بستان المحبوب
لا يزال يستعصي على ابن عربي، وما أُثَبِّته منه أثناء قراءتي له سرعان ما يتفلت مني كالماء بين الأصابع فأعود صفر اليدين من مورده. ولا يعلق منه سوى لذة الشرب من منهله. لكن المتحلقين حول مورد الشيخ الأكبر تنضح وجوههم وأجسامهم بعافية الارتواء. هذا مدخل بارد.
تعرفت على جمعية محي الدين ابن عربي من سلسلة مقالات طيبة أليفة كتبها الطيب صالح-أو هكذا ظننت في البدء أنها طيبة وأليفة- حكى فيها عن حوار تجاذبه مع أحد الأكبريين-التابعين للشيخ الأكبر- فنان اسباني يدعى بابلو بينيتو تحدثا عن فكر ابن عربي. وكعادته في مقالاته تجد الطيب صالح يدفن عقله الوقاد وقلبه المتوثب في رماد السرد بمكر صوفي قديم- فنحن السودانيون اللصيقون بالعرف الصوفي يقع لنا تَخَفّي العارف في ثياب نكران الذات، ونردد المقولة الصوفية ” الكرامة حيض الولي”. الآن وقد أتممت كتاب الدكتور الراحل نصر حامد أبوزيد (هكذا تحدث ابن عربي) أعود وأتمشى في كتابة الطيب صالح وأتلسوع من جمر ذهنه المخفي. وكثير ما أجدنا نقع فريسة في فخ الطيب صالح العرفاني حين نتوهم فيه البساطة، ثم ما إن يتعثر أحدنا في وعورة درب ما حتى تلوح لنا ابتسامته الساخرة وحسه النعسان.
أذكر الطيب صالح هنا لكلام له طالما فسر بالسذاجة وذلك حين يتحدث عن “النقد عن المحبة”. لكنني لن أخوض في تفصيل ذلك لكني وددت أن أشير إلى أن المحبة الواضحة في أوجه هؤلاء الأكبريون هي ما جذبتني إلى هذا المقطع المسجل على اليوتيوب والذي أضمه إلى مفضلاتي. هؤلاء القوم المهذبون على المنصة التي تنضح بالمحبة التي لا تشوب المعرفة بأي خلل أو نقصان، بل تزيد!
في المحاضرة تُواجه المنصة بسؤال حاذق عن “قدرة” اللغة الإنجليزية على حمل معاني وأفكار ابن عربي (والتي بالتأكيد تستعصي علينا نحن قراء العربية، فما بالك!). فتجيب المنصة بفيض محبة…
(والترجمة أيضا بفيض محبة مني للعالم في هذه اللحظة العابرة).
المتحدث الأول: جدو أبو شنب اللذيذ، (١)
“أنا مأخوذ بفلسفة ابن عربي في الترجمة كما هي في كتابه ترجمان الأشواق ، فهي تقول بفكرة أن المعنى كامن في الترجمة،المعنى ليس جامد. في الكتاب يحكي أنه أينما تطأ قدم المحبوب يزهر بستانا وما إن تتعداها حتى تعود صحراء جرداء. فالمعنى هنا في حالة حركة دائمة. في هذه الأمسية تحدثنا عن كيف أن اللغات غير العربية تبحث عن طرق لمعانقة هذه اللغة، وليس مجرد نقل للعبارات من وعاء إلى آخر. بل نجد هنا لغة الترجمة تصبح بستانا اخر تطأ فيه قدم المحبوب. أحد مترجمي الشعر العربي القديم قال إنه لا بد للغة أن تثرى بالترجمة، فما من تراكيب أو مفردات انجليزية بوسعها أن تستوعب مثل هذه المعاني ولكن هذه هي عملية الخلق التي تتيح لها- الإنجليزية -أن تثمر وتتشكل أثناءها
والترجمة ليست حكرا لعناية أصحاب اللغة، يخيل لي أننا جميعا في حالة ترجمة دائمة، حتى عند الونسة مع صديق حميم، نقول: “ها.. هذا ما كنت تقصده!” وأعتقد أنه عند ابن عربي، فالحياة نفسها هي عملية ترجمة دائمة ونشوة متجددة”.
المتحدث الثاني الراجل أبو بدلة الأنيق (٢)
” هناك لغات انجليزية بعدد الجماعات والأفراد. فعملية الترجمة هنا معقدة يتحور فيها الإفصاح بشكل دائم، واللغة ليست سوى مركب تتحور هي ذاتها عند الافصاح عن المعنى. لذا عندما يظهر كتاب باللغة الإنجليزية بعد أن كان محبوسا في لغته العربية، فالأمر يبدو لي وكأنه فعل محسوس، كانفجار قنبلة، إذا كنت قريبا من الحدث فإنك تستطيع أن تشعر بحرارته، صوته المدوي سيصم أذنيك، وأولئك البعيدون عن الحدث قد يشعرون بإهتزازاته القوية والتي تخفت بحسب موقعهم. لكنه ما من شك أنه محسوس، حقيقي. وفيه عنصر تخلّق وتفاعل لأن “المعنى” يستبسل في أن يتجلى لنا جميعا، لأنه من مادتنا، ولا يمكننا تفاديه! كيف يمكننا تفادي التجارب الروحانية وهي مادة حياتنا كبشر. بالطبع لا تجد الناس يتحدثون عن هذه التجارب الروحانية لأنهم قد يصرفونها كمجرد دروشة. لكن الحقيقة أن جميعنا منغمس في عملية الوعي بكينونتنا. كلنا! علم ذلك من علم وجهله من جهل. وها نحن اليوم في حضرة ترجمانين عملاقين- ابن عربي والرومي- يقول ابن عربي أن الترجمان هو ذلك الذي يوحد اللغات بأخواتها، وهكذا فنحن نتحدث عن جالبي المعنى دونما حد. وكل من يقرأ لهما فهو بشكل أو بآخر يشارك في تجلي هذا المعنى.”
السيدة الحلوة ذات البلوفر البنفسجي اللطيف (٣)
“نحن -أجيال القاموس- تجدنا دوماً نفكر في الترجمة بمعنى المساواة. نحن منشغلون بإيجاد تعبير مساوي للتعبير الأصل. وقلقون من أن تكون الترجمة نسخة شاحبة عن الأصل. هناك هذا الهوس بفكرة “الأصل” والذي هو مختلف عن ما يتخلق عنه.
في قاعات الدرس يتخوف طلابي مما سيٌفْقَد في الترجمة ولكنني أصرفهم دوما إلى ما سيعثروا عليه في الترجمة. الترجمة عملية خلق وليست عملية نسخ، هناك مضيعة في البحث عن الترجمة الجيدة. فكل هذه الأصوات التي تحتاج أن تُسمع إن لم تجد لها مساحة في الثقافات الأخرى ستذوي. فإذا لم تعرف أن فروغ فرخزاد كانت شاعرة ايرانية عاشت في القرن العشرين كتبت أجرأ وأجمل النصوص المتخيلة ما كنت لتبحث عن ترجماتها. أقول علينا نحن- من نملك مفتاحا لهذه الأصوات- أن نقتلع منها فسائل ونزرعها بطريقتنا في الثقافة الأخرى لتجد لها تربة تضرب فيها جذورها وتتفرع عنها وتتخلق بنفسها”.
مُحمَر الوجنتين العاطفي (٤)
“اللحظة التي تنفتح فيها على ابن عربي هي تلك التي تتجلى لك كتاباته في أشكال أخرى من حولك. لازلت أذكر تلك اللحظة التي وقعت فيها في هوى الرومي فأدركت ساعتها أن إيميلي ديكسون ما كانت تكتب إلا رباعياتها الرومية، وأن والت ويتمان كان يكتب مثنويه وأن ريلكة كان يكتب ديوان شمسه، تختفي حينها فوارق اللغة ويبدو أنهم يخلقون نفس ال…سأستخدم المصطلح البديع.. “المنطق”! عند ابن عربي، كلٌ منا ترجمان، لأننا نمتص الإشارات الإلهية ونعكسها للمصدر الإلهي من جديد، هذا نفعله رغما عنا، ومن أجل ذلك خلقنا. كنت أشاهد فيلما مع فيكتوريا هولبروك (وهي أكاديمية مخضرمة ومتخصصة في دراسات الشرق ومترجمة عتيدة ترجمت رواية القصر الأبيض لباموك) -لم يكن فيلما عظيما- ولكني وجدت نفسي مشدودا لأغنيته. قلت لفيكتوريا: إن هذا مدهش! إن النشوة التي أجدها في هذه الأغنية هي ذاتها التي أجدها عند قراءتي للرومي. فردت بهدوء: هذا طبيعي، لو أن الرومي كان موجودا بيننا اليوم لكان مؤلفا لأغاني روك! نحن نسميها أغاني الروك في عصرنا الحديث، ولكن علينا أن ننتبه أنه في مكان آخر وفي زمان آخر تخلقت “الطريقة” و”الذكر” في ما بعد العصر المغولي، بعد وفاة الرومي، بكل عاداتها وزياراتها. كل هذه المؤسسات الاجتماعية التي أصبحت جزءا من الإسلام التقليدي ولدت في ما بعد العصر المغولي.
نحن خالقو المؤسسات الثقافية الاجتماعية! أذكر أن زوجة صديقي تعمل معالجة بالرقص، دعتنا يوما أن نحضر احدى جلساتها العلاجية والتي كانت في معبد ما، فدخلنا لنجد شبابا رياضيا يتلوى ويرقص على ايقاع طبل صاخب، بالفعل يصعب الاكتئاب مع هذه الموسيقى الحية! أذكر هذا المثال لأن هذا ما قام به سلطان ولد ومن تلاه عند تأسيس الطريقة المولوية بجلسات الذكر وألحان الناي والإيقاعات والدوران الراقص كلها كانت لنقل معنى استعصى على الكلمات. ونحن نفعل ذلك ربما عبر الفيلم، أو الموسيقى أوالفن، أو عبر أشكال أخرى من “الصحبة”(٥). كل ما هو مطلوب منا هو أن نستمر في خلق تلك الوصلات بين الحقيقة وتجلياتها. لذا تجدني في مثل هذه المحاضرات أتساءل أين الشباب؟ فلولاهم ستموت هذه التخلقات كما ماتت غيرها من قبل.”
عندها صاحت فتاة:” نحن هنا!”
—————————————————-
المرجع:
رابط المحاضرة :
Panel Discussion – Ibn ‘Arabi & Rumi
(١) مايكل سيلز (بروفسير ومحاضر بجامعة شيكاغو في الدراسات القرآنية والتصوف والشعر العرفاني).
(٢) ستيفن هيرتنستاين (محرر اصدارة جمعية ابن عربي، ومحاضر في فكر ابن عربي في العديد من المؤتمرات الدولية، كما ينظم جولات سياحية لتقفي أثر حياة ابن عربي! وحاليا يعمل كمحرر رئيسي بمركز الدراسات الإسماعيلية بلندن).
(٣) فاطمة كيشاورز (بروفسير وأكاديمية ايرانية ومحاضرة في الرومي والشعر الفارسي)
(٤) جيمس موريسون (أكاديمي متخصص في علم اللاهوت الإسلامي ومتخصص في الدراسات المتحمورة حول ابن عربي، حاضر في عدة جامعات حول العالم)
(٥) الصحبة: هي علاقة التلمذة والإتباع كتلك التي كانت من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته رضوان الله عليهم، ولنقل هي العتبة إلى باب المعرفة والعرفان التي تتحقق بتدريج المعلِّم وتلقينه للأسرار حتى يسلك التلميذ عند تأهله في الطريق. أذكر هنا بيت عوض الكريم موسى: إليك الحبل ممدود من المبعوث إذ يرقى (ثم) ويطوى الحبل في المرقى لأولي عروة وثقى.
* كاتبة من السودان