة. أما لماذا لم يعتر الذعر أحدهم في حادثة الشواء؛ فلأنهم كانوا خارج دائرة الخطر. كانت أسطوانة الغاز تخُصُّ صاحبتها، وهي وحدها من عليها استنقاذها؛ الموقف الذي ينسحب على مأدبةِ الشُّواء. لكن في حالةِ الرُّعب فقد كان كل فردٍ يؤلِّفُ تضامنه الخاص مع جَسَدهِ؛ لأنَّه جسده هو. بمعنىً أخير، وهم يقولون ذلك صراحةً في المثل: ( جِلِداً ما جلدك.. جُر فيه الشوك).

(3)

   حينما صارت القهوةُ بحراً يملأ الفنجان؛ كان الرجل النحيل يوشك على البكاء من الساقِ الاصطناعيةِ للرَّجلِ بالحقيبةِ الغامضةِ، التي التهمتها الحياة. في هذه اللَّحظة بدأ مُناخُ الرجل الداخليِّ يضطَرِب. سيضمّ الهاتف بعاتِقِهِ إلى أذنه. يداه كانتا تفرِّغان محتويات “الفايل” الأزرَقِ على نحوٍ مُتعجِّلٍ مُرتبك. رُبَّما أثلجت فتاةُ الوكالةِ صدره فاكتسى وجههُ قناعاً ربيعياً جعل إيقاع يديهِ أكثر تناغماً ورَويِّة. هذا الشُّعورُ المريحِ أتاح لنفسه برهةً للتفكيرِ بشأنِ خُطَّةِ السفر:

 “من المؤسفِ أنني لن أشاهِدَ نهر القاش العظيمِ يستعرِضَ أمواجه العاتية؛ مما يفوِّت على نفسي فرصة الامتلاءِ من العَبَقِ الخريفيِّ للمدينة. لكن لا بأس.. سأرتدي خضرة السواقي كساءً وأتماهى فيها مثل حرباءٍ.. ثم أنهلُ البَرَكَةَ ما وسِعَت نفسي من ضريحِ سِيدِي الحَسَن وأرتوي من نبعِ توتيل المُقدَّس. وأخيراً، وقبل أن أُسلِمَ نفسي لدوارِ البحرِ الأحمر؛ إذ ربما التهمت الخرطوم ساقيَّ؛ سأختزن بذاكرتي المشهد البانورامي للمدينة، أوان الشروق، بلقطةٍ مكبَّرةٍ من أعلى قمةِ جبل توتيل الشامخ. ما أروع أن يحجب جسدي شمسَ الشروقِ لثوانٍ عن المدينة.. تزامناً مع صوتِ السَّاعة الشهير: طُووط.. طُووط، يليه الصوتُ المريعُ لمُذيعٍ يُعلن أن الشَّمسَ تُشرقُ من هنا…”.

(4)

  جَلَبَةٌ مُفاجِئةٌ وصرخاتٌ تستنجدُ العَدَمَ قذفتا (أوْكّير) من أعلى قممِ سلسلةِ جبالِ التاكا؛ ليجد نفسه تتورَّطُ، بشكلٍ غير مسبوقٍ، أسفل كوبري الحريَّةِ المتصدِّعِ، والآيلِ للانهيار. الباعة الجائلون والسابلة الهائمون يختلط  حابلهم بنابلهم. تتبخَّرُ السَّكينةُ من نفس أوكير بانفجارِ أسطوانة الغاز وما نَجَمَ عنها من احتراقٍ طال المئات من السَّابِلَة. أما الآن.. إذ يَرى الفتيات الجميلات ذوات الوجوه الملتصقة ـ كيفما اتفق ـ بالزِّجاجِ الأماميِّ للمركبةِ الخضراء؛ فقد بلغ شعوره بالكآبةِ ذروته، وبدت على وجهه انقباضاتٌ مخيفةٌ؛ سَقَطَ على إثرها متكوماً ومتكوراً على نفسهِ يرتجف بطريقةٍ فريدةٍ؛ قبيل أن يبثَّ بكاءه الغريب، الغامض؛ حالة رعبٍ مذهلةٍ خلقت، في ثوانٍ، بموقف “جاكسون” موجة جنون وحَّدت، على نحوٍ خلاقٍ، ذلك الجمع الغفير المتنافر، لغايةٍ مشتَرَكة! لقد غَرَّرَت الصورةُ الجماعيةَ في سلوكِ المساراتِ بـ(أوكير)؛ فحسِبَ فضاء “جاكسون” ـ بالإحالة ـ مثل سوق كسلا الكبير.. وكان شارِعُ المليون بليدٍ يندغِمُ، كُليَّاً، ويتوحَّدَ مع شارِعِ الحُريَّةِ يشكِّلانِ كياناً واحداً. لذلك فتأثيرُ الأحداثِ السَّالفةِ في نفسهِ يمكن اختزاله في مصطلحٍ واحدٍ: الرفض. وهو “الموقف ” الذي جَبُنَ “المجموعُ” في اتخاذه إزاء مصادرة أسطوانة الغاز، وهدر المركبات العامة لحياتهم القصيرة، ثم إزاء أوكير نفسه. في حينِ ألقى هو على عاتقهِ عبءِ إنقاذِ عالَمٍ يسُدُّ أذنيهِ بسَمَّاعةٍ تضخُّ أغنيةً صاخبةً على  “إيقاع الروك”.

*قاص من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى