الجنونُ قريباً
-سيحل الخريف قريباً!
قالت سارة وهي تضع أمامنا صينية مليئة بقطع المانجو المجففة،وهذا أمرٌ جيد لأنه لا يوجد ما هو أفضل حتى نخمد به حر يناير. ربما قالت ذلك لأن الجو اليوم أشد حرارة من الأيام الفائتة، وربما تلمح بذلك إلى أن سقف الغرفة الوحيدة في المنزل تحتاج إلى ترميم.
بالنسبة لنا، جون وأنا، فإن الحر يبدو مضاعفاً أكثر مما يشعر به الجميع، والسبب هو التعب الذي تكبدناه في الكر والفر ساعاتٍ طويلة، في محاولة يائسة لاصطياد ورل بدأ يظهر منذ أن تراجع منسوب النهر.
يريد جون أن يحصل على كبد ذلك المخلوق العجيب، إنه يعتقد بطريقة ما أن ذلك سوف يفتح له أبواباً مغلقة، حاولتُ إثنائه عن تصديق ذلك، لأن الأمر محض شعوذة، لكن دون جدوى، وحتى لا يكون وحده في هذا الدرب الخطر، قررتُ مرافقته كل يوم، وأصبحتُ أجد الأمر مسلياً نوعاً ما، خاصة لشخص لا وقت له كيما يمارس الرياضة مثلي.
لم يرد عليها بشيء، وكذلك فعلتُ أنا، هو لا يستطيع قول شيء لها، لكن عندما نكون وحدنا، وهي غائبة، منهمكة في إعداد شيءٍ ما في المطبخ، يبدأ هو في الحديث:
-ألم أقل لكِ إن كل المشكلات الصغيرة هذه سوف تُحل فور اصطياد ذلك المخلوق؟!
لكنه سرعان ما يعود إلى الهدوء عندما تظهر أمامنا، حاملة صينية الشاي أو الغداء، ثم يثرثر بصوت خافت:
-عليّ ترك هذا الأمر مفأجاة لكِ.
عندما أنظر إلى سارة أستنتج أنه قد وضع قدماً في طريق الجنون، وهو على وشك أن يضع الأُخرى ليبدأ المشي فيه.
سارة امرأة جميلة، لها قوام غزال وهدوء قط، إنها مثل الهدوء الذي يسبق العاصفة، لذلك عندما تثور لا يستطيع أحدٌ إيقافها، لكن بمجرد أن تسكن وتهدأ فإنها تصير مثل زرقة البحر، تُغرَم بها من أول نظرة، لذلك لا يستطيع جون إلا أن يحبها، لكنه أصبح خائفاً في الأيام الأخيرة، من أنها سوف تُخطف منه، إذا ظل على حاله من الفقر وسوء الحظ كما يعتقد.
فشلت محاولات الأصدقاء في إقناعه بغير ذلك، ربما الأمر يعود إلى ملابسات زواجه بها؛ فهو قد أفسد زواجاً مدبراً لها، كان سيضمن لأسرتها رمي الفقر والعوز وراءها إلى الأبد.
كان الوعد فردوساً بالنسبة لأية أسرةٍ تعيش الحرب، سوف تسكن في أي مكان تختاره هي، سوف يكون لها منزلها الخاص، وما لم يُقل هو أن الأسرة سوف تتلقى الدولار كل شهر في (ويسترن يونيون).
الحب فقط كان غائباً عن جميع الوعود التي قُطعت، لم تستطع أن تقبل ولو في خيالها النوم بالقرب من رجلٍ في عمر أبيها، وقد كرهت فيه منذ أن رأته لأول مرة بصيلات شعره البيضاء، التي لم تستطع الصبغة الكثيفة إخفائها، لقد بدا مقززاً في وجهها.
لم تعترض على إجراءات الزواج وتحضيراته، طوال أسابيع وأيام كان المنزل خلية نحل من الزوار، لكن في اليوم المنتظر لم تظهر، لم تكن موجودة في غرفتها كالعادة، بحثوا عنها في كل مكانٍ دون طائل. لم يتوقع أحدٌ من أهلها أن تكون هنا؛ في مثل هذا البيت الوضيع.
-جلبت العار، وطردت الرزق!
قال الأقارب، لم يزرها أحدٌ منهم، أما هي فقالت:
-هذا أفضل للجميع.
الآن يقولون عن جون إنه مجنون، ويقولون عن سارة إنها منحوسة الحظ، وأنا أقول البلد معتوه، لأن الشهادات أصبحت محض أوراق، لا تُقدم ولا تأخر إلا عند الاستخدام في المرحاض، والدم أصبح الشهادة المعتمدة لدى الحكومة، والنتيجة أنه ظل دون عمل رغم أن جميع الذين درسوا معه فعلوا ذلك.
بعد أن نفد صبره وجد وظيفة مدير في بيت دعارة، أعطوه راتباً جيداً وسيارة، وبعد أن بدأ أنه في طريق تحقيق الحلم الجنوبي، تخلى عن العمل بعد أقل من شهر، وعاد إلى حياته الأولى وهي العمل كسمسار دولار، ينتهي كل ما حصل عليه في نفس اليوم، ليعود إلى السوق في اليوم التالي فارغ اليدين.
عندما أتت سارة وجد نفسه في طريق آخر، أصبحت المشكلات تحتاج إلى حلولٍ فورية: الغرفة التي تتسرب الماء من سقفها في ليالي الخريف، ضرورة بناء مظلة من أجل حر الصيف، وجوب توفر الدواء عند المرض، وهنالك الخوف الدائم من الأصهار الذين قد يظهرون في أي وقت.
في مرة من المرات بدأ يفكر جاداً في أن يترك سارة، ويهاجر إلى أي بلدٍ من بلاد الله الواسعة، وشرع في التحضير لذلك بأن استخرج جواز سفر، وشهاداته الدراسية، وطفق يحاول إقناعها بأن تزور أهلها بضعة أيام:
-ربما إشتاقوا إليكِ، كوني أفضل منهم.
كان يحاول كسب الوقت حتى يكمل ترتيبات السفر سراً، لكنه عاد إلى المنزل ذات نهار، ورمى الشهادات في النار ولم ينسَ إحراق الجواز أيضاً.
حدث له أمر ما..!
في الطريق إلى السوق صباحاً، ذلك اليوم، ناداه رجلٌ غريب باسمه وأخبره أن حظه في الحياة سوف يتغير، إذا ما جلب له كبد ورل.
منذ ذلك اليوم ما زال يذهب إلى النهر كل يوم، دون أن يكل أو يمل، وأنا من خلفه أجري.
* شاعر وروائي من جنوب السودان