الشِّعرُ فصلٌ خامسٌ وسماءٌ صِفرٌ بجناحَيْ فراشةٍ
(عنِ الشِّعرِ والشَّاعرِ فِي يومِ الشِّعرِ الطَّويلِ الدَّائمِ)
لَا شعرٌ بدونِ فكرةٍ، وبدونِ مخيَّلةٍ مشبعةٍ بالدَّهشةِ والفرحِ والجرحِ، وهذَا مَا أُسمِّيهِ المرورَ بينَ الشَّيءِ وضدِّهِ/ ونقيضهِ، بإِيقاعٍ نفسيٍّ وفكريٍّ ولغويٍّ أَيضًا، وإِنِّي أَضعُ هنا خطَّينِ تحتَ كلمةِ إِيقاعٍ؛ فحينَ أَكتبُ عنِ الوطنِ/ الأَرض، فإِنِّي أَكتبُ عنِ الشَّيء وضدِّهِ، عنِ الحبِّ والحرقةِ، عنِ وطنِي بإِيقاعٍ نفسيٍّ ينعكسُ علَى الكلماتِ الَّتي أُوظِّفُها، وأَنحتُها، وأَشتغلُ علَيْها؛ لتمنحَ النَّصَّ/ القصيدةَ نغمَها الخاصَّ بِها، وأَمتطي صهوةَ الكلمةِ/ الصَّهيلَ، لتجلجلَ فِي ذاتِي الَّتي أَرانِي أَقربَ منْها إِلى القصيدةِ؛ إِذْ لَا يُمكنني العبورُ بفرسِي الضَّابحةِ الجموحةِ بدونِ هذَا الصَّهيلِ/ الجرسِ الموسيقيِّ؛ العاليِّ مرَّاتٍ والهامسِ مرَّاتٍ، فتزدادُ ضرباتُ إِيقاعِ القلبِ كلَّما توغَّلتُ بالكلماتِ، وأَسمعُ رنينَ طبولِها يتردَّدُ تحتَ أَناملِي وأَنا أَخطُّها بكلِّ حبٍّ وبأْسٍ أَيضًا. الإِيقاعُ الفكريُّ، أَيضًا، يتجلَّى حينَ أَتأَمَّلُها فكرَتي، وحينَ أَرسمُها كلماتٍ علَى الورقةِ تغدُو بإِيقاعِها علَى السُّطورِ نغمًا يتدفَّقُ وينسكبُ بكلِّ أَريحيَّتهِ باتِّجاهاتهِ؛ الأُفقيَّةِ، والعموديَّةِ، والمائلةِ، والمتَّصلةِ، والمتقطِّعةِ، وحينَ أَخطُّها بموسيقَى القلبِ وأَناملِ الوعي- بِفوضاها أَو بهدوئِها- تظلُّ القصيدةُ بِي، وأَظلُّ بِها.
كنْ أَنتَ أَنتَ.. لَا تبحثْ عَن قارئِكَ أَو ناقدِكَ.. إِنَّهُما فيكَ، إِنْ لمْ يكُونا أَنتَ!”. هيَ هكَذا لحظةُ الكتابةِ للشَّاعرِ، وهيَ هكَذا لِي، وأُومنُ بِها شديدَ الإِيمانِ وسأَظلُّ، وهكَذا أَحياها بكلِّ هواجسِها ومكائدِها وصعوبتِها واشتهائِها؛ فأَنْ تكونَ شاعرًا، يَعني أَنْ تكونَ مبدعًا بالمفهومِ الإِنسانيِّ، معتمدًا لغتَكَ المشاكسةَ الشَّرسةَ والحانيةَ فِي آنٍ؛ فالشِّعرُ لغةٌ أَوَّلًا، ولَا يمكنُ لهُ أَنْ يُوجدَ بدونِها. أَنطلقُ مِن وعيِ اللَّاوعيِ لكيْ أُحلِّقَ باللُّغةِ، فأُعِيدُ الجمالَ بصيغةٍ أَكثرَ جمالًا، ولَا يتسنَّى هذَا لَولا الإِقامةُ الدَّائمةُ لِي فِي الشِّعرِ، وحيثُ يقيمُ هوَ بِي أَيضًا؛ فقدْ وهبتُ لهُ حيَاتي مِن حيَاتي، إِذْ تلتقطُني القصيدةُ علَى حينِ غرَّةٍ بإشراقتِها البرقيَّةِ فيَّ، وبإشراقتِي المباغتةِ فِيها، بلغةٍ جريئةٍ مستفِزَّةٍ، لكنْ بِها شروقُ عنادٍ وسطوعُ تمرُّدٍ، يستفِزَّانِ شهوةَ المخيَّلةِ، بلغةِ الذَّاكرةِ المنتبهةِ. وأَقصِدُ بالتَّمرُّدِ الخلَّاقِ الإِيجابيَّ المتوالدَ، الرَّافضَ للصُّورِ المتكرِّرةِ، فاللُّغةِ تموتُ، وتصبحُ ممجوجةً حينَ تتكرَّرُ، ومَا بِهذا يكونُ الشِّعرُ، فهوَ رسمٌ بالكلماتِ، وإِفصاحٌ بجرأَةٍ، ورقصٌ معبِّرٌ علَى حبالِ المجازِ والتَّوريةِ والكنايةِ بحِرَفيَّةٍ شديدةٍ، والسُّؤالُ القلقِ أَيضًا، لتدفعَ بالقارئِ إِلى قراءةِ النَّصِّ بأَعينٍ أُخرى؛ عينِ رسَّامٍ تشكيليٍّ، وأُخرى لنحَّاتٍ، وأُخرى لسرياليٍّ، وأُخرى لناقدٍ، فالشَّاعرُ المتمكِّنُ هوَ الَّذي يخلقُ لِلغتهِ الشِّعريَّةِ ملامحَ خاصَّةً بهِ.
الشِّعرُ ثقافةٌ، وحياةٌ داخلَ الحياةِ الإِنسانيَّةِ تنمُو بِها، وتتشاسعُ، وتتعالَى بمَدًى لَا حدودَ لهُ.. هوَ التَّأَمُّلُ، لِذا فإِنِّي أُؤكِّدُ علَى مسأَلةٍ مهمَّةٍ، وهيَ أَنَّ كتابةَ الشِّعرِ هيَ شمسُ السُّؤالِ وظِلُّ إِجابتهِ. الشِّعرُ لَا يعتمدُ المباشَرةَ؛ فهوَ ليسَ آلةً فوتوغرافيَّة أَو ناسخةً، والشَّاعرُ ليسَ صحافيًّا أَو كاتبَ تَقارير. كفَاهُ أَنْ يكونَ صادقًا أَوَّلًا لتتفرَّعَ منهُ وعنهُ آفاقٌ أُخرى بمَداها الإِنسانيِّ الفكريِّ الكينونيِّ. الشِّعرُ فصلٌ خامسٌ، وسماءٌ صِفرٌ بجناحَيْ فراشةٍ!
ومَاذا بعدُ أَيُّها الشَّاعرُ فيَّ.. أتُراني قلتُ مَا يخالجُني؟ لَا أَعتقدُ؛ فدائمًا كنتُ بينَ الكلِّ وأَشعرُني وَحدي، فِي سفرٍ دائمٍ وتَرحالٍ بالبحثِ فِي أَقاصي هذهِ الجغرافيةِ الَّتي لَا حدودَ لَها، ولهذَا اختارتْني العزلةُ لتكونَ طقسًا، ليسَ بمفهومِ الطُّقوسِ المقيَّدةِ بالزَّمانِ والمكانِ، بلْ لأَنَّ العزلةَ تمنحُ الشَّاعرَ- فيَّ تلكَ الشَّساعةَ منَ المتخيَّلِ- ذلكَ الهدوءَ الَّذي يعيدُني إِليَّ لأَكتشفَني كلَّ مرَّةٍ وكأَنَّها المرَّةُ الأُولى، فمَا زلتُ أَحلمُ بأَنْ أَظلَّ شاعرًا، فطَريقتي للتَّخاطبِ والحوارِ معَ الآخرِ هيَ الكتابةُ؛ منطِقي الشَّخصيُّ الَّذي أَنطلقُ منهُ، وكمَا أُردِّدُ أَنَّ رِيشتي هيَ سيفُ شجاعتِي، وَعشبُ أَسئلتي. فالعزلةُ الَّتي اختارتْني لمْ تُبعدْني عنِ الواقعيِّ المعيشِ بقدرِ مَا جعلتْني أَراهُ بتمعُّنٍ، وتأَمُّلٍ، وتدقيقٍ بالرُّؤيةِ لتكونَ لِي رؤيايَ الواضحةُ، لأَهدمَ الهوَّةَ الَّتي بينِي وبينِي، والَّتي لَا تكونُ إِلَّا بالشِّعرِ، لِهذا أَنا شاعرٌ لأُدافعَ عنْ هذهِ الوحدةِ الَّتي تفهمُني وأَفهمُها، فهيَ تُسكِنُ فِيها تفاصيلِي اليوميَّةَ، وهكَذا أَتحرَّرُ منَ الكلامِ العاديِّ لأُعانقَ اللُّغةَ الشِّعريَّةَ الخاصَّةَ بِي؛ أُحاورُها، وأُشاكسُها، وأَرتمي فِي مِحرابِها/ مِحرابِي. هذهِ ليستْ هزيمةٌ إِطلاقًا، بلِ اختيارٌ منَ الطَّرفَيْنِ؛ فمَا بينِي والشِّعرِ هوَ حياةٌ بكلِّ معانِي العمرِ فِيها، وعلَى الرَّغمِ منْ صعوبةِ الأَمرِ والاصطبارِ عليهِ، إِلَّا أَنِّي أَعشقُها عُزلتي الشِّعريَّةَ، فهيَ أَوقاتُ الصَّفاءِ أَلتقِي فِيها بالشَّاعرِ فيَّ.
* مدير عام “بيت الشعر” في فلسطين، ورئيس تحرير مجلة “مشارف مقدسية”.