
بينما كنت أقضي نصف ساعة مع صديقتي جون سندرستورم في مرج قرب بحيرة جبلية، نشاهد تلك اللولبية تتدلى من أعلى سويقات الحشائش، وتدور في كل الاتجاهات الممكنة، ثم تقفز إلى السويقة التالية وتقوم بنفس الشيء. وهكذا دواليك في دائرة متسعة ومع إهدار كبير لطاقتها، وهو الأمر الذي يبدو دون سبب منطقي على الإطلاق.
“كل الحيوانات تمرح”، قالت ليّ جون فجأة “حتى النمل”. كانت قد قضت سنوات من حياتها تعمل كبستاني محترفٍ ولها ذخيرة وافرة من مثل تلك الأحداث، شاهدتها وتأملتها، “أنظر”، بزخة انتصار متواضع. “أترى ما عنيته؟”
سيسأل أغلب من يستمع لتلك القصة ما هو الدليل الذي جعلنا نعلم بأن تلك اللولبية كان تمرح وتلهو؟ ربما كانت مطاردة تلك الدوائر غير المرئية في الهواء بحثٌ عن نوع مجهول من الصيد أو حتى طقسٌ روحي، فهل يمكن إثبات أن الأمر لم يكُن كذلك؟ حتى ولو كانت اللولبية تمرح، كيف لنا أن نعلم أن هذا الشكل من المرح لم يكن، بنهاية المطاف، لإنجاز هدفٍ عملي كالرياضة أوالتدريبات ذات صلة بحالة طوارئ تحدث لهذ اللولبية في المستقبل؟
قد يكون هذا أيضًا رد فعل أغلب أخصائيي السلوك المحترفين.عمومًا تحليل سلوك حيوان معين لن يعتبر علميًا ما لم يفترض، ضمنيًا على الأقل، أن هذا الحيوان يتصرف وفقًا لحسابات الغاية والوسيلة التي يتم تطبيقها على المعاملات الاقتصادية. تحت هذا الاِفتراض إهدار الطاقة يجب أن يكون تجاه هدف ما كالحصول على الغذاء أو تأمين منطقة ما أو تحقيق هيمنة أو تعظيم نجاح صحة إنجابية. ما لم يثبت قطعًا أن هذا لم يحدث، وكما نتخيل أن دليلًا قاطعًا في مثل هذه المسائل يصعب الأتيان به.
يجب أن أشدد على أن نوع نظرية دوافع الحيوان التي يستند إليها عالمٌ ما ليس بقضية كبرى: إن ما تعتقده جون هو أن الحيوان يفكر، وأنه يفكر في كل شيء. أنا لا أقول أن أخصائيي السلوك بحق يؤمنون أن الحيوانات ماكينات حسابية راشدة. بل أرمي ببساطة إلى أنهم ينظرون إلى العالم من موقع الأكاديمي الملزم بتقديم تفسيرٍ علمي لكل سلوك بمصطلحات عقلانية والذي، هنا، في قصتنا يصف الحيوان وكأنه يفكر بحسابات اقتصادية ويحاول أن يعظم نوع المصلحة الشخصية. إذا كانت نظريتهم تدرس دوافع أو نفسية الحيوان؟
لهذا السبب يعتبر العلماء فكرة أن الحيوانات تلهو وتلعب فكرة ساذجة. لا ترتقي إلى مستوى أن تدرس ويعتبر كل من يدرسها غريب الأطوار. وكما أن الأفكار التأملية قدمت معاييرًا غيرمرضية لإثبات وجود لهو الحيوان، وحتى أن تم الاعتراف بها، فإن البحث عادة تفكك نتائجه في محاولة إثبات أن هذا اللهو له وظيفة مساعدة على البقاء أو صحة الإنجاب.
بالرغم من كل هذا، فإن متأملي هذا الموضوع توصلوا وبصورة ثابتة إلى خلاصة أن المرح موجود في عالم الحيوان. المرح موجود ليس قسرًا على المخلوقات المعروفة بالمرح كالحمير والدولفين وصغار الكلاب، بل أيضًا عند حيوانات غير معروفة كالضفادع والبلم والسلمندر والسلطعون وحتى النمل فإنه لا يلهو بشكل فردي فقط بل شوهد منذ القرن التاسع عشر وهو يقوم بحروب وهمية فقط من أجل متعتها.
لماذا تمرح الحيوانات؟ حسنًا، ولمَ لا؟ السؤال الحقيقى هو لماذا نقوم بأفعال من أجل المتعة الحقيقية للفعل، كاستخدام السلطات فقط من أجل استخدامها يصيبنا بالدهشة؟ ماذا يخبرنا هذا عن أنفسنا، هل نفترض أن هذا شيء غريزي؟
بقاء من لا يصلح
النزعة في الفكرة العامة لرؤية عالم الأحياء بمصطلحات اقتصادية كانت حاضرة في بداية العلم الدارويني في القرن التاسع عشر.
استعار تشارلز داروين مصطلح “البقاء للأصلح” من عالم الاجتماع هاربرت سبنسر الذي بدوره تفاجأ بكيفية القوى التي تقود الانتخاب الطبيعى في كتاب أصول الأنواع واتفاقها مع سياسة دعه يعمل في نظرياته الاقتصادية. التنافس حول الموارد والحسابات العقلانية للأمور وكيف أن الانقراض التدريجي لمن لا يصلح أصبح هو الموجة الأساسية للكون.
إن أوتاد هذه النظرة الجديدة للطبيعة كمهدد للكفاح الشاق من أجل الوجود كانت راسخة. وتم تسجيل اعتراضات عليها مبكرًا. فهناك مدرسة مناوئة للداروينية ظهرت في روسيا شددت على أن التعاون وليس التنافس هو الذي يقود التغيير التطوري. في عام 1902 ظهر لهذه المدرسة صوت في كتاب شائع بعنوان العون المتبادل : عامل في التطور mutual aid : A Factor of evolution بواسطة عالم الطبيعة اللاسلطوي وناشر المؤلفات بتر كروبتكين.
في هجوم مضاد واضح ضد الداروينيين الاجتماعيين، قال كروبتكين أن كل الأساس النظري للداروينية الاجتماعية خاطئ. مضيفًا أن المخلوقات التي تعمل بفعالية على المدى الطويل تصير لها أفضلية في التنافس. ولد كروبتيكن أميرًا إلا أنه استبدل لقبه بالرجل الصغير، قضى كروبتيكن عدة أعوام في سيبيريا كمستكشف وعالم طبيعة قبل أن يُسجن بتهمة التحريض على الثورة ثم هرب وعاد إلى لندن. تكَون كتاب العون المتبادل من سلسلة مقالات كتبت كردة فعل على الدارويني الاجتماعي الشهير تومس هنري هيلوكسي لتلخص المفهوم الروسي في ذاك الوقت. والذي يقول بأن بينما التنافس، ومن دون شك، عامل يقود كل من التطور الطبيعي والاجتماعي إلا أن للتعاون الدور الحاسم في هذا الشأن.
فكرة أن الحيوانات تلهو وتلعب فكرة ساذجة
أخذ علم الأحياء في القرن العشرين الاعتراض الروسي على محمل الجد خصوصًا ما بين العلوم المنحدرة من علم النفس التطوري، وأن ندر ذِكرهُ بالتحديد. بدلًا من ذلك فقد صار يندرج تحت الإطار الأوسع “مشكلة الإيثار” وهي عبارة أخرى أُخذت من علماء الاقتصاد وامتدت لتصير من حجج مُنظري “الخيار الراشد” في العلوم الاجتماعية. ( لماذا يجب على الحيوانات أن تضحي بميزاتها الفردية للأخرين؟) هذا السؤال هو الفخ الذي وقع فيه داروين لأنه لا يمكن لأحد أن ينكر أن الحيوانات تفعل هذا في بعض الأحيان. لماذا يجب على قطيع من الحيوان أن يقوم بلفت نظر محتمل ويهلك نفسه لينبه رفقائه بقدوم حيوان مفترس؟ لماذا يقوم النحل النشط بقتل نفسه من أجل حماية الخلية؟ إذا كان تقدُمنا في التفسير العلمي لأي سلوك يعني وجود أسباب عقلانية أو تعظيم الدوافع، فماذا إذن وبالتحديد كانت نحلة الكميكاز تحاول أن تعظم؟
كلنا نعلم الإجابة النهائية والتي أصبحت ممكنة باكتشاف الجينات. ببساطة إن الحيوانات تحاول تعظيم انتشار الأكواد الجينية الخاصة بها. هذه النظرة التي أصبحت توصف بالدارونية الجديدة اِزدهرت بفضل أشخاص يعتبرون أنفسهم متطرفين بشكل أو بآخر. جاك هالدين، عالم أحياء ماركسي، كان يحاول مضايقة الفاضلين مدعي الأخلاق في الثلاثينيات بأن يسخر بقوله ( مثل أي كائن حي، سأكون سعيدًا بأن أضحي بحياتي من أجل “أخوين أو ثمانية من أبناء العمومة”). الخلاصة في تلك السطور هي من فكرة جاءت من كتاب المدافع عن الإلحاد ريتشار دوكينز the Selfish Gene
يُصر في هذا الكتاب على أن أي كائنٍ حي هو، في أحسن الأحوال، كمخلوق آلي أخرق مبرمج بشفرات جينية، ولسبب ما لم يستطيع أحد تفسيره بوضوح، يتصرف مثل “مجرمين شيكاغو الناجحين” الذين ودون رحمة يتوسعون في منطقتهم برغبة لا نهائية في الانتشار والتوالد. هذا الوصف تم الاستخفاف به بعبارات مثل “بالطبع، هذا مجاز فالجينات لا تريد أن تفعل شيئاً”. لكن في الواقع الدارونيين الجدد توصلوا لخلاصتهم عن طريق افتراضهم الأساسي أن العلم يتطلب تفسيرًا عقلانيًا وهذا يعني عزو الداوافع العقلانية إلى السلوكيات، والدافع العقلاني الحقيقي يمكن أن يكون واحدًا فقط، وهو وإن تمت مشاهدته في الإنسان، فسيتم وصفه بالأنانية أو الطمع. وكنتيجة لذلك، فإن الدارونيين الجدد ذهبوا إلى ما هو أكثر من التنوع الفكتوري الجديد في القرن العشرين. فإذا نظرت مدرسة الدارونيين الاجتماعيين القديمة أمثال سبنسر إلى الطبيعة كساحة سوق وإن كان سوقًا للسفح على غير العادة، فإن الوجه الجديد لها كان رأسماليًا مطلقًا. اِفترض الدارونيين الجدد ليس فقط الكفاح من أجل البقاء ولكن عالم بحسابات عقلانية تقوده حتمية غير عقلانية إلى نمو لا حدود له.
هذه على أي حال الطريقة التي تم فهم الاعتراض الروسي بها. حجة كروبوتين الواقعية مثيرة أكثر للاهتمام، فمثلًا هناك جزء منها يهتم بكيفية أن التعاون بين الحيوانات غالبًا ليس له صلة بالبقاء أو التوالد، ولكنه شكلٌ من المتعة في حد ذاته. وكما ذُكر فإن التحليق مع السرب فقط من أجل المتعة شيء مألوف بين كل أنواع الطيور. ضرب كروبوتين أمثلة عن المرح الاجتماعي للحيوانات كزوج من النسور يدوران في السماء للترويح عن نفسيهما، والأرانب البرية المتحمسة لملاكمة أنواع أخرى، فهي تقترب من الثعالب من حين لآخر. أو سرب من الطيور يؤدي مناورات بطريقة تحاكي الطرق العسكرية، أو مجموعة من السناجب تسير معًا وتتصارع فيما بينها، والعديد من الألعاب المشابهة.
نعلم في الوقت الحالي أن كل الحيوانات إبتداءً من النمل، مرورًا بالطيور وانتهاءً بأرقى أنواع الثدييات مُغرمة بالمرح والمصارعة والركض خلف بعضها البعض، في محاولة لتداعب بعضها أو للإمساك ببعضها وما إلى ذلك. وبينما نجد أن عدة ألعابٍ تعتبر مدرسة للسلوك القويم للصغار عند النضج، فهناك مدارسٌ أخرى، فبعيدًا عن أغراضهما النفعية، فالرقص والغناء معًا يعتبران مظهرًا بسيطًا من مظاهر مُتع الحياة، الرغبة في التخاطب بطريقة أو بأخرى مع نفس النوع أو مع نوع مختلف، باختصار المؤانسة. والتي تعتبر سمة مميزة في عالم الحيوان.
ممارسة المرء لمقدراته لأبعد الحدود هي أن يستمتع بوجوده الشخصي إضافة إلى صحبة مخلوقات أُخرى مؤانسة تزيد من تلك المتعة. من المنظور الروسي فذلك لا يحتاج إلى شرح. فهذا ببساطة معنى الحياة. لا نحتاج لأن نشرح لماذا ترغب المخلوقات في الحياة. فالحياة غاية في حد ذاتها. وإن كان معنى أن تكون حيًا يتكون من القدرة على الركض والقفز والقتال والطيران في الجو فهذا يعني أن ممارسة القوى، والمقدرة كغاية في حد ذاتها لا تحتاج لأن تُشرح أيضًا، فهي إمتداد لنفي المبدأ.
ناقش فريدريك تشيلر في 1975 أن المخلوقات تجد جذور الوعي الذاتي في المرح، وعليه تجد الحرية، وعليه بالتالي الأخلاق وكتب تشيلر في كتابة التعليم الجمالي للرجل “أن الرجل يمرح عندما يكون في كامل الإحساس بكلمة رجل” مضيفًا، “ويكون روحيًا عندما يمرح”. فإن صح ذلك، وإن كان كروبتكين محقًا. إذن فالفكرة الغامضة للحرية أو الحياة الأخلاقية تبدأ بالظهور في كل مكان من حولنا.
مما يثير الدهشة تجاهل الدارونيين الجدد لهذا الوجه من حجة كروبتكبن ليس كـ (مشكلة الإيثار)، فالتعاضد بغرض المتعة هو غاية في الأساس، ولا يمكن الاستعاضة عنه بالأغراض الفكرية. في الواقع. نسخة فكرة الكفاح من أجل البقاء التي ظهرت في القرن العشرين لم تجد الحظ الوافر مثل الفكتورية، سبنسر نفسه سوف لا يمانع فكرة أن الحيوان يمرحُ دون هدف، بل مجرد استمتاع بالطاقة الوافرة، مثل أي طبيب أو مندوب مبيعات استطاع العودة إلى المنزل ليستمتع ويلعب الورق أو الشطرنج، فلماذا لا تحظى الحيوانات التي نجحت في البقاء بقسط من المتعة والمرح. ولكن داخل النسخة الجديدة، المنتفخة بالرأسمالية من نظرية التطور، حيث النزعة إلى التراكم ليس لها حدود، وحيث لم تعد الحياة غاية في حد ذاتها. بل أصبحت مجرد وسيلة لنشر سلسلة من الحمض النووي وبالتالي أصبح وجود المرح شيئًا ساذجًا.
لماذا أنا؟
ليس العلماء فقط هم الممانعين لإعداد مسلك قد يقودهم لكي يروا المرح وعليه بذور الوعي الذاتي والحرية والحياة الأخلاقية ما بين الحيوانات. فكثيرون يجدون صعوبة متزايدة في الإتيان بتبرير لنسب أي مما سبق ذكره، حتى للإنسان. فعندما تختزل الكائنات الحية في أنها تكافيء عقلية السوق، وأنها فقط ماكينات حسابية راشدة تحاول نشر كودها الجيني، فأنت تقبلُ ضمنيًا أن أي مخلوق هو سلفٌ مباشرٌ لنا؛ ليس فقط الخلايا التي تشكل أجسادانا ينقصها مثل الوعى الذاتي والحرية والحياة الأخلاقية، الشيء الذي يُعقد فهم مسألة لماذا تطور الوعي (العقل والروح) في الأساس.
لخص الفيلسوف الأمريكي دانيال ديننت المشكلة بوضوح. وقال: خُذ السلطعونات كمثال، إنها تشبه الإنسان الآلي فهي تتدبر أمرها دون أن تمتلك إحساسًا بنفسها. لا يمكنك السؤال عن ما هو إحساس أن تكون سلطعونًا، فهذا لايشبه أي شيء. فالسلطعونات ليست لديها أي سمات، حتى الوعي المتعارف عليه، فهي عبارة عن ماكينات. ويقول ديننت: لكن إذا كان الوضع كذلك فيجب تطبيق هذا الافتراض على كل المستويات التطورية المعقدة، إِبتداءً من الخلايا الحية التي تشكل أجسادنا، وحتى المخلوقات الحية كالقرود والأفيال ذات السمات الشبيهة بالإنسان، فالتفكير فيما تقوم به تلك الكائنات لا يمكن إثباته. كان هذا حتى وصل دانيال ديننت للإنسان الذي – بينما يحلق موقنًا بطائرة بطيار آلي على الأقل 95% من الوقت – مع كل ذلك يظهر وكأنه يمتلك هذه (الأنا)، هذا الوعي الذاتي فوق كل ذلك، الشيء الذي يظهر ما بين الحين والآخر لأخذ ملاحظات إشرافية، متدخلًا ليخبر النظام أن يبحث عن وظيفة أخرى كلإقلاع عن التدخين أو كتابة ورقة أكاديمية عن أصول الوعي بصيغة ديننت.
نعم لنا روح ولكنها مكونة من مجموعة من المخلوقات الآلية. بطريقة ما، تقوم مليارات من خلايا المخلوقات الآلية “التي لا تملك أي وعي”، والتي تكون أجسادنا بتنظيم نفسها في نظامٍ تفاعلي يحافظ على الأنشطة التي تتوزع على الروح، النفس أو الذات. ولكن بما أننا افترضنا أن المخلوقات الآلية البسيطة لا تمتلك أي وعي (لنقل أن الميكرويف والهواتف والثيرموستات ليس لديها وعي)، فلماذا لا تستطيع هذه الفرق من المخلوقات الآلية تنفيذ مشاريعها الخاصة دون أن تشكل الأنا أو الروح أو الذات؟ إذا كان للجهاز المناعي عقله الخاص، وحلقة التنسيق بين العين واليد التي تقطف الثمار لها العقل الخاص بها فلماذا نحتاج لصناعة عقل أكبر ليشرف على كل هذا؟
إجابة ديننت ليست مقنعة بصورة خاصة، فهو يقول: نقوم بتنمية الوعي كي نستطيع أن نكذب، الشيء الذي يمنحنا ميزة تطورية (لكن إن صح هذا، أليس للثعالب أن تمتلك هذا الوعي؟) لكن صعوبة السؤال تزيد بزيادة حجم الإطار عندما نسأل كيف يحدث هذا – الجزء المعقد من مشكلة الوعي كما يدعي ديفيد كالمرز هو كيف يتم الاتحاد بين الخلايا الآلية والأنظمة بتلك الطريقة التي تنتج عنها تجارب نوعية تقاس بالجودة. مثل الشعور بالرطوبة، تذوق النبيذ، أو عشق رقص الكومبيا وعدم الإكتراث لرقص السالسا؟ يعترف بعض العلماء النزيهين بأنه ليست لديهم أدنى فكرة عن كيفية تفسير هذه التجارب ويعتقدون بأنهم لن يستطيعوا فعل ذلك.
هل تتراقص الإلكترونات؟
هناك طريقة للخروج من هذا المأزق، والخطوة الأولى فيها هي أن نقطة البداية قد تكون خاطئة. بالعودة للسلطعون. سمعة السلطعون عند الفلاسفة سيئة بما يكفي ليصفوه بعدم الإحساس وعدم التفكير. بإفتراض أن السلطعون هو الحيوان الوحيد الذي قتله معظم الفلاسفة بأنفسهم قبل أكله. أليس من البغيض أن تلقي بكائن مًحب للحياة في مقلاة مليئة بالماء الحار، قد يحتاج المرء للإيجاد القدرة على إخبار نفسه أن هذا السلطعون لا يحس بذلك. (الاستثناء الوحيد لهذا النمط كان في فرنسا حيث اعتاد جيرارد ونيرفال على التنزه مع السلطعون، وحيث صار جون بول سارتر مهووسًا بالسلطعون بعد تناول المهدئات) لكن في الواقع فقد أفادت المشاهدات العلمية أنه حتى السلطعون يمارس نوعًا من أنواع المرح. كمناورة الأجسام مثلًا وقد يفعل ذلك فقط من أجل الاستمتاع بهذا الفعل. إن كان ذلك هو الحال فإطلاق كلمة مخلوق آلي على هذه المخلوقات سيضفي خللًا على معنى كلمة مخلوق آلي. فالماكينات لا تلهو وتعبث. لكن لو لم تكن المخلوقات الحية آلية بعد كل هذا فسيُحل فورًا ما بدا من الأسئلة الشائكة.
ماذا سيحدث إذا انطلقنا من المنظور العكسي ووافقنا على أن نعامل المرح على إنه فعل غريب وشاذ، ولكن نقطة بدايتنا هنا ستكون مبدأ لا يمثل السلطعون فقط ولكن كل الكائنات الحية، في كل مستوى، ما يدعوه علماء الكيمياء والفيزياء والأحياء بــــ (أنظمة التنظيم الذاتي)؟ Self organizing systems
هذا ليس قريبًا من الجنون كما يبدو
واجه فلاسفة العلم لغز كيف يمكن أن تكون الحياة نشأت من مادة ساكنة (ميتة)، و كيف للوعي أن يتطور من الجراثيم الصغيرة. فقدموا تفسيرين؛
التفسير الأول يتكون من ما يسمى بالنشوء؛ والحجة هنا تقول أنه عند الوصول لمستوى محدد من التعقيد تحدث طفرة نوعية ينتج عنها أنواعٌ جديدة لها قوانين طبيعية مختلفة. أنواع تحتل المقدمة ولا يمكن اختزالها إلى ما جاء قبلها. وبهذه الطريقة يمكن لقوانين الكيمياء أن تنشأ من الفيزياء فقوانين الكيمياء تفترض سلفًا قوانين الفيزياء لكن لا يمكن أن تختزل إليها. وبنفس الطريقة نشأت قوانين الأحياء من الكيمياء. فلا بد للمرء أن يعلم كل المكونات الكيمائية للأسماك ليفسر كيف تسبح. ولكن المكونات الكيميائية لن تزودنا بالتفسير الكامل. وبهذه الطريقة يمكن القول بأن عقل الإنسأن نشأ من تلك الخلايا التي صنعته.
الرأى الآخر يقول، المدعوون باللافيزيائيين يتفقون على أنه قد يكون كل ذلك صحيحًا ولكن النشوء وحده لا يكفي. وكما قال الفيلسوف البريطاني غالن ستراوسن: أنتخيل أن شيئًا ينتقل من مادة بلا حس إلى شيء له القدرة على مناقشة وجود المادة التي ليس لها حس في مجرد قفزتين. هذا ببساطة لجعل النشوء يقوم بالمزيد من العمل. يحب أن يكون هناك شيء ما، على أي مستوى من الوجود المادي حتى الجسيمات داخل الذرة، وإن كانت أصغر وإبتدائية، تؤدي فعلًا كل الذي إعتدنا اعتقاده عن الحياة أو حتى العقل. ولكي يتم تنظيم هذا الشيء على المستويات المعقدة أكثر فأكثر لينتج كيانًا ذو وعي ذاتي. قد يكون هذا الشيء متناهي الصغر بالطبع: شعورًا إبتدائيًا جدًا باللاستجابة لعوامل بيئة ما. شيء كالتوقع أو الذاكرة. بغض النظر عن إبتدائية هذا الشيء فيجب أن يكون موجودًا في الأنظمة المنظمة ذاتيًا كالجزيئات والذرات ليقوم بذلك التنظيم في المقام الأول.
كل أنواع الأسئلة في هذا الجدل على المحك، حتى مشكلة الإرادة الحرة. كما يتأمل مليارات من المراهقين في لغز الكون – إذا تم تحديد حركة الجسيمات التي تُكون عقولنا بواسطة قانون الطبيعة، فكيف لنا أن نقول بإننا نمتلك إرادة حرة؟ الإجابة النموذجية للسؤال التي نعلمها من هيسنبيرغ أن حركة الجسيمات الذرية ليست محددة سلفًا: تستطيع فيزياء الكم أن تتوقع إلى أي موقع ستقفز الإلكترونات ككل في موقف محدد. ولكن من المستحيل توقع إلى طريق سيقفز إلكترون واحد محدد. تم حل المشكلة.
باستثناء شيء ما لا يزال مفقودًا. إذا كان كل هذا يعني أن الجسيمات التي تُشكل عقولنا تقفز بعشوائية في الأنحاء فسيكون باستطاعة شخص ما أن يتخيل بعض الماورائيات التي تتدخل لتدل الخلايا العصبية بطريقة غير عشوائية على الاتجاهات الصحيحة: لكن هذا قد سيصبح دائريًا، فبالتأكيد سنحتاج عقلًا لجعل المخ بتصرف بعقلانية.
إذا كانت هذه الحركات ليست عشوائية فسيمكننا في المقابل التفكير في تفسير مادي. ووجود أشكال لا منتهية من الأنظمة المنظمة ذاتيًا – بنيات تحمي نفسها بتوازن مع البيئة، من الحقول الكهروماغنطيسية إلى عمليات البلورة – تمنح اللافيزيائين قسطًا كبيرًا من المادية لتعمل عليه. صحيح أن ما يدعون إليه من خلال إصرارهم أن كل الكائنات الحية إما أن تنصاع لقوانين الطبيعة (لا سيما وهي قوانين تحتاج لتفسير لوجودها في ذاتها) أو أن تكون متحركة بعشوائية تامة. ولكن إذا قمنا بذلك، فذلك فقط لأننا قررنا أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي نود أن ننظر بها للأمر. وهي تترك حقيقة إمتلاك عقل قادر على صنع مثل هذه القرارات لغزًا محيرًا.
فرضًا أن هذا المذهب كان دومًا في وضع الأقلية وفي فترة من الفترات كان مهملًا تمامًا. كان من السهل أن نسخر منه بقول (هل أنت فعلًا تعني ما تقول أن هذا المقعد يفكر؟ في الواقع لا أحد يقول ذلك بل القول هو تلك العناصر المنظمة ذاتيًا التي تكون المقعد والقلم كالذرة التي أثبتت أشكال بسيطة للنوعيات على مستوى معقد جداً تعتبر فكرة) لكن في السنوات الأخيرة، خاصة مع الشعبية التي ظهرت حديثًا، في بعض الدوائر العلمية بدأ يظهر انتعاش لأفكار فلاسفة أمثال تجارلس ساندرز بيريس(1839-1914) وألفريد نورث وايتهيد (1861-1947).
الغريب في الأمر أن علماء الفيزياء هم الأكثر تقبلًا لمثل هذه الأفكار (كذلك علماء الرياضيات وهذا ليس غريبًا فبيريس ووايتهيد هم أنفسهم بدؤا حياتهم كعلماء رياضيات). علماء الفيزياء أكثر لهوًا و أقل تحجرًا من أمثالهم في علم الأحياء لأنهم لا يتعاملون مع العقائديين المتدينين الذين يتحدون قوانين الطبيعة. فهم شعراء العالم العلمي. إذا أراد أحد أن يشمل عناصرًا ذو ثلاثة عشر بعدًا أو عدد لا منتهي من الأكوان المختلفة، أو يقول 95% من العالم صنع من مادة ساكنة وطاقة لا ندري شيئًا عن خواصها، ربما لا يوجد انتقال مفاجىء لنتفكر أيضًا في إمكانية أن الجسيمات الذرية الصغيرة تمتلك حرية الإرادة أو حتى التجربة. و بالطبع وجود حرية على مستوى الجسيم حاليًا هو السؤال الرئيس في النقاش.
ما لم يستطع علماء النفس التطوريين تفسيره هو لماذا المرح مرح؟
هل هناك معنى لنقول أن الإلكترون يختار الطريقة التي يقفز بها؟ من الواضح أن ذلك لا يمكن إثباته. البرهان الوحيد الذي نمتلكه (لا نستطيع توقع ما قد يفعله الإلكترون)، بل نمتلكه لكنه بالكاد يكون حاسمًا. لا يزال إذا أراد أحد تفسيرًا ماديًا متماسكًا للعالم- بمعنى أن أراد أحدٌ أن لا يتعامل مع العقل ككيان خارق للطبيعة فرض على العالم المادي لكن ببساطة كعملية تنظيمية معقدة للعمليات الجارية على كل مستويات الواقع المادي – إذن، فهناك معنى كي يكون هناك على الأقل شيء بسيط كقصد الفعل، أو شيء بسيط كالتجربة، أو شيء بسيط كالحرية موجودًا على أي مستوى من مستويات الطبيعة الفيزيائية أيضًا.
لماذا ينفر معظمنا عند هذا الاستنتاج؟ لماذا يبدوا أنهم فقدوا صوابهم وأصبحوا غير علميين؟ أكثر من هذا لماذا نرغب في أن نُعزِي وكالةً لحبل من الحمض النووي ولو مجازيًا، ونعتبر أنه من السخف أن نفعل نفس الشيء للإلكترون أو قطعة الثلج أو الحقول الكهرومغناطيسية المتماسكة؟ الإجابة هي لأنه من المستحيل أن نعزو المصلحة الشخصية إلى قطعة من الثلج. إذا اقنعنا أنفسنا بأن التفسير العقلاني لفعل ما يتألف فقط من معاملة الفعل وكأن هناك نوع من خدمة المصالح الشخصية وراءه، فبهذا التعريف، وعلى هذا المستوى، سيستحيل علينا إيجاد هذا التفسير. على عكس جسيمات الحمض النووي فيمكن على الأقل أن تسعى لمجرم ما يقوم بعملية تعظيم للنفس تخلو من الرحمة، الإلكترون ليس لديه هدف مادي ليسعى خلفه ولا حتى البقاء. لا فائدة من التنافس مع إلكترون آخر وكما يفترض في قول ريتشارد فينمين (إذا تصرف إلكترون بحرية، فلا يفعل هذا لشيء إلا لأن التصرف بحرية هو غايته. مما يعني أنه في أساسيات الواقع المادي نلتقي بحرية من أجل الحرية نفسها – مما يعني أيضًا أننا نلتقي بأكثر أنواع اللعب واللهو إبتدائيةً.
أسبح مع الأسماك
لنتخيل مبدأ ما. لنسميه مبدأ الحرية أو بما أن البنيات اللاتينية تعطي هذه المسائل قدر كبير من الاهتمام فلنسميه مبدأ حرية المرح. لنتخيل أنه يمتلك حرية ممارسة مقدرات إرادية أو سلطات أكثر الكينونات تعقيدًا، تحت ظروف معينة على الأقل، يميل ليصبح غاية في حد ذاته. يتضح جليًا أنه سيكون المبدأ الوحيد النشط في الطبيعة. لولا أن هناك من يدفع في الاتجاه المعاكس لأصبح سهلًا تفسير مشاهداتنا مثلًا؛ بالرغم من القانون الثاني لديناميكية الحركة يبدو أن الكون أصبح أكثر تعقيدًا من ما هو عليه. يدعي علماء النفس التطوريين بأنهم يستطيعون تفسير لمَ نستمتع بممارسة الجنس، أما ما لا يستطيعون تفسيره لماذا المتعة متعة في حد ذاتها.
لا أنكر أن ما قدمته حتى الآن هو تبسيط متوسط المستوى لمواضيع شديدة التعقيد. ولا أقول حتى أن الموقف الذي اتخذه هنا – تطبيق مبدأ المرح على أساس كل الواقع المادي – بالضرورة هو حقيقة. لكنني أُصر على أن مثل هذا المنظور جدير بالتصديق إذا كان التخمين غير المتناسق والغريب المتداول بين الأرثودوكس. والذي فيه أن الكون الآلي الذي لا عقل له فجأة يقوم بإنتاج الشعراء والفلاسفة من العدم. ولا حتى اعتقد أن رؤية المرح كمبدأ للطبيعة بالضرورة يعني تبني وجهة نظر مثالية. مبدأ المرح يمكنه تفسير سر المتعة في ممارسة الجنس ولكنه أيضًا يفسر سر المتعة في القسوة والوحشية. (كما يستطيع كل من شاهد قطًا يلعب بفأر أن يقول ليس كل أنواع لعب الحيوان جميلة ومسالمة) لكن يعطينا أرضية لكي نفكر في العالم من حولنا.
قبل سنوات بينما كنت أدرس في جامعة ييل كنت أدرس قصة من الفلسفة الطاوية الصينية، ووعدت الطلاب بإعطاء الدرجة الكاملة لكل من يخبرني لماذا يحتوي المقطع الأخير على معنى كبير. ( لم ينجح في ذلك أي منهم).
إليكم القصة، بينما كان زونغزي وهوزي يسيران فوق جسر على نهر اللهو، نظر زونغزي للنهر وقال: أنظر كيف يقفز السمك بين الصخور، يا لسعادة الأسماك.
فرد هوزي : لم تكن يومًا سمكة فكيف لك أن تعرف ما يجعل السمك سعيدًا؟
زونغزى : وأنت لم تكن يومًا أنا فكيف لك أن تعرف أنني لا أعلم ما يجعل السمك سعيدًا؟؟
هوزي : لو لم أكن أعلم ما تعلمه أنت دون أن أكون أنت، أوليست نفس الفكرة أنك إن لم تكن سمكة فلن تعلم ما يجعل السمك سعيدًا؟
زونغزى : دعنا نرجع لسؤالك الأساسي، لقد سألتني كيف أعلم أن السمك سعيد، هي نفس الحقيقة التي تظهر أنك علمت أنني علمت – كما علمت من إحساسي عند الجسر.
تُحكى هذه القصة كمواجهة بين رؤيتين لا يمكن التوافق بينهما حول العالم. المنطقي واللامنطقي. ولكن إن صح هذا فلماذا كتب زونغزي هذه القصة ليحكي أنه هُزم من قبل صديقه المنطقي؟
بعد التمحص في القصة لسنوات نما إلى فكري أن ذلك هو المغزى. تحت كل الاعتبارات زونغزي وهوزي أصدقاء أعزاء فهم يستمتعون بقضاء الساعات يتناقشون بهذه الطريقة. بالتأكيد هذا ما يفعلانه. نستطع تفهم مشاعر الآخرين لأننا نفعل نفس الشيء الذي يفعله السمك، الاستمتاع، فعل شيء ما فقط من أجل متعة الفعل نفسه. القيام بشكل من أشكال اللهو والمرح. حقيقة أنك اضطررت أن تحاول هزيمتي في النقاش وكنت سعيدًا بالقدرة على فعل ذلك تظهر أن افتراضك الأساسي الذي حاججت به يجب أن يكون خاطئًا. بما أنه حتى الفلاسفة مدفوعين بالأساس بمثل هذه المتعة، بمتعة ممارسة سلطاتهم العليا لأجل هذا الفعل نفسه (ممارسة تلك السلطات)، إذن، بالتأكيد هذا المبدأ موجود على كل مستويات الطبيعة، الشيء الذي سجعلني وبكل تلقائية أتعرف عليه، حتى في الأسماك.
زونغزي كان محقًا، وكذلك كانت جوون سندرستورم. عقولنا هي جزء من الطبيعة. يمكننا أن نفهم سعادة الأسماك والنمل أو اللولبية لأن ما يقودنا للتفكير والنقاش في مثل هذه المسائل في نهاية المطاف هو نفس الشيء، المتعة.
ألم يكن هذا ممتعًا؟