العصر
يبدو العصر فاتن،مثير ومبشر كملاك خلق للتو. ركعت ملاصق بين فخذي ومددت يداي كمن يحاول فتح الرف السفلي لخزانة وفي إحترام ورقة مصطنعين شددت ملاءات السرير وربت عليها بفائض من الاهتمام، مظهر الحرص على إخفاء تكشيرة هنا وتجعيده هناك كخبير مكياج مثابر. الوضع مكتمل، الروح منشرحة، وبعد قليل حينما تصمت الشمس وقبل أن يبدأ نول المواقيت في تطريز عباءة الليل مزركشة بالنجوم والكواكب سأتمدد على ظهري، في لامبالاة بيدق على رقعة خاوية وأتطلع إلى سقف الغرفة العالي.
ياااااه لقد مر عمر بحاله منذ إكتشافي لهذه المتعة الغامضة متعة النظر إلى سقف عال في عصر مختار. ترى كم سقف وطئت بعيني هاتين؟
ولكن لماذا لا أجد وسادتي في أي مكان؟
ترى أين يمكن أن تكون قد ذهبت؟
وهل تذهب الوسائد لوحدها هكذا!؟
وكيف يمكن أن أنظر للسقف قبل دخول الليل من غير وسادة؟
لقد قضيت النهار كله أبحث عنها بحثت في كل مكان من دون جدوى حتى أنني قد بحثت فوق الغرفة ظانا أنها يمكن أن تكون قد حلقت وتجاوزت السقف بطريقة من طرق الوسائد العديدة في التحليق! ياللسذاجة ياللظنون البليدة .
لأرتب الأفكار جيداً، ما الذي أذكره عن العصر السابق؟
أتذكر ذلك العصر طشاشاً، لقد بدأ وضاء كجبين تقي زاهد، ولكنه ما لبث أن إكتسى بالغبار فصار اشبه بثوب طفل عاد من لعبه في الخارج للتو. لقد غفوت في ذلك العصر أثناء تطلعي للسقف نعم أنا أتذكر بوضوح الآن، حتى أن الوسادة كانت مطوية على نفسها مرتين وذلك بسبب معاناتي من آلام في العنق وحسبت أنني بهذه الطريقة سأخفف عن نفسي حملها برفع الوسادة وتمديد جسدي في وضع مائل مما سيجعل الأفكار تتدفق للأسفل دون الضغط على عنقي. ولكنني واثق من أنى استيقظت وأعدت الوسادة إلى خزانتي الآمنة، أم تراني كنت أحلم؟
هل تركتها ملقاة هناك ولم انتبه عندما خرجت؟،ياللاهمال! لن اغفر لنفسي أبداً. إذا كنت قد تركتها ملقاة فوق السرير فمن الجائز أن يكون أحدهم قد تسلل أثناء غيابي واستولى عليها. أو ربما أخذها ضيف من الضيوف الذين استقبلهم، أذكر أنني استقبلت عدة اشخاص بعد تلك الحادثة، نعم لابد أن أحدهم هذا قد اشتبه في حيازتي لوسادة، أنت لا تحتاج إلى الكثير من الفطنة لتحزر أن شخصا ما يمتلك واحدة، لابد أن هذا الضيف قد استغل انشغالي بخدمته فغافلني واستولى على وسادتي، أترى وسادتي الآن تئن تحت وطأة رأس الغريب الثقيل؟ أم تراه من أعداء الوسائد المتطرفين فأقام عليها الحد ونتف عن وحيدتي قطنها الناعم؟
لكن لا، لا يمكن أن يكون الأمر كذلك. هذا شك في غير محله. أنا عادة أستقبل الزوار خارج الغرفة التي تحتوي على وسادتي، تلك الغرفة التي لا أترك بابها مفتوح أبداً. ثم ان ضيوفي اناس على قدر عال من الاحترام وشخص فظ ووضيع فقط هو من تسول له نفسه سرقة وسائد الآخرين.
إذن أين يمكن أن تكون قد اختفت؟ أظن أن السؤال الذي يتسلل داخلي بمكر هو هل اختفت وسادتي أم أنني غير قادر على العثور عليها؟
اللعنة ما هذه الأسئلة الغريبة التي تتلبسني؟ هل أنا على مشارف الجنون؟ كيف يمكن أن تكون الوسادة موجودة وأنا غير قادر على إيجادها إنني أستطيع تمشيط البيت كله في ثوان معدودة فبيتي ليس به كثير أشياء يمكن أن تحجب وسادة بهذا الوضوح ناهيك عن غرفتي التي لا تحوي سوى السرير ومخزن الوسادة الآمن ثم أن بيني وبين الوسادة إلفه أنا قادر على الشعور بحضورها، أستطيع رؤيتها في قلب الظلام، كيف لا وهي التي حملت عيناي كل هذه السنوات.
يكفي وهما لأعد إلى تحرياتي السابقة أحدهم استولى على وسادتي أحدهم يريد تكبيل تطلعاتي أحدهم يتسلى بمشاهدتي أتمرغ على سريري بلا وسادة كحمار في بركة قذرة، ترى هل يشاهدني الآن من فوق رأسه المسنود بوسادتي العزيزة، اي رأس قد تخطر عليه مثل هذه الأفكار الشيطانية.
من الممكن أيضاً أن يكون الفاعل اولئك الأطفال الأشقياء، تلك الأيادي الصغيرة الكريهة يمكنها التسلل عبر نافذتي الضيقة وسحب وسادتي بكل يسر، أطفال بغيضون يحسبون وسادتي لعبة؟ تراهم الآن في الشوارع القذرة يتقاذفون وحيدتي فيما بينهم وربما يركلونها بأرجلهم المتسخة تبا لهم، بيد أن وجود وسادة في الشارع لهو مثار لعاصفة من الأسئلة والشبهات حتى ولو كانت بين تلك الأيادي الصغيرة.
حسناً، خياري الأخير-هذا الذي أماطل في الكشف عنه، والبوح به حتى لنفسي. هذا الذي ادفنه بعيداً في أغوار الوعي، أبعد من الموت نفسه. هذا الذي كلما ذكرته أرتج كياني وأزهرت فوضى بروحي. هذا الذي أرسلته أفكاري كهدية لمن هو مغادر إلى معركة- حقيقي كوداع بين شيخين في الثمانين.
“إنها في الساحة، هناك حيث يعدمون الوسائد”.
يبدوا أنهم بطريقة أو بأخرى قد توصلوا إلى أنني أحتفظ بوسادة في بيتي، يمكن أن يكون أحد الوشاة، كما يمكن أن تكون إحدى مداهمات الوسائد العشوائية صحيح أنني ظللت حريصاً على أن اكون بعيداً عن الشبهات غير انه لا يمكن لشخص أن يكون بعيداً عن الشبهات حين يتعلق الأمر بالوسائد، ليس هذا بشيء مهم، ما يهم هو أنهم الآن يتحفظون على وسادتي وينتظرون ظهوري هناك.
إيييييه يا رؤوس مطأطأة تكره الرؤوس المسنودة بالوسائد، لن تناولوا مني بهذه السهولة، أتحسبون أني على هذا القدر من الغباء حتى يتم استدراجي بوسادة؟!
بعزة وسادتي وجلالها لو أخذتم سقف غرفتي بحاله لما مشيت إلى الساحة طوعاً. سأستلقي هنا وأشبك يداي في الخلف أحمل بها رأسي متابعاً طقس مشاهدتي. ولكن إلى متى يمكن للمرء أن يسند رأسه بيديه العارتين هه؟
لا يهم أيضاً فأنا لن أذهب إلى الساحة أبداً هل لك حتى أن تتخيل قسوة الوقوف هناك وأنت متهم بوسادة، تخيل معي كيف ستكون فصول تلك المسرحية الساخرة، شيخ يبدو في غاية الوقار سيكون هو نفسه قاضي محكمة الوسائد،يقف بهيبة وجلال في منتصف الساحة والناس متكدسين من حوله كذباب حول قطعة غائط يحمل الشيخ الوقور الوسادة يعرضها ببطء على أعين الحشد المذعور في حركة مسرحية مدروسة ثم ينظر في عيون الحشد بحزم وصوته الهادر يتحد مع الهواء محيلاً المكان إلى ساحة أرض تنتظر معركة.
” أنظروا أيها السادة، أنظروا وتأملوا في وسادة الخاطئ أنظروا بقلوبكم لا بعيونكم فربما لا زال هناك شيء من طهر فيها وربما حينها تدركون أي دنو وانحطاط صرنا إليه” سيستمع الناس إليه بصمت ورهبة في البداية.
“هذه هي الثغرة التي تسلل عبرها الشر إلينا”
“أي عصر لعين هذا الذي يجعل الناس يستندون على وسادة؟”
سيطأطئ الجميع رؤوسهم في وجل ويتمتمون بصلوات خافتة.
“إخوتي هل لكم أن تتخيلوا هذا الخاطئ يستلقي هناك في غرفته متكئاً على وسادة وهو ممدد على ظهره” يبدأ الجمع في التململ والهمهمة بأصوات مختلطة وتنذر الحركة الجماعية بانفجار وشيك وسط الحشد الغاضب.
“إخوتي أما تقشعر أبدانكم من فكرة أن العيون تحدق مغروزة في السقوف؟”
عند هذه اللحظة سيفقد الحشد سيطرته ويسود الهرج والمرج ويبدأ الجميع في الصياح بهستيريا وترديد الشعارات المناهضة للوسائد من شاكلة
“أصحاب الوسائد متطلعي السقوف أصلبوهم في الفراغ من الأنوف”،
“ساندوا الرأس على الوسادة أقتلوهم كي تناموا في سعادة”….. الخ
آآآآخ إن مجرد هذه التصورات تشحن قلبي بكامل طاقات اليأس، إلى أين يمكن أن يؤول مصير شخص يتمدد على ظهره ويتطلع إلى السقف وسط حشد محرض وغاضب ظل طيلة حياته منبطحاً على بطنه وعيونه مغروسة في اللحاف حشد يؤمن تماما أن العيون قد حرمت عليها السقوف. تباً لهم لن أذهب إلى هناك أبدا تبا لهم وتباً لوسادتي تبا لي أنا أيضاً، سأتمدد هنا على جانبي، من دون أي سند،مثل مدفون، وسأولي وجهي صوب الحائط وتبا للسقف والنظر إليها في هذا العصر.