ثمار

سِفْرُ الفُرْسَان

عبدالعزيز بركه

الفرسان السبعون من شعوبٍ تحتفي بالرجل حين يكون نحيفًا، ناشفًا كالعود، قويًّا وشجاعًا، ومحبًّا للنساء، ومُقَدِّرًا ومدركًا لقوَّتهن الساحرة في تحريك عظائم الأحداث في المجتمع، والرجل الذي لا يخشى النساء ليس باستطاعته أن يصنع مجدًا محترمًا يخصُّه، النساء هنَّ اللاتي يقفن عند بوابة المجد، يُدخلن من شئن، ويحرمن من شئن، وليس ذلكَ بقوَّتهن ولكن بكامل ضعفهن، إنهن يستثمرن الضعف لا أكثر، وما المخاطر التي يسير إليها الرجال السُّمر النحاف ذوو القامات الناشفة السبعون، إلَّا بإيحاءٍ من النساء.

عندما عبر الفرسان السبعون «نهر العرب»، كان الليل قد قضى ثلثيه، والقمر يطلُّ بوجهه الأسمر بين فروع أوراق أشجار «المهوقني» العملاقة، كرغيفٍ ضخمٍ طازجٍ مأكول نصفه. كانوا جميعًا على ظهور الخيل، يمتشقون أسلحةً ناريةً خفيفة، وهي رشاشاتٌ آليةٌ من طراز «كلاشنكوف»، ما عدا «جبريل»، فكان يحمل بندقيةً يسمِّيها الأهالي «بَاندُقُل»، وهي نصفُ صناعةٍ محلية، وكان يُظَنُّ أنها الأفضل والأضمن، على الرغم من أنها لا تُشحن إلَّا بطلقةٍ واحدةٍ فقط ثمَّ يُعاد تعبئتها مرةً أخرى بعد كلِّ استعمال، ولكن طلقتها الواحدة هذه لا تخطئ الهدف مُطلقًا، وإنها تدمِّره تدميرًا تامًّا، بل يُمكنها قتل فيلٍ كبيرٍ إذا أصابته تحت إحدى أذنيه. عيبها الوحيد هو أن مدى الإصابة المؤثِّرة لديها لا يتعدَّى الأربعين مترًا، ورثها عن جده «العمدة أحمد» المنشئ الأول لقرية «أولاد أحمد»، وهو قد أعطى نفسه لقب العمودية دون تعيين أو تزكية من سُلطات الإنجليز أو النظارة الشعبية. اكتسبها بفرسانه وقوة شكيمته وبنادق البَاندُقُل الشرسة، لذلك انتهت عُموديته بموته، ولم يكن أحدٌ من أحفاده بالجرأة والقوة الكافية التي تمكِّنه من الاستمرار في تلكَ العمودية المُدَّعاة. كان فارسًا مشهورًا في كلِّ أنحاء «جنوب كردفان»، بل إن النساء غنين لفروسيته وشجاعته فيما وراء «بابنوسة» و«جنوب دارفور»، وقد تردَّد اسمه في أغنيات التُّمْتُم بمدينة «كوستي» في أوائل القرن العشرين.

كان الفرسان ينشِدون مرعى أبقار قبيلة «الدينكا»، هم لا يحبِّذون أية معركةٍ ولا يرغبون في الحرب أو الدخول في مواجهةٍ مع مسلحين، لأنهم يريدون أن يعودوا في ذات عددهم، لأن كلَّ معركة بها خسائر بشرية، حتى تلكَ التي ينتصرون فيها، إنهم لا يرغبون في أن يعودوا ليقيموا مأتمًا أو مآتمَ، ولا يدري كلُّ واحد فيهم هل سيكون ذلكَ مأتمه هو أمْ مأتم غيره؟ كانوا يتصرَّفون كلصوصٍ جُبناء، أكثر من كونهم فرسانًا مقاتلين، وما دفعهم لغزوتهم هذه سوى الفقر الشديد الذي أعقب نفوق أبقارهم وانقطاع سُبُل العودة على تلكَ التي على قيد الحياة منها إلى «جنوب كردفان» في رحلة الصيف جنوبًا، إثر المعارك الدائرة هنالكَ بين قوات الحركة الشعبية والحكومة المركزية، وفقدانهم الأمل تمامًا في استردادها، فمن أجل حقِّ الحياة وحده سيُغِيرون على جيرانهم ويأخذون بعضًا من ماشيتهم، سيستخدمون ألبانها ولحومها وجلودها وعظامها، وثمن ما يُؤخذ إلى سُوق «المُجْلَد» منها، في مقاومة الموت والجوع، إنها سُلفة غير مُستردة، ودونها المُهج.

الفرسان السبعون من شعوبٍ تحتفي بالرجل حين يكون نحيفًا، ناشفًا كالعود، قويًّا وشجاعًا، ومحبًّا للنساء، ومُقَدِّرًا ومدركًا لقوَّتهن الساحرة في تحريك عظائم الأحداث في المجتمع، والرجل الذي لا يخشى النساء ليس باستطاعته أن يصنع مجدًا محترمًا يخصُّه، النساء هنَّ اللاتي يقفن عند بوابة المجد، يُدخلن من شئن، ويحرمن من شئن، وليس ذلكَ بقوَّتهن ولكن بكامل ضعفهن، إنهن يستثمرن الضعف لا أكثر، وما المخاطر التي يسير إليها الرجال السُّمر النحاف ذوو القامات الناشفة السبعون، إلَّا بإيحاءٍ من النساء.

فأغنيةٌ غنَّتها الحَكَّامَةُ «سعدية بت أبشوك»، قالت فيها ضمن ما قالت، بلغةٍ عربيةٍ محليةٍ تعني أن «الرجال في القرية أصبحوا بدناء» وأنها «ستخضِّب أرجلهم بالحناء الجيدة.» يفهم الجميع ما لم تقله في الأغنية ولا تقصِد غيره: إن الرجال لم يذهبوا في طلب أبقارهم المُستبية، وتلكَ التي تقطَّعت بها السُّبُل في «جنوب كردفان»، وإنهم أيضًا لم يستعيضوا عنها بأبقار جيرانهم «الدينكا»؛ الأبقار ذوات القرون الطويلة، التي يحرسها فتيان القبيلة الشجعان بحرابهم السامَّة وفؤوسهم الحادة، وتركوا أطفالهم ونساءهم ضحايا الجوع والفاقة.

غنَّتها في زواج ابنتها «أمُّونَة»، بإيقاعٍ محليٍّ لذيذٍ يسمونه «الشاشاي»، وكاد أن يرقص عليه الفتيان ويَحُكُّوا بكلماته حناجرهم وكأنهم ثيران هائجة، لكنهم عندما أدركوا معانيه القاسية المُرَّة، تلكَ المعاني الدامية، كفُّوا عن الرقص، عضُّوا أصابعهم غضبًا، وفي الصباح ركبوا الأفراس واتجهوا نحو «نهر العرب»، ليصنعوا أمجادهم ويحتفظوا بسيرةٍ عطرة. هذا هو الخيار السهل والأهداف التي يعرفون كيف يتعاملون معها مُنذ قرنٍ مضى، وكان بإمكانهم أن يتجهوا شمالًا حيث عطبت الطرق بأبقارهم بين جيش الحكومة المركزية وجنود ومليشيات النُّوبة والبَقَّارَة بقيادة رجالات الحركة الشعبية. وتلكَ كانت سبيلًا يعشعش الموت في عرصاتها. وهم على كلِّ حالٍ مدنيون، والصراع الذي بينهم وبين القبائل المجاورة هو صراعٌ مدنيٌّ بحتٌ من أجل الحياة والسلام، ولو أنه في كثيرٍ من الأحيان يكون صراعًا مسلحًا ودمويًّا. وليسوا دعاة حربٍ وليسوا محترفي قتال، ولا خبرة عسكرية لهم أو حاجة في خوض حربٍ خاسرةٍ مع أحد الجيشين، بينما هم يَشُكُّون في أن أبقارهم ما زالت حيةً إلى تلكَ اللحظة، فالجيوش المحاربة مغرمةٌ بأكل اللحوم، وخاصَّةً تلكَ السائبة مثل أبقارهم التائهة الحزينة.

كانت الأبقار ما زالت في زرائبها الكبيرة «اللواك»، وحولها العشب مشتعلًا ويصدر دخانًا كثيفًا، ليطرد الذباب المضرَّ بصحتها والمؤذي أيضًا للرعاة. كان الرعاةُ عراةً تمامًا، تلتفُّ حول خصورهم النحيفة تمائم من الخرز الملون، وعلى معاصمهم حِلَقٌ من النحاس الأصفر، ولدى بعضهم مصنوعة من شعر ذيل الزرافى. كانت أجسادهم النحيلة الطويلة المصقولة الرشيقة مغطاةً بطبقةٍ من الرماد، وهو كساءٌ يقيهم لسعات الحشرات الصغيرة وذباب البقر اللئيم، وجوههم لا يظهر منها سوى العيون والأفواه وفتحات الأنوف الكبيرة، فهي مخفيةٌ أيضًا تحت قناع الرماد السميك، يمتشقون حرابًا مطلية صفائحها بسمِّ الثعبان، ولديهم رشاشٌ آليٌّ واحدٌ ماركة «كلاشنكوف»، ولكن ليس به من الذخيرة سوى طلقتين، ينتظرون لحين مرور مليشيات الجيش الشعبيِّ بأراضيهم، وقد يتكرَّمون عليهم ببعض الذخيرة مقابل عجلٍ أو بعض اللبن الطازج، وأحيانًا دون مقابل، إذا وجدوا من لهم به صلة قرابة، أو كان من قريتهم، أو تربطهم به صلة نسبٍ ولو بعيد.

قضوا ليلة البارحة ساهرين في صراعٍ مريرٍ مع أسد الأبقار الأحمر الذي كان يصرُّ على أن ينال وجبة عشائه من موائدهم بالذات. كان جائعًا. ليس من عادتهم إطلاق الرصاص على الحيوانات المفترسة، إنهم يتشاءمون من ذلك، لذا استخدموا الذخيرة في تخويفه وإبعاده عن مواقع حيواناتهم، ولكن الحيوان المفترس لم يرتعب لذلك، فقد كان يخشى الحربة أكثر؛ لذا دخل الشبان معه في معركةٍ صغيرةٍ أصابت أسد الأبقار بجراحٍ بالغةٍ جعلته يرغب عن أبقارهم ويبحث عن موائدَ أسهل منالًا.

لم تكن المنازل بعيدةً عن «اللواك»، ففي الصيف دائمًا ما تكون الأبقار قريبةً من المنازل التي هي قريبةٌ من مصادر المياه، أمَّا في الخريف فيهربون بها إلى المناطق العالية الأكثر جفافًا، تجنبًا للحشرات الطائرة والزاحفة، حيث تتكاثر في العُشب ومستنقعات المياه الراكدة.

الرعاة هم خمسة من الشبان، تقريبًا جميعهم في عمر واحد، الوشم الذي على معاصمهم يدلُّ على أنهم في هذا الصيف يبلغون العشرين، وهم أيضًا من أسرةٍ واحدةٍ كبيرةٍ ثرية، وأبٍ واحدٍ ولكن أمهاتٍ مختلفاتٍ ينتمين لأسرٍ كبيرةٍ أخرى، لا تربطها صلة قرابةٍ مباشرةٍ مع الأب. عندما نبحت كلابهم الشرسة، حيث يشاع أن أمهاتها من الذئاب، عرف الشبان أن هنالكَ أمرًا جللًا في طريقه إليهم، وبحسِّهم البدويِّ وأجهزة إنذارهم المبكر التي وهبتهم إيَّاها الطبيعة، أرسلوا أحدهم ليبلغ القرية القريبة بأن هنالكَ خطرًا في الطريق إليهم، وليدعموهم بالرجال، واستعدَّ البقية للذود عن المال. وعندما اشتدَّ نُباح الكلاب، صعد الشبان على هامات الأشجار يستطلعون الأمر، واستطاع كلُّ واحدٍ منهم أن يرى الفرسان السبعين يمتطون خيولهم ويحملون بنادقهم في هيئة استعدادٍ تامٍّ لإطلاق الرصاص، فما كان منهم إلا أن أطلقوا سوقهم الخفيفة للريح في اتجاه القرية، تاركين الأبقار تحيط بها الكلاب. كانوا موقنين بأن العرب لا يتردَّدون في إطلاق النار عليهم وإردائهم قتلى، فعلوا ذلكَ مرارًا وتكرارًا، والذكريات المؤلمة أشجارٌ تنمو وتُورق مع الزمن، وهي كالأبقار تتوارثها الأجيال القادمة، وهي كالأغنيات مهما أوغلت في القدم لا بدَّ أن يأتي من يردِّدها ويعيدها لمجدها، والذين يُقْتَلون يبقون للأبد في جُرح القبيلة والمكان جبالًا شامخةً من الذكرى المُدماة بشهية ثاراتٍ كامنةٍ في طيِّ الوقت الذي قد يحين.

كانت الكلاب الشرسة شرسةً جدًّا، تنبح مذعورة، أمَّا الأبقار التي أحسَّت بالخطر الذي يحيق بها، وفوجئت بأفواج الغرباء على الأفراس، وهي أيضًا مخلوقات أخرى غريبةٌ عليها، ففزعت وتبعثرت في المكان، كما هرول غالبيتها نحو القرية.

ما نسميه بالقرية هو مبانٍ صغيرةٌ منتشرةٌ في مساحة واسعة مبنية من التربة الحمراء الطينية الصمغية المتماسكة، البامبو السميك والرفيع، الأعشاب الموسمية، وبعض أخشاب المهوقني والتكِّ القوية. الغرف ذات سقوف مخروطية لتسهِّل سقوط المياه عن السقوف. ولكن في وسط القرية توجد مدرسةٌ صغيرةٌ مبنيةٌ من الزنك والطوب الأحمر، غارقةٌ وسط أشجار المانجو العملاقة، وتوجد كنيسةٌ صغيرةٌ مبنيةٌ من البامبو والخشب، مُلحق بها وحدة صحية صغيرة، وحجرتان صغيرتان منعزلتان أمامهما مساحة صغيرة نظيفة، كُتب في باب كلٍّ منها حرفان إنجليزيان (WC) وهما ما يجب أن يكونا مرحاضين عامَّين. في حقيقة الأمر لا يستخدمهما سوى الزوار الغرباء عن القرية، القادمين من العاصمة، أو الأجانب الذين قد يحضرون من وقتٍ لآخر من أجل الكنيسة أو البحوث الطبية السريعة. سكان القرية يفضِّلون التداوي المحلي على الذهاب للوحدة الصحِّيَّة، ويتبرَّزون في الهواء الطلق. على كلٍّ، الوحدةُ الصحِّيَّةُ الصغيرةُ النظيفةُ مغلقةٌ منذ أكثر من عام، بعد أن غادرها الممرِّض (وهو الكادر الطبي الوحيد) إلى «جوبا» لدراسة شيءٍ من الطبِّ ونيل شهادة التمريض العُليا. يستغلُّ الشرطيُّ الوحيد بالقرية وهو «العمُّ ماجوك» المكان كلَّه كنقطة شرطة، ولم يعترض الناس طالما كان يحرس منقولات الكنيسة القليلة ومحتويات الوحدة الصحِّيَّة، وهو أيضًا ماهرٌ في النفخ على قرن الغزال لتنبيه الناس إلى المخاطر التي قد ينتبه إليها صدفةً أو ينبهه إليها أحد سكان القرية، أو تلكَ التي تصله محمولةً على جُنح الريح من قرًى أخرى.

هو يقضي معظم وقته في شفط الدخان من غيلونه البلديِّ الكبير المصنوع من البامبو وخشب التكِّ، المحشوِّ بالتمباك الجاف، ونفخه في الهواء وتكرار العملية في متعةٍ جيدة، إلى أن يحسَّ بالخدر يسري في أوصاله فيحتسي كأسًا كبيرةً من المريسة وينام.

الصوت الذي سمعه الفرسان السبعون، يميِّزونه جيِّدًا، هو صفير قرن الغزال الذي أطلقه «العمُّ ماجوك»، ويعلمون أنه ليس سوى رسالةٍ عاجلةٍ حالما يكرِّرها صافر القرية المجاورة، ليُسمع قرية أخرى تنام في الدغل، وهكذا تصرخ الصافرات، وفي أقلَّ من دقيقة يعرف سكان القرى المجاورة أن بعض الفرسان العرب قد عبروا النهر إلى قرية «تومي» يرومون أبقارها، وهم مسلحون كعادتهم، و«الرجاء النجدة».

كانوا يعملون بسرعةٍ وبراعة، بخبرةٍ طويلةٍ في التعامل مع أبقار «الدينكا» وأصحابها، استطاعوا أن يسيطروا على عشرين من عجول البقر التي كانت محجوزةً في سورٍ من فروع الأشجار، أمَّا الأمهات جميعًا والثيران الكبيرة فقد هربت تتبعها الكلاب الشرسة.

لن يعودوا من الطريق التي سلكوها نحو المكان، قد ينتظرهم شبان «الدينكا» هنالك، ولكنهم سيعبرون الدغل الشائك إلى «نهر العرب»، هي طريق وعرة ولكنهم يعرفون شعابها جيِّدًا. مضوا جنوبًا قليلًا، ثمَّ اتجهوا نحو الغرب وهم يحيطون بالعجول المذعورة التي تخور خائفةً أو مندهشةً، وبعضها تمَّ ربطه جيِّدًا وقيادته خلف الأفراس، يسمعون بين وقتٍ وآخر صفير قرن الغزال، يقترب حينًا ويبتعد حينًا آخر.

لم يكن من السهل السير بالسرعة المطلوبة للهرب بالحيوانات وهي نزقة ومعاكسة وتتعثر على العشب والأشجار الكثيفة، ولكن إصرار الفرسان كان كبيرًا، وأملهم في الهرب وهي في صحبتهم أكبر.

للجميع خبرات طاعنات في الزمان والمكان، ولكن القيادة كانت للشيخ «أدومة»، وهو أكبرهم سنًّا، ولا نستطيع أن نقول أكثرهم خبرة بالمكان والناس وخطف الأبقار، ولكنهم كانوا يرجِّحون رأيه، لذا عندما طلب منهم أن يتركوا العجول ويجِدُّوا في الهَرب للنجاة بأنفسهم، فعلوا دون تردُّد، ولكن يبدو أن الوقت قد فات على ذلك، لأنهم الآن سمعوا صوت الرصاص يأتي من عمق الدغل، يتخلَّل العشب وأوراق الأشجار، وأيقن الجميع أنهم لا محالة سيواجهون معركة عنيفة طالما تجنَّبوها ولم يرغبوا فيها أصلًا: فلا أحد يحبُّ الموت، فالحياة أجمل.

هربوا في اتجاه النهر مباشرة؛ أيْ جنوبَ غرب. في فصل الصيف غالبًا ما يصبح النهر في معظم حوضه ضحلًا، ويمكن عبوره بالأرجل، ولكن المستنقعات التي أصبحت طينًا لزجًا في هذه الأيام من السنة تعُوق المشي، وعليهم أن يتجنَّبوا مواقعها. ويعرف الجميع أن فتيان «الدينكا» سوف ينتظرونهم في المعبر الجافِّ الذي يقع بعد غابةٍ صغيرةٍ يسمونها «غابة الشيطان»، وهو المعبر الأقرب لقرية «أولاد أحمد»، لذلك سوف يعبرون شرقًا على مستنقع صغير، إذا كانوا محظوظين فسيجدونه جافًّا بعض الشيء، أو جافًّا جدًّا، ولا تستطيع ثعابين الأصلة العملاقة الاعتداء عليهم وهم في جماعة مسلحة، بالأحرى ستتجنَّب الاحتكاك بهم.

نزلوا النهر، وعند المستنقع تفاجأ بهم أطفال يصطادون الأسماك بالحراب، كانوا مثل رهط من الغزلان السوداء، هربوا في كلِّ اتجاه، وهم يصيحون في رعب. كانت هذه فرصةً جديدةً وجيِّدةً للفرسان لأن يحصلوا على بعض الصبية، حيث يستخدمونهم في الرعي والزراعة، وقد يقايضون بهم أقرباء لهم قد يسبيهم «الدينكا» في يومٍ ما، فالحال بينهم كرٌّ وفرٌّ، ويومٌ عليهم وآخرُ لهم، وتحدِّد ذلكَ ظروفٌ كثيرةٌ لا يد لهم فيها. ولم يكن ذلكَ بالأمر اليسير، حيث كان الأطفال يجرون في المستنقع خفافًا وكأنهم الريح، يقفزون فوق أعشابه الطرية الندية الغزيرة، ثمَّ اختفوا نهائيًّا عن الأنظار، وكأنهم لم يكونوا هنالكَ في الأصل، مثل طيفٍ بخيالِ مجنون. كان الطفل، والذي سيسمُّونه في المستقبل «غزال»، يرقد وسط العشب، وقد حفر لنفسه خندقًا صغيرًا بأصابعه، لولا الصدفة البحتة لما عثر عليه «جبريل»، الذي كاد أن يدهسَه بحافرة حصانه عندما رأى شيئًا أسودَ يتحرَّك تحته، ولكن الفرس هو الذي توقف عن المسير، رفع أذنيه لأعلى وأطلق صهيلًا مرعبًا. كانت رِجل الطفل تنزف دمًا، وهو يتأوَّه ويغطِّي الجُرح بكفِّه من الذباب، لم يقاوم كثيرًا. كلُّ ما فعله: زحف مرتين أو ثلاثًا بعيدًا عن كفَّتي «جبريل» اللتين تحاولان أن تمسكا به. كان في شبه إغماء، ربط «جبريل» الساق بمنديله، ووضعه خلفه على الفرس بعد أن ربط يدي الطفل جيِّدًا في السرج الخشبي. قدَّروا عمر الطفل بثلاثة عشر عامًا، نسبةً للوشم الذي في ذراعه وبطنه، وعرفوا أيضًا نوع الجُرح: «عضة أبندربان».

* فصل من رواية “مَنِفِسْتُو الدِّيكِ النُّوبِيِّ”

* روائي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى