غوايات

المسخوط

حينما ولجنا الصف الأول الابتدائي وجدناه قابع بالدرج الأخير يضحك ويتعمد إدخال ألفاظ بذيئة بين كل جملة وأخرى، نتحاشاه بين ضحكة وأخرى، ويجذب انتباهنا بين غفلة وأخرى. كان يكبرنا بأعوام قليلة وتجارب متمردة لو تم توزيعها على كل الطلاب لأغلقت الوزارة المدرسة وسرحت المعلمين. كنّا صغار وأهلة خضاب الختان الحمراء تزحف خارجة من أظافر أيدينا وتدخل في قلوبنا رهبة المحافظة على تقليمها، حذاء الصفوف، التهذيب والنظام والسكات.

كنّا نذعن لأي أمر صدعاً لبأس السياط فوق الرداء الأخضر القصير وكان لا يأبه لشيء ولا يرعوى يدخل في مشاجرة ويخرج متنزهاً في كارثة. علمنا كيف نكتب اسم المدرس علي العظم ونقبره ثم نتبول عليه كي نفلت من السياط، صدقناه لأننا صغار وكذبنا جسده المشدود كل يوم تحت وَيْل العقاب، يصرخ بكل حلقه ويُدمع ويتقلب كأن الكنبة الأمامية طاجن ملتهب ثم ينهض بوجهه الدامع يولي ظهره للمدرس ويبتسم هامزاً لامزاً مُفرداً إصبعه الأوسط الموارب وكأن شيء لم يحدث وبمجرد خروج الأستاذ يحوّل الفصل لملهي عبثي تتصاعد منه القهقهات.

إجتزنا الفصل الاول وتركناه هناك، سري النظام في أدمغتنا، صار لنا ” ألفا” حازم ومهاب وكِدنا ننساه لولا ظهوره المتكرر بمسرح الرجل الواحد الصامت خلف شباك الفصل الثاني لا يمل من مد لسانه وصنع الإشارات، في البدء تبدأ الضحكات مكتومة خوفاً من الألفا ثم شخشخات ومن ثم تنفلت الفرقعات، يدنو من الألفا ويقنعه بتمزيق ورقة المهرجلين ويبدأ من جديد.

في الصف الرابع نسيناه، هدأت المدرسة وعم العبث الحقول والأسواق، يكّوم الخضار بإنتظام في الصباح ويركله في المساء، يبني حوائط البيوت بإهتمام ويضيع سباب أصحاب المنازل مع أصوات التهدم القريب، تقاذفته الحافلات بوظيفة مساعد فيصبح عبء على السائق، غاص في مدينة بعيدة اقترن بإحدى حِسانها وغاب حتى قلنا ابتلع الزواج نزقه وشذبه فظهر اسمه في دعاوي الطلاق للغيبة، يظهر شحيحاً ويختفي كثيرا بينما تأتي نوادره وحكاياه مدراراً مع الطيور والرياح.

محمد حمد

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى