ثمار

بطون فارغة ومهملة

خليل

التمرات الست المعلقات على إطار ورقي خلف الظهور الصغيرة، أوحت لعصافير بطنها بالزقزقة، وتذكرت في تلك اللحظة بالتحديد أن لحظات الأكل قد مرَّت عليها عقارب الساعة كحفنة تراب في المدينة الكبيرة أو كمُتسوِّل تعيس على باب مسجد، فأول الأمس مرَّ هكذا، بلاشيء. الأمس كان دسماً، فقد توقف عند قطعة خبز يابسة “قعر عيشة”، كان يموت على شباك الفصل، تقاسمته مع نملات نشطات (البطون الفارغة أكثر تسامحاً). أما اليوم ها هي الثواني تتوقف على تمرات ست رسمت بحرفية ومهنية عالية: اثنتان منها ترتمي مستكينة على اليمين، وواحدة تقف وحيدة وحائرة في الوسط تماماً، أما الثلاث المتبقيات فرقدن في الآخر بصداقة حميمة وجميلة، بعد أن توسطتهن علامة + بعد التمرات الأول وعلامة = بعد تلك التمرة الحائرة، مكتوب تحتها بخط ملون بلون الجوع أن 2+1=3.

هي الآن تقسمها كما اتفق، لها تمرتان، وصديقتها المجاورة مثلهما. أما الباقي فلأخيها الأصغر (البطون الفارغة أكثر عدلاً)، وبذلك تكون أسكتت عصافير تزقزق لثلاثة أيام وأكثر.

انتبااااااااااااااااااااه! مع القذف بنصف طباشيرة تجاه الصغيرة بخرت منها حلم التمرات الست (فالبطون الفارغة لا يحق لها الحلم)، أعادتها لجوعها، لواقعها المرير، لموتها البطيء لحروف تزرع بيضاء على فراغ أسود تموت فيه كحلمها الضائع. “الغباء لا يحتاج إلى التلُّفت”، قلت ذلك بكل عنجهية، في اللحظة التي كان يجب أن أسبق فيها الزمن ولو قليلاً فقط. أفكر أن (للبطون الفارغة جنود يشتتون تفكيرها).. بدلاً عن ذلك أتجهن بخطواتي العسكرية تلك نحوها، أصابعي المتمرنة على جلود ولحوم لدنة وطرية تستعد للانغراس في قطعة لحم ما، خدها الأيمن.. لا شيء.. الأيسر ناشف ومحنط، فخذها.. قطعة قماش فقط كل ما استطاعت الأصابع الإحاطة به، فلا بد من رصعة ما، على الخد، الظهر الـ…. المهم لا رجوع خالية الوفاض من هيبتي.. أجبرتني على صيحة شقت حلقي، رمي طباشيرة أو نصفها، وعدة خطوات متعبات وفوق كل ذلك جس بائس لقطعة لحم تقرص أو ترصع أو.. “وكيف لروح تأكل من جسدها عدة أيام أن تقرص ترصع تصفع..” تفهم؟

فهم؟! كلمة غبية تحوم في رأسي كأرواح شريرة تمزقني وتفترشني كسلعة رخيصة على المارة مشترياً أم متفرجاً.

أنا حقيرة! قلت في نفسي وتساءلت: فقط حقيرة؟ لا بل أنا تافهة وحقيرة، ولأكون أكثر عدلاً وإنصافاً لنفسي، فأنا لا شيء لا شيء.. فقط ثوب أبيض يغطي كتلاً من اللحم، دماغ لا ينتج شيئاً سوى التفاهة والاحتقار و… ثلاثة أيام؟ ثلاثة أيام؟ (البطون الفارغة أكثر صبراً)، لا لا لا يعقل؛ سنوات وأنا أصيح بفكرة تافهة! ما معنى أن  نفهم أو ندرس أن ت: تفاحة، ت: تمر، د: دجاجة، ف: فراخ،  ل: لبن، م: موز، خ: خبز، ح: حمل أو حلم، ن: نمر، س: سمك، أ: أم، أب، أسرة، السعادة، الفرح، الخير، الحب، السلام، الأمل.. ولا ندري أنها صور تتأرجح على البطون وتنخر العظام شاربة من روح صغيرة طيف ذاكرة الحروف والأرقام المبهمة.. (ذاكرة البطون الفارغة تشتم بتلذذ) كما أن (البطون الفارغة تتعلق بالصور التي نعتبرها تافهة).. “مالك ناشفة كدا التقول مابتاكلي؟”.. سخرت منها وأنا أبحث عن قطعة تقرص في ذلك الجسد المحنط، وهناك أعين صغيرة أخرى مُتعجِّبة ومُتحسِّسة لبطونها أيضاً وتتجاهل نظراتي البوليسية تلك.. “نعم” أجابت هي بصوت وَهِنٍ فاتر.. “نعامة تزوزي بيك، نعم شنو يا حمارة.. نعم شنو يعني؟…” واصلت في تفاهاتي… “وماذا كنا نقول؟!” سألتها: “عايني للسبورة”، طلبت منها..

صمتت الصغيرة، وهي تقف راجفة كأنها تقف عارية في وجه عاصفة باردة، رصعة من يدي المتورمة على ظهر الصغيرة تسبب في تدحرج ذلك الهيكل العظمي أمامي: “يا بت فهمتي شنو؟”، ظلت صامتة فقط رجفة عصفور أنقذ للتو من غرق أكيد، صوتها ميت مسروق، لأنها لا تستطيع أن تقول إنها لا تفهم غير صورة معلقة بها تمرات طاعمات وحلوات، وتحتاجها الآن فوراً فوراً دون تأخير (فالبطون الفارغة، والصغيرة منها بالتحديد، لا تؤمن بمعادلة الزمن). فقط لا تستطيع أن تقول ببساطة إننا تافهون وأن ت: لا تعني تفاحة بل تعني عندها تعاسة، ج: ليس فقط جميل بل جوع وجوع وجوع، م: عندها موت وليس موز، و ل: لا تعني لبن، تعني عندها لا لا لا، لا تمر لا لبن لا، لا موز لا دجاج لا أم لا أب لا أسرة لا حب بل حرب، لا أكل بل جوع لا حاضر لا مستقبل لا لا لا لا لا.. لا شيء. انتزعتها من بين زميلاتها كقطعة لحم من بين أسناني أمرتها بأن تنظر لتلك التمرات التى لا تنظر إلا إليهن فقط “ما دايرة أشوف وشك المعضم دا”، قلت ذلك ولأول مرة أعرف أن (البطون الممتلئة لا تتنفس إلا ريحاً نتنة ومتعفنة).. لبس الصمت المكان، إلا من زقزقة عصفور ما في مكان، ما فهو بالتأكيد ليس على سقف الفصل أو أحد شبابيكه أو أبوابه ولا على ساعة مجنونة على معصم إحداهن كانت هدية من والدها بعيد مولدها ولا… بل كان صوت عصافير بطن فارغة يعتصرها الجوع (فالبطون الفارغة لا تعرف الهدوء). بعد دقيقتين لا أكثر، ربما أقل سقطت الصغيرة (فالأرجل المتعجرفة لا تقبل العمل لبطون فارغة)، وقعت دون حتى صرخة، أنين، آهة، فقط قطعة قماش، قطعة قماش بالية، أدركت لحظتها أن (البطون الفارغة لا تصنع الثورة).

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى