ثمار

توظيف الكتابة الشعرية عند أكول ميان

اتيم

لم تعد وظيفة المبدع اليوم محصورة في ما ينتجه من عمل إبداعي يضاهي به منتوج الآخرين في ساحة الفعل الثقافي المفتوحة علي امتداد الكون الفسيح، وانما تعدت بالضرورة جميع تلك الأطر الكلاسيكية المبذولة الى مستوى جديد من التعاطي مع كل ماهو إنساني في تكامله مع بقية الأدوار الأخرى المفضية الى استمرار الحياة في شكلها الجمالي وفق التعابير الناتجة عن حقيقة الوجود وتمثلاته المتجددة، فالمثقف جُبِلَ  ليتولى عبء أعادة الشكل الظاهري للوجود إلى ما كان عليه قبل ان تكون اللغة، القصيدة، اللوحة، وصولا الي مرحلة ما بعد البهاء.

ما معنى أن تكون شاعرا؟ .. سؤال بديهي، فقط تظل تنقصه الإجابات المتحذلقة والتي لا تزال قيد انتظارها، فتجاوز تلك المحطات يقتضي في كل الأحوال الانتقال الي طور جديد ومقبل، هو طور الفكرة التي لم تتولد بعد، وهنا لا تكفي ان تكون القصيدة وحدها المُعبِّر عن تلك الفكرة قبل ثورتها في جيشان المكبوت من الانفعال والعاطفة، فقد كان من الارجح البحث عن إجابة للسؤال، كيف تكشفت شاعرية الشاعر، وكيف اتسقت مع الذات الفطرية ابتداء ولم تميزت عنها انتهاء.

ربما وجد بعضا من تلكم الاستفهامات وفيوضها،  مقابلاتها عند جمهرة من الشعراء الذين  إرتأوا أن الكتابة وحدها قد لا تف بأغراض ورسالة ونظرية الشاعر أو نظرته في تحقيق معاني القول ومضامين الرسالة الشعرية دون المشاركة في إنزال فحواها إلى واقع يمشي بين الناس، فالانحياز للخير سمة الشعراء في معظم أحوالهم مثله مثل التغني بالسلام ونشدان الاستقرار الكوني، يقول محمود درويش في قصيدته “عن الشعر”:

قصائدنا بلا لون

بلا طعم بلا صوت

إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت

وإن لم يفهم البسطاء معانيها

فأولى أن نذريها

ونخلد نحن للصمت

يعد الشاعر والكاتب الجنوب سوداني أكول ميان كوال – المولود في منطقة ابيي سنة 1974 وصدر له في نيروبي كتاب (سوف تشرق الشمس)The Sun Will Be Rising، وكتاب (القطار الأخير) The Last Train-  يعد واحدا من القلائل الذين تجشموا عبء السؤال الجرئ حول ماهية الدور المتجاوز للشاعر في واقع الحياة اليومية، انشغالاتها والصراع المتولد من عمق اتجاهاته، فمنذ وقت ليس بالقصير اختار ميان منهجاً يقتضي المواءمة ما بين كتابة نصه الشعري وملاحقته على أرض الواقع الشائك من خلال جهوده التي ابتدرها في البحث عن؛ ومناصرة قضية السلام في جنوب السودان اثر الأزمة السياسية الأخيرة التي ألمت به وألقت بتأثيرات كارثية على كل شئ تقريباً وعمقت الجراح قبل ان تندمل.

أطلق ميان اسم اخر دواوينه  “القطار الأخير” على حملته الرامية للبحث عن السلام في بلاده التي كان يحلم برؤيتها آمنة ومزدهرة، ولأن الاحلام لا تبني وطنا، فان التشبث بالأمل وزرع بذوره بين الناس هي مهمة الانسان الشاعر المنحاز للحياة بصورة هادئة ومنسابة، يقول اكول في قصيدته القطار الأخير:

دعونا ننقذ حياة الركاب المتبقين

فإن أصدقاء، وأخوات، وأقارب الأرض

ينتظروننا ..

ثمة شيء يكفينا جميعاً في انتظارنا

برغم أعدادنا، ومختلف الأعمار

خلفياتنا.. ثمة شيء يكفي

لكلٍ مِنّا ..

ولان اكول ميان ظل مؤمنا بأن  السلام لا يشعر به أو لا يعرف قيمته النفسية والروحية والاجتماعية والمادية إلا من عاش ويلات الحرب وقذاراتها، وان السلم والسلام هو شرط وضرورة قصوى وركيزة أساسية لأي تطور وازدهار ونماء ورقي إنساني في جميع جوانبه المادية والأخلاقية، فقد بادر بمواصلة مشوار البحث عن السلام وتنبيه الجميع بأن لا جدوى من الحرب التي عشنا ويلاتها واكتوينا بها دهراً من الزمان وخلقت حالة من الاغتراب الاجتماعي النفسي لعديد من الاجيال في جنوب السودان، لذلك تجده يدعوا الي نبذ القتال ووقف الحرب على مستوى ما ظهر في قصيدته “لتقف الحروب” التي يقول فيها:

كفى الاقتتال

والاحتراب يا شعوب العالم

ضعوا البنادق

اهدموا الخنادق

كفى سفك الدماء

هيا الى البناء

هيا الى البناء

هيا ..

وجدت دعوة أكول ميان صداها لدى العديد من أصدقاء الكلمة  في الشتات،  المكتويين بجحيم الحروب وضحاياها اليوميين فأعلنوا التحاقهم بالقطار الاخير، رافعين شعارات الجملة على صفحاتهم بمواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، من أمثال الشاعر الافرواكريكي ازكيا توري، بروفسير خالد كودي استاذ الفنون بكلية بوسطن الجامعية بالولايات المتحدة الامريكية، كما انضمت اعداد كبيرة من الشباب والمثقفين الناشطين من جنوب السودان الى حملة “انقذوا القطار الاخير”.

* شاعر وكاتب من جنوب السودان

زر الذهاب إلى الأعلى