ثمار

سماوي

منعم

الكتابة تُشبع، ولا أريد أن أكون نبياً 

“كتابة على وجه ماريا السماوي” – لمحفوظ بشرى –

ما بعد السماوي.. قبل الكتابة:

لك حق الصعود تنازلياً، مشروعية تسلق الساق، ساق العتبة الأم، ساق ماريا المرموق كحبة قمحٍ جائعة، ككاهنٍ يدمن التقلص، التقلُص سِمة لا حجمية، تضمين وتدوير، زج الإيماء في اللا إيماء، الانزلاق لأسفل، الأسفل كعمقٍ ولا ظن حول كونه قاع. لك حق التمشيط والفعل وفق ما تسميه النافذة الأب: [كتابة على وجه ماريا السماوي]، وسياجها أيضاً – أقصى يمين ويسار العنوان:[كتابة/ السماوي].

للسياج أعلاه حواف مُمتنة بقابلية لمن لا قابلية له لإزاحة الغطاء عن المنزلق في الداخل ببياضٍ لا تمام له. فضولك وحقك من البياض الكامل لتفج بهما مداخل النص.

للتحديق في وجه ماريا ثقل وسِعة، وللإمعان أقدام حافية تتحرش بأطراف المدخل حالما تلعق ما علق على صفق المِتن، أو قل، تحرشك بالمنجز الشبيه بحالة ابتهاج بديمومة الحفر، واحتفاء بـِ(لا تسيُد لمعنى المعنى)، فكلمة (كتابة) جنزير حبس لأشياء لا جدران لها ولا شبابيك. الكتابة بهتان بشري مقدس، غرزة أولى في صدر الغلاف، فِعل وانشغال واشتغال. الكتابة لا تصف صفحات الماء غير الآمنة – كما تفعل ماريا – لا تثبت على حال وفق علاقتها بفوتونات التقويل والتطريز، خارجة عن إطار الكي بورد الذي نعرف. الكتابة تُشبع وأنا لا أريد أن أكون نبياً: [لم أكن أرغب أن أشبع حاجة أحدهم لأن يكون نبياً].

ما يختمر في وجه ماريا ليس بثاً مباشر، لا فواصل إعلانية، لا راعٍ لملامح تتناثر بالانشطار، الانشطار طقس تناسلي وبوابة للمواراة والتفويج. ماريا لا تيمُن فيها بأحد ولا بها وفق ما أراه كمتسلل ضال، ماريا لا تتيمن حتى بشاشات العرض.

الكتابة ليست كما يقال عنها: أن تدلق بحرص نتوءاتك التي تعرف في سقفٍ واحد مثقوب المسام، وماريا ليست حالة خشبية تلتف حول زمام طوق نجاة بعينه، قل عنها: حالة اندساس لا تأبه لكيف تمد لسانها، حالة إخفاء لسياجها الأول – كتابة – لننشل عبرها عنواننا الذي نريد: [على وجه ماريا السماوي].

حالة نسف إذاً لـ(كتابة)! النسف لا رِحم له ولا صلة بالسلخ. النسف: خنق لتسريبات ما هو مرتجى ومتوقع. النسف: سلحفائية ساحرة لبدايات ناعمة، جسرٌ بين المُسمى ومحتواه.

حُربائية ما يدور في وجه ماريا أمرٌ مطلق، لذا اللا ثابت في تحريك العتبة في كل الجهات مفعول به ماتع، فعل مائع لا يخلف وعده مع الجريان، فلتصطف القراءة عند رصيف نزق لا حواف له، ولنا أن نلتصق بما هو لاصق في العنونة أو نشرد عنها ونتشرد:

–        [كتابة على وجه ماريا السماوي- محفوظ بشرى- نصوص]

–        [على وجه ماريا السماوي- محفوظ بشرى- نصوص]

–        [كتابة على وجه ماريا- محفوظ بشرى- نصوص]

–        [على وجه ماريا- محفوظ بشرى- نصوص]

–        [على وجهها- محفوظ بشرى- نصوص]

على وجهها: عنوان لا عِرفان فيه، لا ينتظر رداً لجميلٍ حاضر أو مفترض، لا تلميح معلن، ولا نرتاد نحن العلن وإن كان عارياً في مرقصه.

على وجهها: قطرة ماء لا تراهن على السماوي كسبورة تنتظر حجراً جيرياً ملوناً ليخط كِلماته، لا سيما أن السماوي منزلة بصرية ورائحة لا تحققان سرابية وجهها الحقيقي.

على وجهها: فتات صخرة تتخلى عن ماريا نفسها كحراك زمني ومكاني عاكس، فلتغب ماريا إذاً أو تتوارى وبعدها البؤري خلفها، ما دامت ماريا إعلاء لبوابةٍ ما، ورفع لسقف مُرتجى، وليحضر ما بين (على) و(وجهها) من ظلال ومرايا.

شيءٌ ما يوجع الحوار ويصقله:

ككائنات دماغية منبسطة الخلايا وذات دفع رباعي مرتد تتسربل حوارات المتن بشكل غير نمطي وغير معد سلفاً، تمتهن التقويل الإسقاطي: “قال، قلت وقالت”. تقويل مكتظ بالبداهة والطيات، له تقسيماته الإيحائية الفالتة. حوارات غير موثوق بها، تنصرف أحياناً من الواحد المتعدد إلى المتعدد الواحد، كما في – سلمى وأديان أخرى – بين: (أنا، وجه مشطور إلى قسمين، رجل صغير في عقلي، صديق غريب، سلمى، الأفكار الشريرة المتسكعة، وطفل يتلصص من النافذة):

[قالت سلمى: وداعاً، فقلت: وداعاً، وقال الرجل الصغير في عقلي: إنني لست كفؤاً لمقارعة الصديق الغريب].

مشعُوفٌ النص بمشهدة تشظي الذات وانشطارها كحامل للحوار: الرجل الصغير في عقلي، والأفكار الشريرة المتسكعة -، حيث لا توجه الأنا قولها وتناثرها للآخر، تُشغل انشراخاتها بانحناءات غير مكتفية بانحناءتها داخل النص:

[قالت الأفكار الشريرة المتسكعة في طرف عيني: إن عليّ إلقاء الصديق الغريب من النافذة بيدين من غربة. قال: عليّ أن أكون قوياً. قال عقلي: إن عليّ أن أتفاءل. فقال لي: إن عليّ أن أتفاءل].

اللاهُيام وسادة للـ(لا نعاس)، وسادة تُبدل فراشها من نص لآخر. تلتقط مسامات حوارها النحيل، ولا ترهنه إلا لبعد مسافي يدمن التمدد، حيث لا رهان لوحدانية المدلول أو تعويله تعويلاً راسخاً. سيناريو ماريا خيانة نبيلة لزفير لم يسبقه دخول، دخول يصنع من الحاجب منحنىً لا نقاط فيه غير نقاطه العظمى:

 [يصيب القلق الكلمات التي ندور حولها لبرهات ثم ننكص،… : ما الشيء اللذيذ؟

أقول الاغتراب

والوصول؟

موت

اقترب إذن

لا تقتليني]

تمعن هذا النشوء والتدوير، الكلام عندما يصبح خارج الإطار الذي نعرف لا غلاف يحويه، يقفز إلى المقعد الذي أمامه، يشن حملته على الأقواس التي يستدعيها، يسرد ما يشبه التبرير ولا تبرير، يفصل ذاته ويغرقها في ماء الظن، ماء لا يصلح لغير التنظيف، مياه ليست آسنة، ولن تنزلق فيها ما لم تكن قارئاً مُسرف الظن. الظن: أن تقول غير ما تود قوله، أن تُبهر دليلك اللغوي وتُعرِّيه:

قالت سلمى: إنها بعيدة الآن. (كانت تريدني أن أظل متذكراً)

قالت سلمى: إنها صديقتي.  (كانت تريد أن تراقبني قليلاً بعد)

قالت سلمى: إنها بخير.  (كانت تريدني ألا أكون بخير)

قالت سلمى: إنني قاسٍ. (كانت تريدني أن أكون قاسياً).

احجز في الحوار ما شئت ما دمت مثقوب المشيئة، وليعبُر من شاء له العبور. فكلاهما – الحجز والعبور – بين قولين وأكثر، كلاهما مُتضاعف ومطروح عنهما القصدية وتهافتها. اللاقصدية هي: ما هو قابع بين اللفظ وذات اللفظ دون تمجيد، تصور وظل، فاللغة مسكن الإنسان وليس العكس – كما يدعي هايدجر.

[“هارموني”، تلك هي الكلمة التي تناسبني في ذلك الوقت. قالت: جميل، قلت: بعض الأشياء تبدو جميلة أول مرة، قالت: بعض الأشياء تبدو جميلة أول مرة، قلت: جميل]

ولأن لماريا التفاف مُستلذٌّ تتأرجح مازوشية الصداقة بأخيها كحبل مشرور عند الغروب:

“أخت الصديق محرمة”، هكذا يعاد إنتاجها في كل مرة كتراكم لدالٍ مصهور بين قيمتين- مواء الرغبة وصهيل ما هو إنساني -.

“أخت الصديق محرمة”، سياج من قش وحصير، حِرمان وفتوَنة وحيرة عند المقدرة، لهج واشتهاء، حالة من حالات التفليك أو قل المنع، رهق لافتقار جاذب، ضغط اسموزي متعال هنا ومتواطئ هناك. وماريا أعلم.

[الشاب منا لا يحتاج إلا أن يعرف كيف يقرأ عيني فتاة جميلة، قلت: ولكنها جميلة، تظن أمي أنني أفهم بمعدتي، ويظن خالي أن الشاي يحمل سراً، وأظن أنا أن لا فائدة طالما أخت الصديق محرمة].

[تناديني أمي لشرب الحليب مع الغسق، أسألها: لماذا يأتي الغريب دائماً في الصباح؟ فتحكي لي عن أبي عندما كان صبياً كثير المشاكل]

[أسأل أمي: هل يكلم الرجل الغريب أحداً؟ فتقول: ستكبر يوماً]

[قلت لأمي: لماذا ينمو للرجل الغريب وجه؟ قالت أمي: نحن وحيدون].

ما بين الأنا التي في النص والأخت الصغيرة والأم تناظر بنيويٌّ يُشبه الوصاية والتسليك. تبدو الأم كشاشة متسعة لعرض تعريجات مدلول السؤال، بينما الأخت كائن نوراني سماوي الرائحة يكتفي بمشوّقات تقاطعاته، والأنا تظل تسأل أمها وتجيب أختها الصغيرة مرتدية لِباس الحذر واللافضول:

[سألت أمي: ما اسم ظل الرجل الغريب؟ قالت: ستفهم بعد وقت قصير]

[أقول لأمي: هل كان لأبي ظل؟ تقول أمي: كان ظل أبيك طويل جداً]

[تسألني أختي الصغيرة: هل جاء من الغرب، أجيبها: إذا رأيته، فاحذري ظله]

[قلت لأختي الصغيرة: لا يكون ظل الرجل الغريب طويلاً إلا عندما تذهب الشمس إلى الغرب]

[قالت أختي الصغيرة: جاء الرجل الغريب إلى بيتنا، قالت أمي: مات أبوك شاباً]

المسار صوب أخت الصديق ليس هو جهة أختي الصغيرة، فكلاهما خلاء وانزلاق تحت وطأة ثقل المدلول. ففي الأولى انفلات واهتياج تبريري تفعل عبره الأشياء فعلها بالكلمات، بينما في الثانية اللغة مسكنٌ للحوار وليس العكس، وجسرٌ للـ(لا إفراط) واحتفاء بالأصل الشفاهي للحوار.

[تقول أختي الصغيرة: الرجل الغريب لمس رأسي، أقول: احذري أن يترك ظله عليك، تقول أمي: بدأتَ تكبر].

[قالت أختي الصغيرة: أحياناً يكون الرجل الغريب ودوداً، قلت: يكون الودود غريباً كذلك].

[تقول أختي الصغيرة: ألا يزال الرجل الغريب غريباً؟ أقول: ستكبرين يوماً ما].

* كاتب وروائي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى