ثمار

“الَجمْر والَثْلج” تجربة أوتار الغنائية بمدينة نيالا

مجموعة اوتار نيالا

في إحدى الأساطير الإسلامية، أذكر قصة ذلك الرجل الذي نصفه من الثلج والنصف الآخر من النار، ويمضي بهذه الهيئة فلا النار تذيب الثلج، ولا الثلج يطفئ النار، عبرتني هذه القصة وأنا أفكر في حالة مجموعة أوتار الغنائية بمدينة نيالا البحير، هذه المجموعة المتميزة من الفنانين الواعدين والتي سجلت بصمتها الأولي ودشنت إنطلاقها في العام 2011 بمجهودات ذاتية ضيقة ومحدودة، لتواجه صعوبة البدايات وبرودة الإستقبال الرسمي، ولكنها أعلنت عن ميلاد  أصوات متناغمة وبديعة تصرُّ على غرس وجودها في تربة الفن السوداني الراسخ، وتأملُ  في إضافاتها المتواصلة لمكتبة اللحن الجميل.

مجموعة من الشباب الطموحين من أبناء مدينة نيالا، المدينة التي نهضت على آثار مملكة جبل أم كردوس، بتراثها الموسيقى الخالد، بروعة إيقاعات (البردية) وأصوات (البربارا)*  المُدهشة و( أب قزة) الخ…، شِبان لم يتجاوزا أواسط العقد الثاني من العمر،  وهبوا حياتهم للفن وإنغمسوا في تفاصيله ودروبه العسيرة، رغم سوء الأحوال العامة والخاصة التي كانت تحيط بهم، لم يدفنوا رؤوسهم في رمال (وادي برلي) أو يتهيبوا شرف المحاولة، لأنهم أرادوا أن يُسْمِعوا المدينة المكلومة  صوتاً جديداً غير صوت الأنتنوف والرصاص المجاني الذي فرض نفسه على إيقاع المدينة. لحناً صافياً يأخذ بالأرواح الجريحة إلى فضاءت ناعمة وواسعة خارج تراجيديا الحزن الدارفوري العنيد.

على مساطب مسرح نيالا البحير، إنطلقت ورشهم الفنية، أتوا بقلوب نظيفة وعقول تحمل هم النجاح والتفوق من خلال الحرص على إضافة الجديد وبدء المشوار بصبر البحارة وحس الفنان المهووس بالإبداع، وبدأت مداولاتهم وأفكارهم تعمل بنشاط تحت إشراف الرائعة / زبيدة محمد عبدالله، الأمين العام للفرقة، وإستطاعوا أن يقيموا مهرجانهم الأول في بداية العام 2012 بنجاح بعد مجهودات خارقة في تجميع التبرعات من الأصدقاء وأعضاء الفرقة أنفسهم، حيث أنهم وحتى ذلك الوقت كانوا يواجهون العديد من المشاكل المُلحَّة، حيث إنقطاع التيار الكهربائي في المدينة الأمر الذي يستوجب توفير مولد لإستمرار البروفات والورش الفنية، كما واجهتهم مشكلة إقتناء الآلات الموسيقية، الأمر الذي دفعهم لتأجير ها بأسعار لم تكن في متناول اليد. تغلبوا على كل تلك العقبات وخرج إحتفالهم التأسيسي الأول كأجمل حدث ثقافي –فني شهده إقليم جنوب دارفور في السنوات الأخيرة.

ثم توالت الفعاليات بثبات في تلك الفترة، وتنوعت مشاركاتهم في المناسبات العامة وفي معسكرات النازحين بل وإمتدت حفلاتهم الغنائية حتى مدينة كاس ومدينة الفاشر ورهيد البردي وغيرها. كانت إنطلاقة أوتار بمثابة تحريك للنشاط الثقافي برمته من مسرح وغناء وفعاليات مستمرة في أعياد الأم وعيد الحب ومهرجان ملتقى مشيش الثقافي واليوم العالمي للمسرح الخ…  تلك الفعاليات الثقافية الراقية التي تكاملت فيها المجهودات الكبيرة والمتواصلة لشباب رائعين بإمكانيات ذاتية لم تجد أي شكل من أشكال الدعم الرسمي من مايسمي (بوزارة الثقافة) أو غيرها من المنظمات المدنية، حيث كان مدير المسرح في ذلك الوقت مجرد عسكري لاتتعدى علاقته بالثقافة مهرجانات القرآن الكريم وجلب الحكامات للغناء على أنغام الحرب. مما أدى إلى فراغ ثقافي كامل عبر عنه الصديق مصعب الشيخ في مقال له بقوله: (من أهم العوامل الأساسية التي أدت الى إنتاج هذه الوضعية الثقافية المأزومة، من ضمنها مركزة ورسملة الثقافة أيديولوجياً كأشكالية تاريخية حالت دون تطور الفنون بشكل عام في السودان، التي مأسست مسألة الفجوة الثقافية وإتساعها بأبعادها الحقيقية).

ثم أتت القفزة النوعية في نشاط أوتار تحت إشراف الشاعر / هاشم يوسف (رطل) والشاعر الجميل / فضل بدين والرائع محمد الدابي، من خلال الإسناد والرعاية الشاملة التي وفروها لهذا المشروع، فأصبحت البروفات مستقرة حيث تمَّ تجهيز أماكن للبروفات والورش، تأمين إيجارات مستمرة للآلات الموسيقية (الكيبورد والجيتار الخ…)، مما مكنهم للتفرغ لعملهم الفني لأول مرة، حيث كانوا في السابق يقومون بكل تلك الأدوار بجانب عملهم الأساسي.

وتزامن في تلك الفترة أيضاً عزل المدير العسكري ذات صدفةٍ ما على ما أظن، وتعيين شاعر نيالا المعروف الأستاذ / محمد خير الخولاني مديراً للمسرح، الأمر الذي إستقبله الوسط الفني والثقافي في نيالا بإرتياح بالغ، مما أضفى نوعاً من الإهتمام والجدية، وأعاد للمسرح هيبته وألمعيته كمكان لممارسة الفعل الإبداعي. وإستمرت بعدها فعاليات عديدة مثل منتدى (أم قليباًنار الأسبوعي) (منتدى العوادة) (عودة نشاط جمعية اصدقاء الطفولة) الخ…

أهم مايميز أوتار هو حرصها الكامل على الإضافة والإنتاج الخاص، حيث لم تكن تؤدي أي عمل غنائي لا تملك حقوق أداءه وتلحينه وتوزيعه، وهو بالتأكيد أمر بالغ الصعوبة لمجموعة شباب يافعين في بداية تجربتهم، ولكنهم ومنذ البداية إختطوا هذا الدرب وإلتزموه بصرامة بالغة. وبرز من أعضاء أوتار ملحنين مُجيدين مثل المغداد آدم زين وصابر ابوسمرة والنقر والأب الروحي للفرقة الذي إختطفته المهاجر والمنافي ابراهيم خليل ربك، أو من دعموا أوتار بألحانهم مثل المسرحي هيثم إبراهيم جلال الدين، وبالتالي فإن جميع الأعمال الغنائية لأوتار هي من ألحان وتوزيع أوتار نفسها.

الميزة الأخرى لأوتار فيما يتعلق بإختيار النصوص، حيث كانت عملية الفرز والإختيار تتم بعين دقيقة، وذوق مُرهف، فكانت الأغنيات العذبة التي رددها أهالي نيالا والطلاب والمثقفين وسائقي الركشات، ولا يجدر بنا في هذه المسألة أن نضيف شيئاً إذا علمنا أن على رأس أوتار شاعر معروف كهاشم الرطل أو فضل بدين وغيرهم. ومنها على سبيل المثال لا الحصر: –

We need change — الشاعر/ ابراهيم الخليل

نودي سحابة — الشاعر/ أبراهيم الخليل

بط أمي —الشاعر/ فضل بدين

الأحلام —الشاعر/ مصعب الشيخ

لاعليكي فليكن —الشاعر/ حفيظ النصراوي

ياحبيب قسا الأيام —الشاعر / عثمان البشرى

لافي مدارك — الشاعر /محمد خير الخولاني

أما الميزة الحاسمة لمجموعة أوتار فكانت تتجلى فى وجوه هؤلاء الشباب المبدعين المغداد/ صابر أبوسمرة/ تسابيح/ النقر/ متوكل / معاوية تنقلو / أماسي نوري / مصطفي / محمد آدم أبو والذي إنتقل لفرقة راي بالخرطوم.
هؤلاء الفنانين المسكونين بالعزيمة الفائقة والإبداع اللامحدود، بصبرهم على الحلم ومشاق الدرب الفني وصعوباته المتعددة، يجمعهم لحنُ واحد، وإن كانوا أوتاراً تغنى (حباً وحقيقة)، هو لحن الحياة.

* آلة شبيهة بالفلاوت.

* كاتب من السودان

 ’

زر الذهاب إلى الأعلى