الطيب عبد السلام – ضد الغنوصية
للمرة الثانية يفوز القاص الطيب عبد السلام بالجائزة الأولى بعد ثماني دورات من جائزة الطيب صالح للقصة القصيرة للشباب، التي يرعاها مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي. الطيب واحد من القصاص الذين برزوا بكثافة في المشهد السردي السوداني في الأعوام الفائتة. وهو بالإضافة إلى ذلك معد ومقدم برامج ثقافية بالإذاعة، وله مجموعة شعرية صدرت مؤخراً. (المحرر)
*عدت مرة أخرى للفوز بجائزة الطيب صالح للقصة القصيرة الممنوحة للشباب في الوقت الذي كان يُنتظر أن تفوز بجوائز أخرى، أرفع. ماذا يمثل لك هذا الفوز المكرر، ماذا يمنحك؟
لو كنت أعلم أنني سأفوز لما شاركت، وقد أعلنت أن نيتي في المشاركة نابعة من رفع مستوى النصوص المُقدَّمة، ليس من قبيل الغرور، ولكن من قبيل إدراك قيمة الذات وقيمة ما أكتب، وكنت مندهشاً بشدَّة، لحظة تسلُّمي الجائزة، لأنني لم أخطِّط البتة للفوز بها، وعاتبت اللجنة على اختيارها النص للفوز، لرغبتي الأكيدة لرفع مستوى المنافسة وليس الفوز، ولكن لا أشكِّك في نزاهتها، ولا في جودة النص أيضاً. دون شك فقد كتبه الطيب ابن الثانية والعشرين.
ثانياً أنا أنجزت رواية، ولكنني أعمل على تصحيحها وتنقيحها لما فيها من المشكلات الجمة، أو لعلها رواية لم يولد الزمن المناسب لقراءتها. لست أدري.
أنا في شكٍّ كبيرٍ، فهل هي رواية ممتازة أم أنها تُعاني من الإشكالات، لا أدري، ولا أحب المغامرة في عالم الرواية، لأنها مغامرة واحدة وقاضية.
*سنتحدث عن الرواية، لكن أما كان من المناسب أن تمنح الفرصة لشاب آخر مغمور، خاصة أنك أصبحت اسماً وفُزت من قبل بهذه الجائزة؟
لا يوجد جيل من أجيال كُتَّاب القصة أُنصف في السودان حتى نقول: اترك له هذا وخذ ذاك، الفرص في السودان لتقيم أو تمنح أمراً ما في مجال الكتابة، أندر من الندرة بل ومغلقة، لأنه لا توجد منافذ أخرى.
كنت أتمنى أن تذهب الجائزة لغيري لكنني لن أرفضها لو جاءتني. وهنالك كتاب في مجال الرواية في ذات المسابفة فازوا أكثر من مرة كأستاذنا علي الرفاعي، فهل نقول له شكرا دعها لغيرك؟
*لكنك أصدرت كتاباً شعرياً، أما كان من الممكن أن تصدر مجموعة سردية؟
كان الأولى عندي الانتصاف لتجربتي الشعرية، لأنني انتصفت مراراً لكتابتي السردية.
*كما أنك تعي تماماً كيف أصبحنا ننظر للكتابة بمجملها وانكسار الحدود بينها، بالنسبة إليك، ماذا تمثل الكتابة؟ كيف هي لحظتها؟
الكتابة لدي بقدر ما هي صديقتي الحبيبة وسلواي في الدنيا وفضفضتي مع نفسي التي تفهمني جداً، وأنا الأشد تعلقاً بها فهي أداة من أدوات نشر الاستنارة والتخلص من الميتافيزيقيا والخرافة وتبصير الناس بالواقع العصري العلمي المُتضاد مع كل الخيالات الغنوصية الغابرة.
*ألا تخشى هنا أن تتحول الكتابة الجمالية إلى فخ أيدولوجي؟ إلى آلية جامدة؟ وبمنطقك، إلى غنوصية مضادة؟
الجيد في الأمر أنني عندما أخلط الكتابة بفكرتي التي أناضل لأجلها، فإنني أعرف الحد الفاصل بين اللون وبين الماء، ومن هنا على سبيل المثال ننتقد باستمرار أدونيس، الذي نتفق معه في أفكاره تماماً، ونختلف مع شاعريته لأن للكتابة جماليتها الخاصة مهما كانت ماهية الفكرة التي كانت تلاحقها ومتى ما انعدمت الجمالية انتفت الموهبة، ورؤيتي في الاستنارة متى ما أثقلت ظهر الكتابة وأخرجتها عن جماليتها المطلوبة، فإنني لا شك سألغي هذا النص كما ألغي باستمرار عشرات النصوص التي أنتجها.
*لكن الكتابة الجمالية، بوصفها تمرداً على كل سائد، هي تمرد أيضاً على قيود الأيدولوجيا. كيف ترى الأمر؟
حينما تتبنى الكتابة نفسها كموضوع وتكون محايدة مطلقاً، فإنها لا شك تدخل في مربع الغنوص، وهذه التجارب أحترمها وأظن أنها انتحت ناحية الفلسفة ووصلت إلى كنه الوجود نفسه، ووعت هزلية “الواقع الظلامي” و”المنقذ التنويري”، ولكنني لا أملك الشجاعة النفسية الكافية للوصول إلى تلك النقطة.
*لا تزال متنازعاً بين الشعر والسرد وحلم كتابة الرواية، ألا يكفي أن يشتغل الكاتب على جنس محدد يحقق عبره وجوده الخاص؟
أنا يا صديقي خرجت لأقاتل في جبهة واحدة، فوجدت نفسي مضطراً للحرب في كل الجباه!السرد يقود إلى الفلسفة والفلسفة إلى الفيزياء والفيزياء إلى الكوزمولوجي. الطرق شديدة التداخل يا صاحب والتخصصية في الإبداع تكنوقراط، والإبداع لا يتحمل يافطة وظيفة بعينها فهو لا متعين باستمرار.
*لكن هل الكتابة سلاح؟ عن ماذا تدافع؟
الكتابة حالة من حالات المادة والمادة حالة من حالات الكتابة، وبالتالي فهي شيء متعين في لا تعينه بمعنى أنه ليس أمراً ميتافيزيقيا وفي ذات الوقت هو لا متناهٍ في صيرورة التخليق والتجريد المستمرة.
أنا أكتب لأنني أكتب، وأوظف ما أكتب لصالح ما أفكر فيه وأناضل لأجله.
*لكن أن تكون خلف نصك، أن تكون مهيمناً عليه، ألا يمثل ذلك خيانة للنص، خيانة لحريته المفترضة؟
أنا لا أوجِّه كتابتي للجميع، بل للأشخاص القادرين على التقاطع معي في مشروعي الفكري، وهم بلا شك متفقون مسبقا مع النص وما فيه.
وأنا لا أتفق مع فكرة موت المؤلف، وترك النص للمتلقي يعيث به فساداً ويقوله ما ليس فيه. فالقارئ نفسه غير محايد تجاه النص. وموت المؤلف ينطبق على الكتابات الغنوصية الحديثة.
*أليست هذه نخبوية متعالية؟ وكيف تشرح لي “غنوصية حديثة”؟
ليس تعالياً، ولكن ثمة مسافة بينة بين القارئ والكاتب، وهذه المسافة لا بد منها، والقارئ يحب كاتباً دون آخر، لأن القارئ يجد فيه ما يطابق حاله في وصفها بما يعجز هو عن وصفه. أعني بها الكتابات السريالية البوهيمية التي يمكن فيها الإمساك بأي معنى واضح وموجود على أرض الواقع، بل معناها قائم فيها هي ذاتها.
القارئ من وجهة نظر نقدية متقدمة هو منتج أصيل للنص، بمعنى أنه قادر على إعطاء كشوفات مهولة بما يمنح النص حيوات أخرى وقراءات لا منتهية. كيف ترد على وجهة النظر هذي؟
كيف يا صديقي يكون النص مكشوف الدلالات والأحداث ويكون القارئ مشاركاً في تأويله؟ هل بإمكاننا تأويل الموناليزا؟ التأويل مجاله الفلسفة والسرد الفلسفي وكتابات الذوقيين الغنوصية والكتابات التي يوجد فيها أدنى حد من الكشف، وهو غابة متشابكة من اللغة والمفردات والتكثيف من دون وجود أثر يدلك على خطى الكاتب والطريق الذي تمشي معه فيه.
أنا البند الذي أشتغل عليه في أية قصة هو إيصال الفكرة التي ألاحقها، فكيف أضلل الكاتب بلغة تعيقه عن إدراكها؟ أنا لست غنوصياً في مجال السرد.
*وفي تجربتك الشعرية، كيف ترى القارئ؟ من هو قارئك؟
أغوتني في فترة من الفترات الكتابات النضالية الهتافية، ثم بدأت في سلوك الشعر الغنوصي، قبل أن أهتدي إلى محمود درويش ليُنقذني بفكرته الشعرية حول الشعر، بل وأصدقك القول أنني في بعض القصائد كان حسي الشاعري يتوقف، فأتخيل صوت محمود درويش ملقياً قصائده فأمضي في القصيدة.
قارئ الشعر هو قارئ ليس بعمق قراء الشعر الغنوصي، وليس ببساطة ويومية وعادية فاروق جويدة مثلاً.
هو نفسه قارئ قصصي، لأن تجلي روحي الإبداعية متقارب في كلا الأمرين، وأؤمن أيضا بأن الشعر لدي هو أداة لخدمة مشروعي التنويري.
وقد حققت نجاحات مقدرة بوصول كتابي الشعري إلى معرضي القاهرة للكتاب والرياض للكتاب وهي تجربة أنا أقدرها وأحتفي بها.
*إذن أنت توظف الشعر والسرد لصالح شيء هو خارج الشعر والسرد. برأيك هل تحتمل الرواية التي تحلم بإنجازها هذه الفكرة؟
أختلف معك هو ليس خارجهما بل هو جزء نووي فيهما، ولا ينفصل عنهما أنا لا أكتب لوجه المتعة التي ليست بلا فكرة.
روايتي المنجزة (اسمها دينق النهر والجبل) وهي رواية ملحمية من (60) ألف كلمة، فيها حشد هائل من الأحداث والشخصيات لمجموعة من المثقفين من دارفور والجنوب والوسط، وهي لا شك تحمل رؤى سياسية بينة في مواجهة الإمام الديني الذي عانت منه كل النخب منذ دولة الفونج التي أعلنت ذاتها دولة دينية وحتى القرن الواحد والعشرين وتاريخ كتابة هذه السطور.
*متى يطالعها القارئ؟
لا أعتقد أن هامش الحرية في السودان سيُيَسِّر نشرها في الراهن، لكنني بحاجة للتفرغ لها إبان العامين القادمين، لأنني أنظر إلى الرواية بفكرة الفرصة الواحدة، والخطأ الذي يرتكبه الإنسان مرة واحدة في حياته.
*شاعر وقاص وكاتب من السودان