غوايات

الصندوق

….. وأربعة وعشرون دقيقة هكذا في منتصف الأحداث، في منتصف الليل، في تلك الساعة حين تبدأ الأحلام في مزاولة مهامها اليومية، كنا في منتصف الطريق، كل شيء ساكن في الخارج حتى أنك لتسمع الصرير الذي تحدثه اطارات الحافلة وهي تسير على الإسفلت الناعم. في أوقات كهذه قد تسمع كل شيء. كان جالس وهو يريح خده على ساعده المستند به على نافذة الحافلة وفجأة قال من غير أن يلتفت إلي:

–       يجب تغيير اسماء المدن ليلاً.

ابتسمت عجوز في المقعد الأمامي. تثاءب شاب كان يجلس بمحاذاتنا. عدل السائق مرآة المقدمة ونظر الينا ثم عاد يتطلع إلى الطريق أمامه دون أدني اكتراث.

تابع من دون أن ينتظر أجابه مني:

–     استطيع أن أقسم أن الطريق التي نعبرها الآن ليس لها أدني صلة بتلك التي عبرتها صباحاً.

اعتدلت في جلستي مدعياً بعض الاهتمام وقلت وأنا أتطلع إلى جانب وجهه المستند إلى النافذة:

حقاً، وكيف ذلك؟

أنظر قال وهو لا يزال في وضعيته الحالمة، أن كل شيء يبدو حميم في الليل، ومع ذلك فكل الأشياء بها رهبة ما، هل تفهمني ….، توقف بغتة كأن الكلمات التي لديه انتهت وهو ينتظر دفعة جديدة ثم أردف يقول بعد أن حصّل شيك التعبير من بنك اللغة، الأشياء في الليل قريبة وغريبة في آن. هل ترى تلك البنايات الجامدة المتشابهة كعلب لمنتج واحد، لم يسبق لي أن أوليتها أدني اهتمام في الصباح ولكن كل ليلة عندما أمر بها اشعر بدفء غامض يشع منها، كأنها تراقصني على لحن أغنية مألوفة ولكنني لا أستطيع استحضارها أبداً، كأنها تهمس في أذني أن نحن في هذا الشيء معاً. اعتدل في جلسته وشبك كفيه أمامه بينما أخذ يضغط بجسده على الكرسي فطقطق ظهره ويداه عدة مرات. إن تحية الليل لا تشبه تحية الصباح إنها، ضمنياً تقول شيء آخر. هناك بائع للسجائر، يعمل لوقت متأخر، يجلس في الطريق الرئيسي قرب مدخل الحي الذي أسكن فيه، كل يوم أقف أمامه وأحييه يرد على بتحية مختصرة بينما يناولني سجائري المعهودة، إننا بطريقة أو بأخرى نقول أن هنالك شيء بيننا، نحن في علاقة ما، حتى وان كانت هذه العلاقة تقتصر على معرفته لنوع سجائري المفضلة.

انزلقت الحافلة على الطريق الاسفلتي، وانزلق جسدي معها حتى نسيته. روحي كانت تنزلق على طريق آخر طريق أكثر وعورة. كانت رحلة جسدي بالحافلة ناعمة، كانت واضحة ومحددة، صعدت من مكان ما وسأنزل في مكان آخر. بينما رحلة روحي كانت شاقة، تافهة وعبثية. كنت أحاول جاهداً التشبث بذكرى صغيرة تطفو هنا وهناك في سديم الوعي الذي تبحر فيه روحي دون هدى ودون أدني علامة.  سديم بلا شطآن، بلا محطات نستطيع الركوب أو النزول منها، بلا خط سير معين، بلا اتجاه، وبلا اسفلت.

صارعت الدفة طويلاً، ناضلت لأروض دفق الفكر الهادر كربان تمرد عليه بحارته إبان عاصفة. وفي اللحظة التي كدت فيها أنجح في مسعاي تيقظت كل حواسي فجأة كحكم ينهي المباراة في اللحظة التي يشعر فيها أن فريقه المفضل على وشك ان يهزم كمن لا يلجأ للقانون إلا عندما يستشعر ضعف حيلته. انتبهت فجأة وأخذت ألتفت لكلا الجانبين وأشخص إلى الأمام محاولاً معرفة ان كنت قد أدركت وجهتي أم لا. التفت اليه لأقول شيئاً ما ولكن، ولدهشتي الكبيرة، لم أجد أحد بجواري. خفق قلبي لثانية ولكن عندما شخصت ببصري للأمام مرة اخرى لم يكن هناك أي شخص. حتى مقعد السائق كان خاوياً. التفت الى الخلف مذعوراً ولكن لم يكن هناك أي أحد خلفي ايضاً.

وقف بصعوبة على قدماي المرتعشتان، ثم، كسكران في آخر الليل، مشيت ناحية الأمام مترنحاً اميل بجسدي لليمين تارة ولليسار تارة ممسكاً بالمقاعد التي على الجانبين محاولاً حفظ توازني. وعندما تمكنت في النهاية من الوصول الى مقعد السائق والارتماء عليه صعقت من هول مفاجأة جديدة، لم يكن هنالك شيء هناك. لا مقود ولا دواسات ولا ناقل للحركة. كنت مرعوباً في تلك اللحظة مثل تلميذ فتح حقيبته فلم يجد بها الكراسة التي تخص أكثر المدرسين قسوة. قمت من المقعد بسرعة جريت ناحية الباب محاولاً القفز منه والهرب بأي وسيلة كانت من زحف العدم العنيد هذا ولكن، ياللحسرة، لم يكن هنالك من باب. أخذت اجري بين النوافذ هنا وهناك وأنا اتحسس جسد الحافلة كمن وجد نفسه فجأة في ظلام دامس دون سابق انذار. ولكن النوافذ كلها كانت تختفي أمام ناظري. أربعة نوافذ على كلا الجانبين اختفت مخلفة وراءها لا شيء وكأنها لم تكن قط. في هذه اللحظة انهرت تماماً وقد بدأت أدرك اي فخ قد سقط فيه وتهاويت، كمراهقة باغتها فارس احلامها، على أقرب مقعد لي، ولكنني سقطت على أرضية الحافلة بعنف، وأثناء سقطتي تلك كنت اشاهد مقاعد الحافلة تختفي كلها مقعداً مقعداً، أربعة وعشرون مقعد اختفوا أمامي في برهة خاطفة كأنهم لا شيء. كان الظلام قد أحال الحافلة إلى صندوق من العتمة، بعد اختفاء الضوء أيضاً. كنت أجلس داخل تابوتي هذا، تابوتي الفارغ كعقل راهب بوذي يتأمل. الغريب في الأمر أنني كنت أرى نفسي جيداً وكأن نقطة من الضوء مسلطة علي تطاردني أينما ذهبت كممثل في مسرح. رقدت هناك على أرضية الحافلة أرفع يدي أمام وجهي كل مرة لأتأمل فيها ثم أعيدها إلى مكانها بجانبي مرة اخرى. رقدت هناك من دون أدني احساس، من دون أي معرفة، فقط بسؤال صغير يتقافز بعقلي:

هل يتحرك هذا الصندوق الغريب أم هو ساكن تماماً؟!

 

محمد جمال

كاتب ومترجم من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى