ثمار

أحلام في بلاد الشمس “الرواية الثقافية”

احلام في بلاد الشمس

هنالك الرواية الوجودية، التي تفتح نفسها على الأسئلة الكبرى كمعنى الحياة، والموت إلخ… وهنالك الرواية التاريخية التي تقارب وتحول قراءة جديدة لأحداث من الماضي، وروايات غنائية تكشف عن هواجس وهموم الذات إلخ…، ويمكن أن تمضي التصنيفات بهذه الطريقة إلى مالا نهاية ولو طرأت بعض التحفظات بهذا الخصوص، فمن الصعب أن تحصر العمل (الروائي) وتسجنه داخل تعريف محدد ونهائي، لأن ذلك يكون بمثابة فرض قراءة وحيدة للعمل الإبداعي وهذا غير صحيح، فالنص ومنذ لحظة نشره فهو في حالة تشكُل وتمظهر مستمر. ولكن لنستخدم إجرائياً فقط هذا الوصف الابتدائي –كمدخل مناسب لرواية الكاتب أبكر آدم إسماعيل –أحلام في بلاد الشمس.

كفرضية عمل، بلغة أمبرتو إيكو ، يمكننا أن ننظر إلى هذا العمل من ناحية كونه ( وثيقة ثقافية) أو ( دراسة في الأنثروبولوجيا الثقافية)، وهذا بالتأكيد ليس بالضد أو بتجاوز كونها (نص إبداعي) يمتلك جمالياته الخاصة أو تلك التي يشترك فيها مع جماليات الكتابة السردية الأخرى. فهي مجرد قراءة واحدة، وليست وحيدة بالطبع، بل محاولة قراءة هذا العمل من زاوية (قارئ)مُعين وهي بالتالي تشتغل بإتجاه (تكثير المعني) وليس إحتكاره وإدعاءه .

تحوم الرواية حول تيمات أساسية ( الحصاد- الحياة الاجتماعية – الطبيعة الخ..)، فنقرأ في مستهل الرواية وصفاً رائعاً للمساء في ذلك المكان :(عاد ساعتها –الرعاة، وكان جُلهم من الصبيان والصبيات، يسوقون أغنامهم وأبقارهم ، ويمتطي البطر منهم صهوات حميرهم ويغنون،  وكانت القُمريات يُغنين نشيداً مسائياً يرجع صداهُ الجبل والغابة والسهل …لكأنما الكون يؤدي كورال حب أزلي.). وهي صورة مُقتطعة من الأمسيات الكُردفانية بكل ماتحمله من بساطة وإحتفال بالحياة (الجَمعية) وسحر الطبيعة و الفرح.  هذه الحياة البكر، بكل بساطتها وتعقيداتها وتنظيمها ومفارقاتها وتمتدُ صفحات الرواية لتشير إلى العديد من المشاهد التي تذهب في هذا الإتجاه، (الفتيات يدققن بأعمدتهنَّ على الفنادق، كأنما يقصدن هرمنة العالم).

وتكشف الرواية عن أشكال الحياة الثقافية-الروحية لهذه المجتمعات من خلال مُفردات متوارثة  ومعيوشة بإخلاص مثل سبر اللوبيا – طقوس الحصاد – النذور – صخرة المانديو – أرواح الأجداد – الشكلوته وغيرها من مجالات الخيال الجمعي . لتضعنا أمام صورة دقيقة واضحة عن : كيف يعيش الناس حياتهم في هذا المكان.

وتجدُر الإشارة هنا إلى أن (المكان)، والذي يبدو هنا وكأنه ( كردفاني) إلاَّ أنه يمكن أن يكون مشابهاً لأمكنة أخرى كثيرة في أنحاء السودان المُختلفة، فمثلاً تتشابه طقوس الحصاد والنذور وإيقاع الحياة بشكل عام مع مجتمعات محلية عديدة في النيل الأزرق وفي دارفور . وليس الطبيعة فقط هي التي تفرض هذه التشابهات، بل (وحدة الروح) الإنسانية في تعاطيها وتفاعلها مع المكان، هي التي توفر مثل هذه التماثلات.

ولا نكون قد ذهبنا بعيداً إذا قلنا بالوحدة الجوهرية للقسمات الثقافية للعديد من الثقافات المنتشرة في الأرض الأفريقية، وهي بذلك تشترك في ( أصلها) مع ثقافات أفريقية غير سودانية.

هذا النوع من الكتابة السردية، والذي اشرنا إليه ( الرواية الثقافية) ليس جديداً على كل حال، فرواية ( الاشياء تتداعي ) للكاتب النيجيري تشينوا تشيبي يمكن أن تكون  تدشيناً ومباركة إبداعية لهذا اللون الأدبي في أفريقيا . حيث يعتبرها الأوربيون والأمريكان كأهم (وثيقة أنثروبولوجية) تصف حياة مُجتمع الأيبو – قبائل في نيجريا- بصورة دقيقة ومُفصلة . وتعكس نمط حياتهم وطريقة تفكيرهم وطقوسهم وأساطيرهم وعاداتهم وغيره . وإذا إعتبرنا أن الكاتب تشينوا تشبيبي هو – أبو الأدب الأفريقي- فإنه بالتالي يكون هذا الشكل من الكتابة إعلاناً وإبرازاً للرواية الأفريقية، كصوت جديد مُختلف، يُغْني ويضيف  شخصيته المميزة  في عالم الكتابة السردية.

الجانب الذي أغفلته ( رواية أحلام في بلاد الشمس) هو كيفية تقديم هذا المُجتمع الثقافي، بمعنى أنها قدمته بشكل (سُكوني)، و(مُنفصل) عن العالم، عن الزمان والتأريخ. فلانجد مثلاً أي إشارة للعلاقة مع الآخر والتأريخ، وكأنما نهّوم في لحظة شاعرية (خارج الزمان)، ففي تقديري أن نجاح رواية  (الأشياء تتداعي) ، كان في تقديمها لمجتمع -ثقافة الإ يبو- في إشتباكه وصراعه مع الآخر، المستعمر الإنجليزي بسياسته وإنجيله ومبشريه وإحتقاره للثقافات المحلية والإنسان. مما أكسبها حيوية وإمتدادات جديدة مكَّنت من قدرتها على سبر أغوار إنسان الإيبو فيما يخص التفكير والتعاطي مع الحياة . فمعرفة الكائن بشكل أوضح تكون من خلال التحديَّات والصراعات والألم والفشل والنجاحات لأنها الطريقة المثالية التي تخبرنا : كيف تعمل تلك الثقافة.

ولكن الشيء الأوضح كان في تحقيق الإنسجام المُدهش بين اللغة والموضوع، الكلمات والأشياء وهي مسألة في غاية الأهمية، وقد وُفق إلى سبيلها الكاتب أبكر آدم إسماعيل بمهارة عالية. فنلاحظ كلمات مثل دناقر، كنفوس، درنقل، الريكة وغيرها وهي كلمات سودانية بحتة، أنتجها تجربة الإنسان في تفاعله مع الحياة والطبيعة،  كما إنه إستخدم تعبيرات وأساليب لا مفر من إستخدامها، وهي تأتي بصيغة مختلفة عن الطريقة العربية في التعبير مثل : وأخذت تتمحرك…، المقد م الموصل ، ألقى الناس التحية على أنفسهم وأتوا ليفكوا ريقهم ويشربوا لبن الصباح بعد أن تمموا على حيواناتهم ، وغيرها من الجمل الأخرى.

 وقد يأتي من يقول بأنها ( ُجمَل عامية)، إلاَّ أن الأمر يتعدى هذه المسألة، فهي تتعلق بخصوصية (الإستعمال السوداني للغة العربية)، فالكاتب السوداني يفكِّر بلغته الأم أو باللغة العامية التي هى خليط من اللغات السودانية والعربية، وبالتالي فإنه لايفكر باللغة العربية التي يكتب بها الشعر والروايات ! ، إن إستخدام الكاتب السوداني الإضطراري للغة العربية في الكتابة، لايجعله يفكر باللغة العربية – الأصلية- وبالتالي تتم تلك الخيانات الجميلة والمحبَّذة لسياق النحو والصرف الجاهلي . أو بالأحرى الوفاء للذات – في تميزها وخصوصيتها وإستقلاليتها.

شيئاً أخيراً لزم توضيحه وهو كثرة الأخطاء المطبعية – في الطبعة الأولى- القاهرة 2001م  وهو أمر لا نسأل عنه (النص) ولا (الكاتب)، وإنما الناشر، ولكنه شوّه النسخة المكتوبة  بصورة جعلت عملية القراءة مُرهقة جداً، وإن لم يُنقص من قيمة العمل شيئاً في نظري، وأخيراً سأضيف  هذا المقطع الذي يجسد صورة حيَّة يمكن أن تكون مفتاحية للدخول إلى هذا الفضاء السردي الرائع : (كان ضوء القمر الداخل من الباب قد تقلَّص أكثر، وضعت الجدة بعض الحطب على النار وهببتها فتوقدت وأضاءت جنبات البيت، وعادت (تمة) لتواصل رحكها وهي باركةٌ على ركبتيها بعد أن مسحت مُرحاكتها والحجر المتحرك، وبدأت تغني أغنيات إكسير الجبل، الذي يحقق الأحلام، وأغنيات أخرى عن أفراح قلوب تلاقت بعد غيبة، وعن شيء  محزن وغامض إسمه (الغربة).

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى