كلب الخيال النَّابه
نبح كلب في الجوار الخيال، دوَّى الصوت الوحيد، في تلك الناحية من الليل، مُبدداً خرس الهندسة المتقادم، فرددت جوقة المباني بأفواهها الخرسانة، من خلفه، وعيده المزمجر. تقدم الصوت بجحافله النابحة مجتازاً عوالم الشهادة، عبر بوابات سرية يعرفها الصوت منذ بيانه صوتاً، ليحتل عوالم الغيب الأشد خصوصية، مُحيلاً أراضيه البراح إلى هاويات وقبور، مُحيلاً جميلاته المليحات إلى هياكل تتدلى منها خصى صيفية في مواضع الأثداء، مُحيلاً معماره الشعري إلى الفوضى المُطلقة، فوضى الوجود الكيان. إثر السقوط التراجيدي للوجود الخيال، وبصرخة هي كل ما يحمله الوجود كياناً من رعب، صرخة الصوت الذي رحل ناطقاً بلسان الحيوان وعاد ناطقاً بلسان الإنسان، ولدت يقظة الرجل في غرفته المظلمة، ولدت معها شهقة الخوف واللايقين. مسح الرجل عينيه بظاهر كفه الأيمن، مسّد على وجهه بكلتا بواطن يديه ثم مد ذراعه المذعورة بعد أسفل وسادته وتناول هاتفه المحمول، أخبرته الأرقام على الصفحة المُضيئة باختصار، اختصار الأرقام في مخاطبة العيون، أن الوقت العاتك تبرَّع للواحدة صباحاً بعشر دقائق من خزانته المترعة. همهم الرجل ساخطاً على الصوت ومبعوثه الكلب، ساخطاً على الليل وصباحه القريب، ساخطاً بعبارات مطلسمة من لغة خياله التي لا تزال رائجة في أجزاء من إقليم ذاكرته، الذاكرة التي فرض عليها الوعي لغته منذ أزل الصيحة، ساخطاً بجسده مُطلقاً منه الأيادي الشاتمة والعضل الغضبان، ساخطاً بالصمت البليغ.
شدَّ الرجل لجام حصانه الإسفنجي، ثم عدّل بتدبير من خيال حاسة اللمس موضع السرج القطني أسفل رأسه وكاد يقفل راجعاً، عازماً على استرداد خياله المنهوب مُجنِّداً الجيوش المورفيوسية الموالية، لولا أن جذبت جلبة مكتومة، أصدرها باب مُشاغب، حلمة حدسه التي رفعت بدورها شكوى إلى محكمة الإدراك، مُطالبةً جغرافيا المُحيط بما عليها من متأخرات التأويل. جر الرجل غطاء النافذة فاستيقظت في هلع من ظلام خارجها إلى ظلام داخلها، أزاحها بلمسة من يده فهرعت إلى سرير أختها النائمة وهي تئن من فظاظته. واجه الرجل الظلام بعينه فلم يبن له من الظلام سوى الظلام، واجه الفراغ بعقله فلم يبن له من الفراغ سوى الفراغ، طأطأ الرجل إلى الأرض فوهبته الأرض الرؤية. في الأسفل رتّل عليه الليل راتبه المحفوظ، رتابة التراب الهادئ كطفل لم يولد، ورتابة الجماد المؤدب بأدب الجماد الرفيع، ربَّتت بيد من طمأنينة على قلبه المضطرب، لاح له نفس المنظر الذي خلفه قبل صعوده إلى شقته مساء، سيارات السكان نائمة، بوداعة الحديد، فوق أسرة المطاط، على عنبر الإسمنت، كان الأليف مسيطراً على لوحة الليل، لولا أن فرشاة الرسام تمردت على يده بغتة فدسَّت بمهارة لون الشذوذ والغرابة.
بين قطيع السيارات النائمة لمح الرجل سيارة كان الضوء يطلي داخلها باللون الأصفر، لون الفاتحين المطلق، ارتدَّ بصره حاسراً عندما اصطدم في مقعد السيارة الخلفي بطيف رجل من فوقه امرأة، عبثاً ضيق من عينه محاولاً توسيع المشهد، ولكن دون جدوى، نهض بسرعة واتجه إلى الناحية الأخرى من الغرفة، أشعل قنديلها الوحيد، فلملم الظلام حاجياته وانسل مُبتعداً، دار بيديه وعينه يبحث عن أعضاء بصره الأخرى، فألفاها على شاطئ الطاولة الشمالي شاخصة بعيونها الزجاجية في الجدار الأبيض تتأمل في شؤون الحجر، هبَّ عائداً إلى سرير المطالعة الحميم بعد أن كسا عينيه بعينيه، ولكنه قبل أن يستقر على موقع الديدبان القديم – مستنداً بركبتيه على السرير ومتشبثاً بكفيه على حافة النافذة في وضعية لا هي بالقعود ولا هي بالوقوف – كان الظلام في الأسفل قد انتقم لنفسه من هزيمته أمام النور في الأعلى وأعاد السيطرة على كامل مملكة الخارج. على هامش المعركة، استطاع الرجل أن يستبين بوضوح جسد أنثوي يركض إلى داخل المبنى.
أعاد النافذة إلى مهجعها الخاوي، أعاد عليها غطاءها، أعاد الرجل الليل لليل، من دون أن يعيد شيئاً إلى طرفه الساهر كحل النعاس. من سيحث ذاكرته على ألا تستعيد حكاوي العيون، من سيحض الخيال على الالتفات لشغل الخيال. سردت الذاكرة على العقل تقرير العيون، سرد عليه الخيال الجسد. لا تحفظ الذاكرة جسداً أبداً فأغلى البيوت – كما لم يقل شاعر – لا تمتلك، الجسد خيال، الجسد خيال اللحم عن اللحم خارج ملحمة الزمن. خيال المرأة من الشقة التي تعلوه والذي رآه راكضاً إلى داخل المبنى، استطال بفعل خياله الساكن. حجز العبث المقعد الأول، فرك الشك كفيه مُتحمِّساً مثل أي شك يدلف سينما الخيال، ظهرت المرأة من الشقة الأعلى كما لم تكن من قبل، كما لن تكون، كانت في فيلم خياله أجمل من اجتماع بطلات فيلم خيال الجنة الذي شاهده الجميع منذ بدء بثه في صالات الأرض. سرد عليه الخيال مفاتنها، بينما تولت الذاكرة، ليس من دون مكر، سرد التاريخ. المرأة من الشقة الأعلى، الثلاثون عاماً الناضجة على شجرة عمرها، صاحبة الزوج الذي رحل – بعد أن باع حاضره – يتبضع المستقبل من أسواق الغربة والحنين، خيميائية النشادر والحناء تستحضر بعجنتها السحرية فيوض الجمال والشهوة على أطراف النساء العارية، كان جسدها وجبة عينه المفضلة، ولكم راودها بكلمات الحب الطليقة، راودها بكلمات الوعد المنقوشة على ورق النقد حين عرض عليها أن يشارك في محترف الرسم الخيميائي خاصتها، مقابل نسبة من لا شيء في حسابات الربح، راودها بكلمات الشهامة والأصالة حينما تنازل لها عن سيارته إثر تحطم سيارتها في صراع مع رصيف معتد، ولكنها كانت تصده باللطف واللباقة، لم يكن المسكين يعرف أنه حيثما يهلك الحب فليس للسلطة من منج سوى القوة، آه الآن يفسح الشك جواره ليجلس الغضب، هي بغي إذاً، بغي تتسربل ثوب العفة ويعف جسدها منه وحده، بغي تسافد الخلائق في العراء أمام الخالق وفي وضح الليل، زوجها المسكين طاف الأسواق كلها يدفع عوزه ليشتري عوزها، وهي هنا تضاجع حتى من لا يستحق، من لا يمتلك مثوى يستر إثمهما، وتسألني الألسن: لماذا أصر على الترهب؟ ومالي ونكاح امرأة بصداق مقدّر في حين يمكن الحصول على امرأة أحدهم بلا ثمن؟ أنهكته الذاكرة بالكلام، أنهكه الخيال بالصور، لعن في سره الذاكرة، لعن النساء والخيال، كان الصبح يقترب بديكته الصاخبة، كان الشقاء ينتظره على بعد ساعات، ساخراً، على سطح مكتبه، كان الكون متآمراً عليه عبر جميع الجواهر. ولما لم يكن يعرف من أعضاء الخيال في جسده غير واحد، ولإسكات جنين الشهوة الجائع، قام بإخراج عضوه – الذي ما إن وجد منفذاً حتى قفز من بحيرة قماشه العميقة كحوت يتصيد الهواء من الهواء – وأخذ في إطعام طفله الباكي وجبات اللذة السريعة.
لم يكن هنالك ديك ليصيح في الجوار، ولكن الصباح حل رغم ذلك. في بهو العمارة الواسع وأمام أعين الجدار الزجاجية. وقف الرجل بأعين من جمر يعدل من طوقه الحريري المتدلي حتى سرته، سطور الأرق المنحوتة على وجهه لم تكن مجازاً، لم يتثاءب الرجل؛ ففي البرهة التي انتهزتها يده متحررة من معالجة الطوق الحريري الأحمر، وقبل أن تمتد إلى فمه الذي انفتح على مصراعيه ككتاب مقلوب فوق طاولة، كبحت أذنه حركة اليد الممدودة وأغلقت مرآبه الواسع، تناهت إليه عبر الدرج الرخامي خطوات نشيطة لكأنها ليست أقدام وإنما سبابات وأباهيم مطلوقة على جسد بيانو، التفتت رقبته ناحية اليسار إلى الدرج الرخامي، التفتت رقبة في الجدار ناحية اليمين، والتقت العيون الست في لحظة هي من الندرة حيث أن احتمال تكرارها يعادل احتمال تطابق علامات ترقيم كتابين مختلفين، كانت شفاه الشاب هي المبادرة: “لجسدك حق عليك كعملك فرفقاً به أيها الرجل العجوز”، ثم أردف بعد أن لثم الهواء بقبلة منخارية “فليغسل اليوم تعبك، ولتعد هذه النسمات العذراء إلى وجهك نضارته”.
“ليلة كألف ويل أيها الشاب النشط، أتبكر إلى الجامعة دوماً هكذا؟”، قال لسان المتعب مدعياً اهتماماً – في حين يده الطليقة والتي تحاول حل شفرة طوقه الحريري المعقدة – أوجزت خطبة اللااهتمام.
تبسم النشيط بلطف، ولاك كلمات الحنان في شفتيه طويلاً، قبل أن يطوِّحها بعيداً: “يبدو أن الشيخوخة على مشارف بوابتك، لي نصف العام وضعفه منذ فارقت مقاعد الدرس”.
“إنها تبيت معي في سرير واحد أيها الشاب، ذكرني بما درست مرة أخرى”.
“الآداب، فقه اللغة إن شئت التحديد”. قالت عضلة الفخر في الفم النشيط.
فكت شفرة الطوق أخيراً، وتحرَّرت اليد المُتعبة كاتمة خدر خفيف، نقلته الكلمات على لسان المتعب: “قد نحتاج في الشركة إلى بعض التراجم بين حين وآخر، أي لغة أنت فارسها أيها الفصيح الهمام”.
حاول النشيط لفظ كلماته بمرح ولكن أثقلت عليه كآبة، نقلتها عدوى الكلمات الجاهلة التي استقبلها، فخرجت متحشرجة بئيسة: “لم أدرس لغة أجنبية، درست اللغة العربية وآدابها”.
رفعت السخرية ألويتها على لسان الرجل، معلنة انتصاراً وشيكاً، ولكن الدهش القائد بذل جهده لإخراج خطبته متواضعة تواضعاً يليق بالمنتصرين: “أتحتاج إلى كل هذا الوقت والجهد لتعلم الكلام الذي يتعلمه الطفل في سنته الثانية”.
تفادى الشاب التحقير المُسرع بجهاد يُحسد عليه، ولكن الجهل المُناور ليس به مكابح، واستقبل الشاب إهانة الرجل بصعوبة كما يستقبل الحذاء قدماً أكبر منه، ثم قال مُتحدياً مُسلِّطاً علمه على أهداف أكثر دقة في جسد الجهل المحارب: “أتحسب اللغة كلامي وكلامك هذا؟ إن في فصل هذين البعدين المتوازيين في الغالب وضعت آلاف وآلاف من المجلدات تفوق عدد شعرات رأسي هذا، ودارت في سبيلها حروب وسجالات شغلت الساحة الأكاديمية لعقود، إن العلوم التي تحاول الإجابة على أسئلة اللغة من حيث نشأتها وتراكيبها وبنياتها هي بحد ذاتها لا تحصى. إن فلاسفة وعلماء تهتز لذكر أسمائهم أركان المستديرة، أنفقوا جل سنوات حياتهم في محاولة سبر أغوارها، كما إن رسالتي في السنة الأخيرة والمعنونة بـ”طوفان اللغة، طوفان الخيال سباحة في عوالم الطيب صالح”، قد لاقت استحساناً كبيراً في الأوساط الأدبية ونشرت في…
“كلي رجاء أن تمنحك فيوض خيالك الطيب مهجعاً آمناً، لقمة كريمة، وفاضلة ونيس تعتني بك حقاً، لا كعاهرات هذا الزمان”. قاطعه الرجل وقد مد يده ينادي بها هاتفه المحمول من حارة الجيب التحتي.
خفض الشاب بصره ذليلاً، وقال بنبرة من ألفي عشيقته مع زوجها: “هو يدفع لي ثمن غرفة السطح ويسترني من سرقة الآخرين”.
صد الرجل مناورة الشاب الذكية ولكن اليائسة، في نفس الوقت بهاتفه المحمول الذي رفعه أمام وجهه يقذع عبره شخصاً، يبدو كسائقه أو مساعده الشخصي، على الطرف الآخر ويناديه بأسماء من بلاد الحيوان، وكأنه لا يدرك أن خصلة وحيدة منه إذا وضعت على كفة ميزان العدالة الوجودي رجحت، ولو وضع على الكفة الأخرى جميع الشرور التي ارتكبها الحيوان من الديناصور إلى حاضرنا هذا، ثم عاد وسأل الشاب محاولاً الملاحة على الجليد الذي شكله أمامه “ولكنك لم تقل لي إلى أين تبكر هكذا؟”.
“إلى المستشفى” رد الشاب مقتضباً جهوماً.
“يا له من صبح خانق، ألك قريب مريض؟”. سأل الرجل مدعياً الاهتمام مرة أخرى.
“لا، هو أمر يخص حدث البارحة”. قال الشاب معادلاً نتيجة الاقتضاب مع الاهتمام.
– أية حدث؟
– ما حدث مع المرأة من الشقة الأعلى.
مباراة ساخنة متكافئة خاضاها بقوة، ولكن الغلبة كانت في النهاية للاهتمام المُدَّعي، إذ ما إن خرجت المرأة من الشقة الأعلى من فم الشاب حتى استنفر الاهتمام المدعى فيالقه المُوزَّعة على طول جسد الرجل، ودقت طبولها الحربية على فمه المذهول: “أهي بخير؟ ما الذي حدث؟”.
-هي بخير، ولكنك لن تصدق ما كان من أمر الأمس.
“فيما يخص هذه المرأة أنا على استعداد لأصدق حكايات الغول والأولياء”. قال الرجل بنبرة مكيرة.
“أنا أنتظر شخصاً ليُقلَّني، أستطيع رواية هذه الحادثة ريثما يأتي”. قال الشاب وهو ينظر إلى ساعته.
“بالأمس وبعد منتصف الليل تقريباً، كنت أعمل على بعض الأشياء حينما تناهت إليَّ أصوات خفيفة كثَّفها صمت الليل وسكونه، خرجت من غرفتي ونظرت عبر السطح، فإذا بي ألمح حركة عند موقف السيارات جال في خاطري مباشرة أن هنالك لصاً في المرآب، فسللت عصايَ الغليظة ونزلت الدرج مُسرعاً، وفي اللحظة التي وصلت فيها إلى مدخل المبنى، لم يكن مُغلقاً بالمناسبة، رأيت منظراً في غاية الغرابة والسوء”.
“السوء في كل مكان يا بني، أنت فقط ما زلت صغيراً لتعرف أين تنظر فتراه”. قاطعه الرجل بعيون متسعة خبيثة.
ولكن المقاطعة الخبيثة لم تفلح في إيقاف دفق السرد، الذي تلبس الشاب: “هالني ما رأيت، فالمرأة من الشقة الأعلى، التي لم يبن منها سوى ظهرها، اضجعت في مقعد سيارتها الخلفي، ومن تحتها جسد رجل عارٍ تماماً سوى من ملابسه الداخلية، لقد خال لي في البداية، يا لبؤس خيالي، أنهما في وضع غير أخلاقي، ولكن ما إن التفتت ناحيتي وخاطبتني ملابسها ويداها – قبل أن يخاطبني فمها – بلغة الدماء والمصيبة، حتى تبيَّنت مباشرةً أن هنالك خطباً جللاً، وسرعان ما صاب بياني، إذ ما إن لمحتني حتى هرعت ناحيتي تحمد وتشكر، وهي تقول الحمد لله أنك هنا، لم أعرف ماذا أفعل، الحمد لله أنك… ثم وضعت على كفي ضمادة مضرجة بالدماء، وأوصتني أن أحاول إيقاف النزف، ريثما تأتي بمطهر للجروح من شقتها….”
“دماء…، ضمادة، ععععن مـ…. إذا تتكل..”. تمتم الرجل وذاكرته ترسم استغاثاتها على أصقاع وجهه الممتقع.
“حسناً”، قال الشاب في انزعاج واضح، واضح أيضاً أن الرجل لم يبالِ به، ولجت إلى السيارة وعلى مقعدها الخلفي تمدَّد جسد هذا الشخص مُتألِّماً هلوعاً كسجين سياسي تحت التعذيب وأسفل جسده الغارق في دماء كثيفة لا تزال حارة يعطيك انطباعاً بعتبة منزل بعد ذبيحة، وتحت هذه الدماء، رأيت ذلك أثناء محاولة كبح الدماء اليائسة التي خضتها، شق جرحٍ ملتوٍ بطول عشرة سنتميترات، وعمق أربع يشبه إلى حد كبير كلمة النهر حين تنطقها الخريطة”.
-من هذا الشخص؟ وماذا يفعل في سيارة امرأة متزوجة؟
علَّقت صنارة الحواجب الكثيفة في وجه الشاب بشيء ضخم في بحيرة الانفعالات على وجه الرجل، ولكن الشاب أرخى حبالها مُتجاهلاً وعاد انهمار سرده مدراراً. “غادرت آخر اللوحات محترف المرأة قبل منتصف الليل بقليل، كما أخبر لسانها بذلك، وعندما حطت ركابها أمام مدخل المبنى كان الوجود قد حكم على اليوم السابق بالموت، ولكنه وبصدفة مدهشة غريبة ولد يوم جديد في نفس اللحظة، وكان عمره حينما وصلت المرأة أمام مدخل المبنى أربعون دقيقة بالضبط، التقطت المرأة حاجياتها، وهمت بإغلاق الباب عندما صفعت أذنها أنات مكتومة تخرج من بطن الأرض الساكنة، تراجعت وجفلت ودارت كؤوس الخوف في حانة جسدها، غير أن الصوت الخارج من بطن الأرض والذي أكد نفسه عدة مرات، كان صوتاً ضعيفاً مُستغيثاً، استجمعت المرأة ما لها من شجاعة مترددة أولاً ثم متيقنة، واتجهت صوب تلك النواحي النائحة، وبعد عدة خطوات وجدت كومة من اللحم مُتمرِّغةً على الأرض في الناحية الأخرى من الشارع هناك. وأشار الشاب بإصبعه لبقعة صحيحة جغرافيَّاً، لكنَّ المكان الذي يقفان فيه لم يكن كريماً لكي يضيفها إلى محيط رؤيتهما الضيق. وبعد أسئلة وفحص متسرع تبين أنها جسد لرجل مصاب إصابة وحشية عنيفة، هي حقاً امرأة قوية إذ تحملتْ ذلك، أنا نفسي تقيأت مرتين بعد تلك الرؤية الدموية التي تبدَّت لنا، ما حدث بعد ذلك، تفاصيل جر الجسد إلى سيارتها ونزعت طرحتها تكبح بها سيل الدماء وفي تلك اللحظة وصلت أنا”.
-ولكن كيف تسنَّى لكم أن تعرفوا أنه ليس شخصاً خطيراً، أو لصاً مطارداً أصابته العدالة الإلهية بيد من حاول سرقتهم؟
“عرفنا عنه كل شيء في المستشفى، فبعد أن رمَّمَ الأطباء جرحه وعاد إليه بعض الرشد بمساعدة أكواب الدماء التي شربها جسده، شكرنا وحمدنا الله كثيراً ثم حكى لنا قصته، هو شاب مسكين يسكن على بُعد عدة أحياء من هنا، كان عائداً من سهرة مع بعض الأصدقاء، ولما لم يجد وسيلة تُقِلُّه في هجيع الليل ذاك قرر أن يمضي راجلاً إلى بيته، ولكن ما إن وصل إلى نهاية الطريق الرئيسة هناك – وأشار الشاب بإصبعه لبقعة غير صحيحة جغرافيَّاً ولكن الذاكرة صحَّحت مسار الإصبع من تلقائها – تعرض له بعض اللصوص ونهبوا كل ممتلكاته وجردوه من ملابسه تحت ستار الليل المُتآمر، ثم ضربه أحدهم بفأس على فخذه مخافة أن يُصيب الشاب نجدة قبل تمكنهم من الهرب، فما كان من المسكين إلا أن زحف على بطنه وفي طريقه الزاحف ضرب خيمة التعب أمام هذا المبنى، وكان ما كان من شأنه اللاحق”.
عند هذه النقطة لم يستطع الرجل السيطرة على حقائقه المغلوبة، لا بد لأحد ما أن يتحمل تبعات استقرائه الباطل، لا يمكن للصواب والفضيلة أن يُحطِّما أفكاره الغارقة في الخطأ والرذيلة، يجب أن يكون شخص ما مخطئ، ويجب أن لا يكون هو ذلك الشخص، وبكل هذه الخيبة صرخ الرجل في وجه الشاب النشيط: “أنتم يا شباب اليوم، يا سدنة الضلال والخطيئة، يا خصوم الشرف والإرث والحكمة، أتطمحون في السهر والمرح طيلة الليل والانكفاء إلى بيوتكم غانمين آمنين؟ يا للطمع والأنانية! أنتم يا من تجدون كل ما كنا نعمل طوال حياتنا في سبيل الحصول على عُشره، أنتم يا جيل الخراب والتقهقر، ورغم ذلك ها أنتم متذمرون من كل شيء، متبرمون حتى من وجودكم الشخصي، أنتم يا خارجون عن كل سلطة يا داخلون في كل نزوة، وكل ما لكم من مواهب، كل ما تجود لكم به قريحتكم إنما هو سلاح تشهرونه في وجه مجتمعنا وعاداته الأصيلة”.
دهش الشاب من جديد من هيجان محدثه اللامبرر، ولكن قبل تمكُّنه من استكشاف هذه الظاهرة الغريبة التي تتلبَّس الرجل الواقف أمامه طرق كعب حذاء على أبواب الدرج بعذوبة بليغة كانت كعذوبة طرقات كعوب الأحذية المشهورة، وما هي إلا برهة حتى ظهرت المرأة من الشقة الأعلى أمام الواقفين بثوب طويل يحجب – يكشف بشفافيته ودلاله – عن ساقَيْ المرأة الممتلئتَيْن، بينما تولَّت تنورة قصيرة كبح جماح النظرات المتلهفة عن الوصول إلى الأماكن الأكثر فتنة، وفي الأعلى وتحت قميص أسود مطاطي استدارت تفاحتان صلبتان مستديرتان، ولكن لا يخفى نضجهما وعطر نسائي آخاذ هرع، قبل ابتسامتها التي عرضُها الشفتان والخد، إلى تحية الواقفين: “صباح الخير أيها الرجل الجليل يبدو عليك التعب والإرهاق، صباح الخير أيها الشاب”.
اكتفت رقبة الشاب وابتسامته برد التحية، بينما كانت رقبة الرجل أثقل من أن يستطيع رفعها من الأرض، وضاق المكان بروحه التي انتفخت بالعار، ضاق المكان به للغاية، كما يضيق الكون الرحيب لروح مكتئبة، ثم تمتم بعبارات غير مفهومة فحواها أنه تأخر عن عمله، وكانت صفعة الباب القوية هي آخر ما تم سماعه منه.
غريب، قالت المرأة من الشقة الأعلى ثم أردفت مخاطبة السماء الإسمنتية التي تعلوها: “يا مُبدِّل الطبائع والخصال، ماذا فعلت لهذا الجار الثرثار؟ ما به جارنا اليوم أيها الشاب لقد ظل دائماً ودوداً تجاهي وما فتئ يناشد قربي بكل الطرق؟”.
اقترب الشاب منها حتى لاصقها، ثم أحاط خصرها الميَّاد بكلتا ذراعيه، وتطابقت شفتاه وشفتاها في قبلة دامت صورتها، صوتها، وطعمها في ذاكرتهما وذاكرة التراب الذي احتضنهما بعد ذلك بزمن طويل، ثم قال لها الغموض المتسلل إلى كلماته: “حتى أنا يا كبد سعادتي وأيامي لا أستطيع أن أتخيل ما الذي أصاب جارنا الودود”.
في الخارج نبح كلب في الجوار…