(مارخدر).. غواية الأسطورة
في هذا الحوار الذي سطت على أسئلته رواية (مارخدر) للقاص والروائي عمر الصايم، الصادرة عن دار المصورات في الأيام الفائتة؛ دارت المحاور حول عوالم الرواية واسمها المُركَّب، وتكنيكها، وعن تحولات التاريخ والجغرافيا والهُويَّات السودانيَّة، والانقطاعات والتحوُّلات المفصليَّة في تاريخ السودان، وعقبات النشر في السودان، والقصة والرواية بوصفهما فنَّين قائمين بذاتهما ومتضافرين. وللكاتب مجموعة قصصية صدرت من قبل باسم “العجكو”، وله قصصٌ منشورةٌ بالصُّحف اليومية والدوريات المُختلفة. ( المحرر )
* أخيراً رأى القُرَّاء روايتك الأولى “مارخدر”. كيف اجتزت عقبة النشر في بلاد تهترئ المخطوطات فيها في جوف الأضابير؟
الحق أعترف لك، ما كان لي أن أتخطى عقبة النشر لولا ثلة من الصديقات والأصدقاء؛ حملوني على محفة محبتهم، وكلما استصعبت عتبة الخروج من عتمة الأضابير؛ أضاءوا لي حلكة دربي. منحوني الأمل، والمساندة بكافة أشكالها، الآن وقد خرج “مارخدر” من عمق النهر إلى سطح السهل أزجي امتناني وعرفاني لهذه الثلة التي جمعني بها حب عميم وتقدير عظيم.
كما أزجي شكري لدار المصورات للنشر وقد أبلت جميل الصنعة حتى خرجت الرواية على نحو أنيق.
*”مارخدر” الاسم المركب مزجياً من اسمين ليعطي اسماً واحداً، من هويتين ليُعطي هوية واحدة جديدة. ما هي دلالة ذلك، ما الذي تريد قوله من خلال هذا العنوان المركب؟
مارخدر اسم نتاج مقاربة نحتتها شخصيتان في الرواية هما مدثر واستيفانيوس، وهما من ديانتين مختلفتين كما يتبدى من اسميهما، اصطنعا هذه المقاربة من صميم تراثهما الديني ليتمكنا من إيجاد قاسم مشترك يبرر صداقتهما، حدث هذا في طفولتهما، عاد مدثر وجعل مارخدر أسطورة تاريخية تعايشت مع كل الأزمنة الحضارية من كوش، فمروي، ثم سوبا وحتى راهننا المعيش، مدثر كتب جزء من الرواية والجزء الآخر هو مذكرات تاسي. بالنسبة لي أرى في مارخدر القوة الكامنة لقيم كثيرة تزخر بها الشخصية السودانية، ويحتاجها الإنسان في مقارعة أزماته الأنطولوجية أينما كانت، وبغض النظر عن اللون أو الدين أو غيرهما من الفروقات التي تميز الإنسان ولكنها لا تمتهن إنسانيته. وأعلم أنه ليس من حقي كأحد المشاركين في إنتاج النص تحديد دلالة جزمية، جامعة مانعة لما ورد فيه تُغلق الباب أمام محاولات استكشاف مدلولات بعيدة أو غائبة عن لحظات الكتابة وتفاعلاتها؛ ولذلك يظل مارخدر مفتوحاً للتحليل وإعادة إنتاج المقولات النقدية.
* في الرواية اتبعت تكنيكاً ابتدعه “فوكنر” وقلده “إبراهيم إسحق” بأن جعلت كل شخصية في الرواية تتحدث عن نفسها على طريقة الراوي العليم. هل كانا ملهمين لك، هل كان تكنيكاً مضموناً وأقل مغامرة في الشكل؟
تعلم يا صديقي مغيرة أن للرواية معاهد تدرس فنون كتابتها، وطرق بنائها ولكنها لن تمنح طلابها روح الكتابة وجمال اللغة مثلاً، تجدني مقتنعاً بأن الكتابة هي جزء من روح الذات الكاتبة وقدرتها على القفز أو الجنون. حينما جلست لأكتب – بالقلم – لم أفكر في الشكل مطلقاً، ولا في تقنيات السرد، وأفانين تشويق القارئ وإمتاعه، الفكرة كانت منبسطة في دماغي ومسيطرة على قلبي؛ فقط علي أن أكتبها، أن أسمح لها بالتخلق كبرق خاطف دون عسفٍ مني؛ وهذا ما حدث لي! جاء الشكل وضمائر الحكي على نحو يتسق مع الفكرة ومع إحساس الكتابة، وبالتأكيد لا أزعم أن فيه ابتداع عن طرائق السابقين، وربما فيه استلهام أو تناص من جهة أو أخرى، فقط لم أكن ساعتها مشغولاً بهذا الأمر، ولن يكون في مقبل تجاربي. أحب تلك الكتابة التي تنسلّ من دمك، وتبزغ من عتمة سحيقة بداخلك، ويقيني أنها ستكون أكثر مواءمة للشكل الفني الذي تستحقه.
* تتقهقر الرواية إلى أزمنة سودانية سحيقة شهدت مصيراً يائساً ومن ثم قفزت إلى وقتنا الحاضر المشحون بأسئلة مقلقة حول الوجود السوداني المهدد بشبح الانقسام وربما الفناء. هل كانت “مارخدر” شهادة روائية عن أزمة هويتنا المستفحلة، عن تحولات التاريخ والجغرافيا والهويات السودانية؟
تدور الرواية بمحوريها التاريخي والمعاصر في فضاء التحولات الكبرى على هذه الأرض، تشمل هذه التحولات التغيرات التي حدثت في الدين، السلطة، العادات الاجتماعية، واللغة، ومن ثم الهوية، والأخيرة لا تمثل محوراً أكثر أهمية من غيره بوصفها ذات طابع ديناميكي يتأثر بكل المحاور الأخرى. حينما تطرح مارخدر ما سميته بالتحولات الكبرى فإنها تتوغل إلى تمظهراتها البسيطة في حياة الأفراد والأقوام داخل عالمها مثل آثار الحروبات، عملية الإزاحة والإحلال التي تحدث في عقائد وعادات الناس.
إن تاريخنا وواقعنا المُعاش ليس سلسلة متواصلة من الوقائع بحيث يمكن تحليلها والخلوص منها إلى مقولات؛ بل إن ما يسمه بشدة هو حالات الانقطاعات التاريخية المتتالية، قطيعة مع القديم مؤسسة ومحمية بآيديولوجيا الجديد، ويا للغرابة فإن الجديد يفشل في إزاحة القديم فيلجأ إلى طمره في جوفه وإعادة إنتاجه في رموز وأيقونات ثقافية جديدة. في ظني أن “مارخدر” تحركت في فضاء هذه الانقطاعات والتحولات المفصلية وسعت لترجمة المقاربة الثقافية عبر رموز ودلالات حَفِل بها النص.
*لكن الرواية ترتكز في بنيتها على غواية الأسطورة بالتباساتها الغامضة، على متاهة السرد وفتنة اللغة، أليست تلك مجازفة ربما تفصل الرواية عن قارئها العادي وليس قارئها الناقد؟
فيما أرى فإن كثيراً من أسئلة البشر ومعارفهم قارة داخل أرضهم وأقانيمهم الثقافية، وقد تم التعبير عنها بشكل أسطوري ساحر، ظلت الأسطورة وبغض النظر عن درجة مفارقتها للعادة قادرة على لعب دور في عملية التحول السياسي والاجتماعي، ليس من المهم أن نتفحص الأسطورة ونقر بصدقيتها، الناس في سهلنا السوداني العظيم قدموا حوارهم ومقولاتهم على نحو فنتازي بديع قبل أن تشهد الكتابة المعاصرة ما عُرِف لاحقاً بالواقعية السحرية. استناداً على هذا التراث التراكمي لا أرى في مركزية الأسطورة عنتاً ينأى بالقارئ كيفما كان توصيفه، على الرغم من أنني أتصور كل قارئ ناقداً إذا ما كان يقرأ بوعي نقدي منفتح لاستكشاف مدلولات النص أو الاستمتاع به. وأعرج بك إلى ساحتنا الغنائية لنتبصر كم مرة تطور الشعراء والفنانون بالأغنية رمزاً وإيحاءً، فتوقع البعض أن ينحسر الاستماع لهذا النمط من الغناء ولكن حدث العكس وازداد الالتفاف حوله؛ لأن المستمع ليس مستمعاً أسيراً بل ناقد، الشاهد فيما قلت أن الأسطورة أو العناية باللغة كأداة تعبير ليست حائلاً أمام القراءة والقارئ وليست مجازفة من الكاتب بقدر ما هي استجابة تلقائية لأشراط العمل الفني، كما أن “مارخدر” على نحو خاص مازجت الأسطورة مع بناء الشخصيات والأحداث وغيرها من مشهيات الحكي.
* كنت مشغولاً طوال الوقت بكتابة النصوص القصصية القصيرة، طبعتَ كتاباً حمل عنوان “العجكو” ونشرتَ قصصك في الصحف والدوريات المختلفة. لماذا مغامرة الرواية في هذا الوقت بالذات؟
في هذا الوقت بالذات الحاجة ملحة لكل أجناس الكتابة شعراً أو نثراً؛ حيث حلكة من ظلام دامس ترين على هذه البلاد، وتزج بها في عباءة أكبر مقتاً وغبناً مما حاق بها في تواريخ فجائعها المبذولة على صفحة النهر ورمال الصحراء. كتبت الرواية وأنا ابن (سطاشر خريف) ثم تلكأت في إتمامها، استهوتني القصة القصيرة لأنني أفرغها رشحة واحدة؛ يأخذني بعدها خدر لذيذ.
عدت للرواية لأنها مشروعي المركزي، حيث تثوى كل التفاصيل المتناقضة والمتناسقة، وبقدر حاجتنا للتعبير بجرعات دقيقة الحجم فنحن محتاجون لجرعة ضخمة توفرها عوالم الرواية، ومع ذلك حتى بعد صدور “مارخدر” القصة القصيرة جداً؛ لأن ثمة ومضات تأتي منجّمة وملحة ليس بمقدوري مجاوزتها فتخرج وامضة غير وامقة في أقصوصة. إذن الفن السردي في تجربتي لا يتخير الشكل كما أشرت لك في سؤال سابق، فما الشكل إلا قالب مهمته الإمتاع والجاذبية وفيه ينسكب المشروع المعرفي والجمالي لأي كاتب.
* الكل يريد أن يكتب الرواية الآن، الكل يريد أن ينال جائزة. من هو الروائي من وجهة نظرك وكيف ترى المشهد الثقافي السوداني؟
كتابة الرواية لم تكن يوماً حصرية على فرد أو مجموعة، دوماً متاحة! يحدث في عصرنا أنه وبفضل وسائل الميديا الحديثة، أنه تم نشر كمٍّ هائلٍ من الأعمال الورقية والإلكترونية فظهر ما كان مستتراً. فيما مضى بإمكاننا القول أن الكل يريد أن يصير شاعراً لكون الشعر ينتشر بسرعة حتى قبل هذه الوسائط. إن لثورة المعلومات يد طولى في هذا التصور فهي من جهة منحت الجميع حق أن يكونوا أو يحسوا بأنهم كتاب مهمّون تضاءلت قدراتهم، ومن جهة أخرى منحت الكاتب فرصة أن يكسر الحاجز الثالث ويخرج من بين الجمهور بدلاً من الاختباء خلف الكواليس. فليكن الجميع كتاباً للرواية كما كانوا قراءً لها، هذا ليس مدعاة للتأفف والضجر، بل سيكون أحضونة إن جازت التسمية لإفراخ أعمال عظيمة هي التي ستؤثر في محيطها الاجتماعي وستخلد في الزمن.
أما عن ظاهرة اللهاث خلف جائزة، فأرى فيها جانباً إيجابياً من حيث أنها تساعد مبدع النص في تخطي الفقر وأحياناً التفرغ لمشروعه الكتابي، أما السلبي منها فيتمثل لخضوعها لمعايير بعيدة عن جودة النصوص، وفي أحايين يتم تحويلها لأجندة سياسية واقتصادية لترتبط بمصالح فئة محدودة.
الكاتب هو من يكتب لمشروعه وفنه، ليس أجيراً ولا مشحوذاً على شعبه، ولا يبتغي في ذلك مرضاة سلطان أو مؤسسة مهما علا الصولجان وتهافت المتهافتون.
وقس على ذلك مشهدنا الثقافي، وتبين هل ينصلح حاله والعوجة في العود؟!
*شاعر وقاص وكاتب من السودان