ثمار

“الكولا وأخواتها” نصوص الشاعر السوداني علي الكامل

امجد

كان الشاعر والمترجم والكاتب السوداني المقيم في مصر الصديق علي الكامل موضوعيا حين أطلق على قصائد وقصص كتابه الصادر حديثا عن مكتبة جزيرة الورد بالقاهرة (الكولا وأخواتها) نصوصا. فهي بحق متنوعة ما بين قصيدة النثر، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا، والتعليق، والمقالة القصيرة، والحكاية، والإشارة، والنكتة الساخرة، والنكتة السوداء وغيرها.

ولعل الكاتب أدرك أن مثل هذا التنوع الأسلوبي قد يثري تجربته الأدبية، ويعبر عن مسار إبداعي مختلف نسبيا عن السائد مما يقدمه سوق الكتاب للقراء. والأغلب أنه يكتب وفق ما تمليه اللحظة الإبداعية التي يمر بها.

والكتاب يضم أكثر من عشرين نصا يتناول العديد من الموضوعات والتجارب الإنسانية، وكتبت أغلب هذه النصوص في ليبيا عدا نصين اثنين أحدهما كتب في الخرطوم والآخر في القاهرة. وكلها كتبت قبل عام 2000 وأحدث نص مكتوب عام 1998، أي أن النصوص تعبر عن تجارب مضى عليها حوالي عشرين عاما على أقل تقدير، مما يتيح لنا أن نقرأ الحدث بعيدا عن زمان حدوثه وبتجرد أكبر وببصيرة أعمق.

وكان الشاعر والكاتب والمترجم على الكامل قد أصدر قبل هذه النصوص المتنوعة مجموعة شعرية واحدة بعنوان (إعترافات) لم يحدد تاريخ نشرها أو مكانه. وهو يزمع أن يصدر لاحقا الجزء الثاني منها على ما جاء في وعده المستقبلي. إضافة إلى مجموعة أخرى بعنوان (مريم). وأنا في الواقع أتحفظ قليلا في الحديث عما لم ينجز إذ إنه ما يزال طي الغيب إلا إذا كان منشورا في الصحف والمجلات.

وهنا لابد أن أشير أيضا إلى أنني أبدي تساؤلات مشروعة حول الأسباب التي تجعل كاتبا ما يؤجل إصدار نصوصه كل هذه الفترة الطويلة إذا كان يمتلك مشروعا شعريا أو أدبيا يعمل على إثرائه وتطويره مما يعرضها إلى أوجه مقارنات قد لا تنصفها، ولا تعطيها حقها من القراءة والتقييم.

كما أنها في بعض الأحوال ستشير إلى مرحلة سابقة ربما يكون بعضها قد تجاوزه الواقع الأدبي. ويمنعني تاريخ طويل معلن من اهتمام الشاعر بالحقل الأدبي والشعري الإبداعي من وصفه بأنه هاو للشعر والنصوص الأدبية، ولكنه طبعا في حاجة إلى رصد جاد ومستمر جدا لحركية مسيرته الفنية والشعرية، لإنجاز مزيد من النتاج الذي يعبر عن تجربته الحياتية بشكل أكبر.

غير أنه من حسن الطالع أن نصوص على الكامل ظلت تحتفظ بوهجها الأدبي والإنساني، وظلت تعبر موضوعيا عن هموم الإنسان العربي، ربما بشكل يفوق المرحلة الماضية إلى مرحلة أقسى وأفظع.

من الواضح أن الكاتب حين اختار عنوان كتابه ( الكولا وأخواتها ) كان ذلك من ضمن سياق النص المعني ، والنصوص الأخرى ، وضمن سياق اهتمامات الشاعر الحياتية والفكرية وربما السياسية أيضا , فإنه بالتأكيد يعني بها ذلك الرمز الأمريكي الذي يؤطر أهداف سياسات العالم الرأسمالي وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على مقدرات الشعوب واستغلالها ، من خلال الشركات عابرة القارات، ويؤكد ذلك ورود اسم ( المارينز أو المايونيز ) بصيغة ساخرة لتوضح أبعاد الرمز بصورة لا تقبل الشك، دون مغامرة البحث عن الإحالات الأخرى الممكنة لكلمة (الكولا) الموجودة في الطبيعة كنبات، حيث تقول موسوعة ويكيبيديا ( إخترع مشروب الكولا على يد الكيميائي جون بيمبيرت مستخدماً مستخلص جوز الكولا ( نبات منتشر في وسط وغرب أفريقيا )، وانتشر بسرعة حول العالم وصار مشروب الكولا شعاراً يدل على الولايات المتحدة.

وفي نصه نفسه يقول مشيرا إلى بعض مواصفات هذا الرمز ودلالاته، وكأن ما يقوله نصيحة شيخ أفريقي مجرب يوصي أولاده وأحفاده في أعماق الغابة وصايا حيوية تفيدهم في درء المخاطر الحياتية المحتملة (لا تبع صيدك لتجار الطيور … تعلم أن تكون طاهيا وتبيع صيدك بعد الطهي في سوق المدينة …هذا يضاعف ربحك … ثابر لا تمل.. إحلف أغلظ الأيمان كاذبا لا ترتعش.. صادق اللصوص لا تخف … تقرب من القوادين لا تحترس.. كن كطيورك الداجنة تدنو منك ” الكولا وأخواتها”).

أما في نصه الأول وهو بعنوان (رحيل) فيحاول الكاتب أن يدافع عن الحلم الإنساني، عن الحياة ضد الموت رغم الواقع المرير ورغم الوحدة الأليمة التي تبعده قسرا عن موطن آماله وبهجته حين يقول:

  (يا صغيرتي نحن لا نؤجل الحياة / نحتمل الفراق / نحلم بالبعيد أو نراه / هي الحياة / نحلم بالصباح أو نراه / عي الحياة نشبع أو نجوع / هي الحياة / أليست الشمس في البعيد / كما نظن أو نرى! / لكنها بداخلي هنا / فكيف لا يكون البحر/ يا صغيرتي هنا؟؟؟؟ / ) . ويتناص هنا مع الروائي السوداني المعروف الطيب صالح في رواية (مريود) حين يقول فيها (وأنا أحس في قلبي بفجيعة مثل الفرح).

 كما يستشهد بأبيات من شعر الشاعر السوداني محجوب شريف حين يقول:

(وكم حديقة تحطمت / نمت على حطامها حديقة / وكم مكان نخلة هوت / علت نواتها وزادت ارتفاعا).

من نصوص المجموعة، تلك التي تعتمد نوعا أكبر من التكثيف والصياغة واستخدام الصيغ الفنية التي تنسجم مع بناء النص القصير، وقد أسماها الكاتب (لوحات) وتضم إحدى عشرة لوحة، فمنها ما اعتمد على السرد القصصي ومنها ما اعتمد الحوار بين الشخصيات، وهناك نصوص اعتمدت الموروث الديني والشعبي، إضافة إلى تمتع قسم منها بحس ناقد مناور ففي نص بعنوان (حلم) جاء فيه:

(قليلون جدا هم الذين شاركوا في تشييع فاطمة بت التوم … قليلون أيضا هم الذين استمعوا باهتمام لحكاية الحلم الذي رآه محجوب بعد رحيلها.. رأى طفلها الرضيع يحمل فأسا ويقطع الشجرة الكبيرة التي يعقد العمدة محكمته في ظلها ….

–       قال إمام المسجد …. أضغاث أحلام

–       قالت حاجة سكينة …. اللهم اجعله خيرا …

–       أستاذ محمود قال: حكاية غريبة.

–       وظل مرجان المعتوه يقهقه وهو يضرب برجله اليمنى على الأرض ويشير بيده اليسرى ناحية الإمام … وحين اشتدت نظراتهم إليه … هرول في اتجاه النهر).

ومن هذه المقاطع ما هو متمتع بحس فكاهي ساخر يعتمد استقطاب رموز اللغة والنحو العربي، مثل المقطع الذي أسماه (تشكيل):

(كنت أحاول رسم لوحة لحركات الأعراب عندما اقترب موكب السيد الوزير …..

أول من هرول في اتجاه الشارع الرئيسي كان صبي المقهى – رسمت قميصه الذي رتق في أكثر من مكان لكنه لم يستر مؤخرته تماما (مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره) مر موكب الوزير أمام المقهى رسمت فمه المطبق تحته رسمت دائرة كبيرة تتوسطها دائرة أصغر …. فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة …. (وضحكت كما لم أضحك من قبل) ثم رسمت خطين متكافئين بحيث يصنعان زاويتين حادتين وزاويتين منفرجتين وكتبت (كل الناس هنا حتى الذين يجهلون الكتابة والقراءة يعرفون الكسرة الظاهرة أو المقدرة على آخره).

لعل من المهم الإشارة إلى أن مجموعة نصوص الشاعر والكاتب السوداني علي الكامل تعبر تعبيرا حقيقيا وواضحا عن المرارة والخيبة والظلم الإجتماعي والحزن الكبير على الواقع الذي يعيشه الناس وتعبر عن القسوة والأنانية التي تقسم المجتمعات إلى أقسام وطبقات، منها المستفيدة الغائبة في اتجاه مصالحها، وأخرى المغلوبة التي لا تملك شيئا في الحياة، ولا تملك حتى أن تغير من واقعها الأسود إلا بالصبر والأمل. لا تجد في المجموعة إلا الحيرة والرحيل والبكاء واليأس، وإدانة لكل من هو مسئول عن هذا المصير الذي ينتظر الملايين من الفقراء والمشردين والمحرومين والمعتقلين وغيرهم ممن يفتك بهم الجوع والمرض والجهل، يقول الشاعر في قصيدة (عندما بلغ مني اليأس ….):

(عندما بلغ مني اليأس اشتعلت نارا …..

عادت سيرتها الأولى …..

مرة أخرى اشتعلت نارا

غَدَت رمادا

فصاح الرماد ( ياليتني كنت رمادا)

هبت ريح فذرته

فكانت كل ذرة تصيح

هل كنت رمادا؟

هل كنت رمادا ؟).

ولعل الشاعر سيظل يبحث عن حلمه في الجديد من التجارب والأيام، وفي الجديد من النصوص الشعرية والسردية أيضا، بهذه الطريقة العفوية التي تأتيه مجردة من الزخارف والتصنع والتكلف:

(الشجر يسافر في اتجاه الحياة….

أحلامي تحملها أحقادهم في اتجاه الإنحسار والإنكسار والصمت …..

أبحث عن طعم جديد.. لون جديد … دهشة أكبر من فجيعة القنابل والصواريخ ((متعددة الموديلات …. متعددة الجنسيات)) …. دهشة أكبر من فجيعة ( الهامبروجر ) والكلاب المدللة التي تنام بين أحضان الفتيات والسيدات

(وألسنتها …. الكلاب أعني – تساوي أباك وجدك يا أستاذ)

أبحث عن….

وعن ……

وأعود بتهمة جديدة ….. خيبة جديدة …..

والبلادة تحاصرني …..

قالت لي ذبابة دون أن تفتح فمها ما لم أسمعه من خطباء هذا الزمان رغم

أصواتهم العالية…

جالت بخاطري فكرة …..

طارت الذبابة ….

طارت الفكرة ……

تأملت (المبيد الحشري الفعال) وضعته جانبا وعطست حمدت الله وأنا اهش الذباب بيد وأتناول بالأخرى كوب الليمون …..).

أخيرا:

أقول وبصدق وشفافية إنني تعاطفت كثيرا مع نصوص الكاتب والشاعر علي الكامل لما فيها من مواصفات فنية وموضوعية تدل عليها، وتعطيها سمات خاصة بها، ومن أولى تلك المواصفات تداخل الأنواع والأشكال الإبداعية كما سبق أن أشرت، والتي جاءت بشكل عفوي لا تكلف فيه، كما قام باستخدام العديد من الأدوات والصيغ الفنية التي جاءت لتدفع بالنصوص إلى مصاف المنجز الإبداعي ، ورغم قلة عدد النصوص الواردة في المجموعة إلا أن الكاتب استطاع أن يكتب بلغة منسابة شفافة مليئة بالمجاز والتصوير إضافة إلى الرموز والإحالات على غموض مفتوح النوافذ على المتبصر من القراء، كما استخدم في العديد من المقاطع أسلوب الحوار بين الشخصيات وبلغة مكثفة دون استطرادات غير ضرورية أبعدت نصه عن النثرية والعادية .

ورغم انه كتب نصوصه في عدة أمكنة إلا أنه عرف كيف يلغي الفوارق الجغرافية والثقافية بين أبناء الأمة الواحدة، بحيث كانت همومهم متشابهة تقريبا، ووحدهم الألم والأمل في وقت واحد.

ولا ننسى هنا استفادة الشاعر من الموروثات الشعبية التي أغنت النصوص أحيانا وأعطتها نكهة خاصة فيها الكثير من العمق الشعبي وتجربته الحياتية وخاصة الموروث السوداني العميق متعدد الأطياف.

كما لا ننسى أن المرأة بشكل عام كانت حاضرة حضورا واضحا ومتميزا في العديد من نصوص (الكولا وأخواتها) وكانت أيضا تعبر عن التوجهات الإنسانية ذاتها التي تشكل رؤية الكاتب مساندة للرجل ونضالاته من أجل سعادة البشرية.

ومن المهم جدا أن أشير إلى وضوح الرؤية الفكرية والسياسية الإجتماعية والإقتصادية لدى الكاتب من خلال انعكاسها على أرض الواقع المعاش، وصداها في التجارب الإنسانية المعبر عنها في النصوص ، حيث لم تبتعد كل النصوص عن هدفها المركزي الذي يسعى إليه الكاتب، وإلى فهمه الخاص لدور المنجز الثقافي الملتزم في بناء الإنسان والوقوف إلى جانب طموحاته وآماله الإعتيادية، سواء كنا من مناصري هذا الرأي الذي ينحاز إلى الفكر الإشتراكي عموما، أو من مناصري الجانب المشرق من نقيضه الليبرالي الغربي الذي ينحاز إلى العدل والمساواة والمحبة , ولا يتردد هو الآخر في تبني حرية وكرامة الإنسان في هذا العالم، مع نقد واضح للرأسمالية الإستغلالية التي انتقدها المؤلف ابتداءا من عنوان المجموعة .

ورغم كل ذلك أقول وبصراحة أيضا أن على الكاتب والشاعر على الكامل وهو يقدم كتابه الثاني إلى القراء، أن يبذل الجهد الحثيث والمتواصل لتأكيد ثوابت منجزه الأدبي والفني، وأن يكون أكثر قربا وحميمية من احترافية الكتابة، وجعلها المهمة الرئيسية له، والابتعاد عن شبهات الهواية الأدبية التي تأتي بالمصادفة أو الآنية.

أقول إن لدى الكاتب ما يقوله، وما زال العالم يحفل بالتجارب وكما يقول (الكتابة صبية مغناج مهذار ” تدنيك وتبعدك “)، فعليه إذن أن يقترب منها أكثر لتمنحه انجازات أكثر. ثم إنه يمتلك ناصية اللغة الإنجليزية مما يجعله قريبا جدا من النص العالمي وما تحفل به من توجهات معاصرة وجديدة.

* شاعر من العراق

زر الذهاب إلى الأعلى