التأنيث في ديوان “أيُّها الشَّاعر فيَّ” لمحمَّد حلمي الرِّيشة
عندما يقدم النص للمتلقي، يصبح له الحق في تفسيره حسبما يراه. طبعاً بعد أن يتقدم من النص ويتعود عليه.
الشاعر يحاول أن يهرب من مصارحتنا بهمومه، فهو يميل/ ينحاز/ يعشق/ يهيم بالمرأة، لكنه يعمل على الزوغان من هذا التعلق/ الحب، فيستخدم “القصيدة” المؤنثة، لكي يموه مشاعره، فالديوان بغالبيته- ولن نقول بمجمله- حتى نكون موضوعيين. يستخدم أفعالاً/ ألفاظاً/ حروفاً/ عبارات/ جملاً متعلقة بالمرأة/ بالأنثى/ بالشهوة، وهي تتفوق وتتجاوز مفهوم “القصيدة” التي يتخفى وراءها، فلو كانت هذه الألفاظ/ الجمل/ الحروف متعلقة بالقصيدة وبالشعر، لعمل على تذكير البعض منها، من خلال استخدام لفظ الشعر/ الديوان، لكن العقل الباطن يدفعه إلى هذا التجاهل، والسير نحو مكامن ما يحمله/ ما يريد طرحه؛ المرأة وليس القصيدة.
الديوان متواضع في حجمه، لكنه كبير في طرحه؛ يدفع المتلقي للتوقف عند العديد مما جاء فيه، فلا شك أن اللغة/ الجمل التي يستخدمها الشاعر مركبة، تحمل أكثر من مدلول، وهذا ما يجعل الديوان يحمل بعداً فلسفياً/ تأملياً، ونجد فيه استحضاراً للنص القرآني بطريقة جديدة غير مألوفة، فهناك تأثر واضح عند الشاعر بسورة الرحمن وسورة يوسف تحديداً، وهذا ما يجعلنا نؤكد مسألة الزوغان التي يقوم بها الشاعر في قصائده، فسورة الرحمن تحمل معاني وصوراً جمالية غاية في الروعة، وسورة يوسف هي السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي تتحدث عن علاقة حب وعشق، وهي السورة الوحيدة التي- بغالبيتها- متعلقة بحدث واحد، بقصة واحدة، قصة يوسف (عليه السلام).
قبل الدخول إلى الديوان، ننوّه إلى أن الشاعر لم يسمِّ/ يعنون أي قصيدة، وهذا الشكل متبع عند الغرب تحديداً، وأذكر في هذا المجال بأن الشاعر الروسي (يسنين) كتب العديد من القصائد بدون عنوان. سنحاول توضيح وجهة نظرنا حول طرح المقصود/ المرأة في الديوان، وليس القصيدة، من خلال الشواهد التي سنقدمها. يقول:
لَيْسَتْ لَكِ
أَسْمَاءٌ حُسْنَى..
… … …
أَنْتِ/
سُطُورٌ بِسَرِيرٍ
تَزَّمَّلُ/
بِمَنَامَةِ أُنْثَى.(ص27)
فهنا نجد ألفاظ: (بسرير، بمنامة أنثى)، تعني الشهوة، والمرأة.
ويقول:
لَا مَفَرَّ مِنْ مِنْفَضَتِهَا،
وَإِنْ عَرْجَاءُ،
تَتَقَدَّمُ نَحْوِي
لِأُطْفِئَ فِيهَا
سَاقَ سِيجَارَتِي
قَبْلَ اكْتِمَالِ احْتِرَاقِهَا،
وَانْطِفَاءِ جَسَدِي.(ص29)
التورية واضحة، والتخفي خلف السيجارة لا يمكن أن يكون كاملاً؛ لأن انطفاء الجسد يؤكد بأن المقصود ليست القصيدة، وإنما المرأة/ الأنثى.
ويقول:
قَصِيدَتِي الَّتِي تَرَكْتُهَا تَتَلَوَّى فِي غَدِي عَلَى رَمْسِ أَمْسِي، لَمْ تَزَلْ تُحَاوِلُ نَفْضَ بِهَارِ انْتِظَارٍ عَنْ لِسَانِهَا لِتَقُولَنِي شَغَفًا.
أَنَا لَمْ أَزَلْ أَعُضُّ الطَّرْفَ كَيْ لَا أَرَانِي أَرَاهَا، وَأُشَاغِلُنِي عَنْهَا بِنَقْضِ لُغَةٍ أُخْرَى لِأُقَرِّبَ قَصِيدَتَهَا إِلَيَّ.
… … …
يَا (قيصر باييخو)*.. كَيْفَ كَرِهْتَ نَفْسَكَ بِحَنَانٍ؟!
أَنَا مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أُحِبَّ أَنَايَ بِأَمَانٍ؟!(ص33)
نجد ألفاظ “تتلوى، نفض، شغفاً”، كلها توحي بالشهوة والمرأة.
سنحاول تقديم شكل استحضار النص القرآني في الديوان الذي- كما قلنا سابقا- يدعم ما نريد أن نطرحه بأن المقصود هو المرأة بعينها. يقول الشاعر:
سَأُلْقِيكِ
مِنْ عَلَى جَبَلٍ
لَا يَعْصِمُكِ مِنِّي،
وَسَأَكُونَ هُنَاكَ
قَبْلَكِ
وَبِانْتِظَاركِ
أَيَّتُهَا العَاوِيَةُ!(ص34)
فهذا الاستحضار لقصة “نوح” يؤكد ما نقول، حيث إن هذا اللفظ “يعصمني” جاء على لسان “ابن نوح” الخارج عن طوع الأب، الكافر بالحق، والمتبع أهواءه، وهنا يستخدم الشاعر هذه الإشارة- إن كان واعياً أم في العقل الباطن-، لكننا نستشف منها ما يريده؛ الخروج عن المألوف واتباع الشهوات.
ويقول :
عَيْنَانْ-
شَفَتَانْ؛
بِالنُّضْجِ
نَضَّاحَتَانْ..
النَّثْرُ خَمْرُهُمَا..
الشِّعْرُ سُكْرُهُمَا،
وَذَوَاتَا دَنَّانْ.(ص53)
فهنا يتناص الشاعر مع سورة الرحمن، بشكل مغاير، حيث جعل بعض الألفاظ منها يخدم فكرته التي لا يريدنا أن نكتشفها. هنا تتضح الصور؛ فالألفاظ تبين لنا أكثر ما يحمله الشاعر في العقل الباطن، فكل ما جاء سابقاً يوحي بالشهوة، بالمرأة، بالأنثى، وليس بالقصيدة.
وهنا يستخدم قصة يوسف التي جاءت في القرآن الكريم بهذه الطريقة:
أَلَا هَيْتَ لِي شَاعِرًا وَأَلَا هَيْتِ أَنْتِ..
(زُلَيْخُ) أَنَا حَيْثُ كُنْتُ وَكُنْتِ،
وَمَا مِنْ قَمِيصٍ عَلَيْكِ أَقُدُّ، وَمَا مِنْ (عَزِيزٍ) يَغَارُ فَغِرْتُ..
فَيَا (يُوسُفَةْ)-
أَمَا كَانَ لِلشِّعْرِ هذَا فَمٌ وَاحِدٌ كُنْتُ قَبَّلْتُهُ وَاسْتَرَحْتُ؟
وَلكِنْ
أَظُنُّ لِأَنِّي أَنَا- شَاعِرًا- مَا فَعَلْتُ!(ص68)
أعتقد، من خلال هذا الاقتباس، أنه يمكننا مسك الخيط الذي يؤدي إلى ما يخفيه الشاعر، تعلقه بالمرأة، بالأنثى، وليس بالنص الشعري.
الشاعر محمد حلمي الريشة لا يكتب في السياسة، لكنه عندما يتناولها يكون، أيضاً، غير واضح فيها، يتخفى، أو أنه يتعمد أن يجعل المتلقي يبحث في خفايا النص، وأن لا يقدم فكرة مكشوفة ومعروفة، فيتلقاها القارئ بلا تعب، بلا تأمل، فتمر مرور الكرام، كما يمر أي خبر/ حدث آخر، أعتقد بأن قصيدة “انتفاضة” التي جاءت في ديوانه “أطلس الغبار” توضح لنا الكيفية التي يتناول فيها الشاعر الحدث السياسي، وهذا الشكل من القصائد السياسية يؤكده الشاعر بهذا الديوان من خلال ما يأتي:
غُيُومٌ وَقِحَةٌ تَتَرَاقَصُ هَيْفَاءَ عَلَى الإِسْفَلْتِ المَائِلِ..
رِيَاحٌ، لَيْسَتْ لَوَاقِحَ، نَكَّسَتْ شَجَرَةَ التِّينِ جَارَتِي..
ثَلْجٌ سَابِحٌ/ سَارِحٌ يَسْتُرُ نَهْدَيْ مُسْتَوْطَنَةٍ بَشِعَةٍ، وَيَكْشِفُ، آسِفًا، عُرِيَّ رِدْفَيْنَا..
كَهْرَبَاءٌ مَفْقُودَةٌ لَا يَزَالُ البَحْثُ جَارٍ عَنْهَا..
(انْقِطَاعٌ، الآنَ، فِي بَثِّي المُعَاشَرِ)
مَاذَا أَفْعَلُنِي هُنَا، وَأَنَا مُجَدَّرٌ بِأَثِيرِ هَاتِفِهَا المُهَدْهِدِ لِلشَّوْقِ، بَيْنَمَا وَحْدِي هُنَا؛ تُسَيِّجُنِي عَنْكَبُوتُ الوَقْتِ بِكُلِّ هذَا الجَمَالِ القَبِيحِ؟!(ص75)
فهنا كان الطرح سياسياً، لكنه غير مباشر، غير مكشوف تماماً، فتقديم المستوطنة بهيئة البغي السافرة، يجعلنا نشعر بالاشمئزاز والامتعاض منها. وما يحسب لهذا التقديم أن الشاعر استحضر شجرة التين التي نكستها الرياح، ومن جمالية هذا المشهد استحضار البعد الديني من خلال عبارة “رياح ليست لواقح”، وكأنه بهذا يريدنا أن نربط مسألة القرف/ الاشمئزاز من البغاء بالمفهوم الديني والأخلاقي، كدعم لما يريد أن يطرحه، وقد جاء الاستخدام المقلوب “الرياح ليست لواقح”، والتي كان من المفترض أن تكون “الرياح اللواقح”، في إشارة إلى أن ما يحصل على الأرض مطابق مع قلب اللفظ، فالمستوطنة قلبت ما على الأرض، وغيرت معالمه.
* كاتب من فلسطين