فصل من رواية ” تأشيرة غياب”
في اللحظة التي وطئَتْ فيها قدماي رصيف المحطة -كان الطقس في أفضل حالاته هذا الأسبوع برغم توعُّك الشمس- انتبهتُ إلى شيء غريب؛ أنا الوحيد الذي نزل في هذه المدينة، وبعدها مباشرة تحرَّك القطار، التفتُّ إليه كما لو أنني أحاول أن أستفسره. ثم انتبهتُ إلى أن جميع الركاب ينظرون إليّ باستغراب، كأنني مخلوق غريب. تابعتهم من وراء النوافذ الزجاجية المتحركة، تحوّلت نظراتهم إلى ازدراء واستهجان حتى اختفى القطار وعلت ملامحي امتعاضه. ماذا حدث؟ سألت نفسي. بدأ الشك يشبّ على أمشاطه، وكما هي عادتي أخلق تفاصيل مريبة، لم أهتم بها لحظتها. تساءلت، لماذا كانت تلك العجوز الهولندية تنظر إليّ بطريقة غريبة وعجيبة؟ وذلك الشاب الذي كان يحمل حقيبة على ظهره، حاول أن يجلس بجانبي على الكنبة لكن سرعان ما غيّر رأيه وجلس في مكان آخر. وكذلك مفتش التذاكر، سلوكه معي كان مقصوداً؛ عندما طلب مني إبراز التذكرة لم يكتفِ بقراءة التاريخ فقط بل أمسكها بيده وتفحّصها جيداً كما لو كان يتوقع تزويراً، مع العلم أنه لم يفعل ذلك مع الآخرين، وهذا إنْ دلّ على شيء فإنما يدلّ على أن هناك مؤامرة ممنهجة. كان هذا هو إحساسي في تلك اللحظة.
حاولت أن أتجاوز شكوكي قدر الإمكان، اهدأ يا أشرف، كن طبيعياً، لا تتوتّر. ظننتُ أنني أسأتُ إليهم أو ارتكبت حماقةً لا تُغفر، ولكني متأكد من تصرفاتي وواعٍ بها بشكل جيد، ورغماً عن ذلك عدتُ أسأل نفسي، هل بدَر مني تصرّف خاطئ وأنا غير منتبه؟ قمتُ بإعادة سريعة لتصرفاتي الأخيرة داخل القطار: لقد قرأت بعض العناوين الرئيسة على صحيفة المترو المجانية ثم تركتها في مكانها، أغلب الوقت كنتُ أنظر من النافذة، محاولاً استهجاء أسماء المحطات التي توقّف بها القطار، وعندما جاء دَور هذه المحطة قرأت الاسم على اللافتات الزرقاء ثم نهضتُ من مقعدي ووقفت أمام الباب، انتظرتُ حتى توقف القطار تماماً ثم ضغطتُ على الزرّ الأخضر الذي جعل الباب ينفتح تلقائياً. دقّقت في هذه الأحداث، لم يكن هناك شيء يدعو لكل هذه الدهشة والاستهجان، إذن لماذا هذه النظرات المريبة؟ لم تكن لديّ أدنى فكرة عما يجرى، وأيضاً لم يكن بالإمكان إنكار التوتر الذي اجتاحني في تلك اللحظة، لذا استبدلتُ ملامحي بعلامة تعجُّب، وفي لحظة واحدة رفعتُ كتفيّ إلى الأعلى وأخلجتُ حاجبي ثم أدلمتُ شفتِيَ السفلى حتى رأيتها، بعد ذلك تفوّهت بجملة داعرة، ومن ثمة استدرتُ نحو مبنى المحطة. بدت لي هي الأخرى مهجورة لتتعظّم حيرتي. ليس بها أحد غيري، حتى الرصيف المقابل كان خالياً من الركاب، شعرتُ أن هناك شيئاً ما غير طبيعيّ، تشكل لديّ انطباع غير مُريح، أقرب إلى النحس، ربطتُ هذا الإحساس بنظرات ركاب القطار لحظة مغادرته، صدَقَت أمي، كانت تقول لي دائماً: “إنت مثل خالك جعفر، شكّاك وخوّاف”. خاطبتُ نفسي بصوتٍ خافض: هناك شيء ما ليس على ما يرام، لكن ما هو يا ترى؟ هل يمكن أن أكون قد أخطأت في المحطة؟ يستحيل. ها هي أمامي، وعلى مستوى رؤيتي بالضبط، لوحة سوداء مستطيلة كُتب عليها بالخط الأبيض العريض اسم المحطة، إذن هي نفسها المدينة التي أقصدها، لكن لماذا تبدو هكذا مهجورة وخالية من الركاب؟ ربما لأنها ليست من المدن الكبيرة المشهورة. إلى حد ما تبدو إجابة مقبولة، حسناً، لكن لماذا تلك النظرات المستفزّة التي رمقني بها الركّاب؟ لا إرادياً نفختُ هواءً قوياً من فمي جعل شفتيّ تهتزان بسرعة مُصدرتين صوت “طرررررر”، يحدث لي هذا لحظات الشلل الذهني، حالة اشبه باستدعاء الغباء الطفولي حتى تشفق على عقلي فكرة ما.
نظرتُ في كل الاتجاهات كما لو أن شكلي يثير الشبهات، كان الملمح السائد يوحي بالخراب. أسترجع في ذهني تلك الوجوه الوقحة التي تابعتني من نوافذ القطار، لا يمكن أن تكون عنصرية اتفق عليها الجميع في لحظة واحدة، ربما هي صدفة ليس إلا، أحاول تهدئة دواخلي، لكن هل يعقل للصدفة أن تستهلك نفسها مرتين وفي نفس التوقيت؟؛ أولاً، أن أكون أنا الوحيد الذي ينزل من القطار بهذه المحطة، وثانياً، أن يتابعني كل الركاب بنظرات التهكم. موقفٌ كافٍ ليرتعد بدني وأحس بالقشعريرة. باختصار تحرّكتُ بخطواتٍ بطيئةٍ متقدماً إلى الأمام، مدفوعاً برعب مشابه لما يشعر به المرء لدى توقع لحظة انفجار، الحذر واجب، هكذا قلت لنفسي كأنني مطالب بالتبرير، كانت الساعة تشير إلى 13:23 بعد الظهر، لاحظتُ لمبنى المحطة، كان صغيراً ومنقسماً إلى جزئيين بينهما ممرّ واسع مسقوف على شكل قوس، على يساري عدد من المكاتب تبدو خالية من أي حركة، لا ليست تبدو، إنها فعلاً خالية من أي بشر، وعلى اليمين استراحة الركاب، واجهتها زجاجية، وأمام بابها تكوّمت أوراق الشجر اليابسة لتصبح دليلاً قاطعاً على إغلاقها، أو لم تعد تتحمّل قلق الانتظار. لم أرَ أي شيء يدل على أن هناك محطة قطار، فقط ثلاث ماكينات لبيع التذاكر، من نوعية الموديلات القديمة التي لا تستجيب إلا للعملة المعدنية فقط، وليس بها شاشات إلكترونية تُستخدم باللمس كالتي توجد في معظم محطات المدن الهولندية الكبيرة.
بداية غير مشجعة للسكن في هذه المدينة، أكيد لن أستطيع احتمال ذلك. شعرتُ بالاستياء، خمنّت، ربما تكون مثلها مثل قرى الريف الهولندي. اجتزتُ الممر الذي يشبه الرواق، لفحتني نسمة هواء بارد ورطب. عضضتُ على أضراسي بقوة كما لو أنني أريد أن أكتم صوت الخشخشة المزعجة الصادر عن هرس أقدامي لأوراق الشجر اليابسة. وجدت نفسي أواجه ساحةً كبيرة في وسطها شجرة ضخمة، بدا لي وكأنني أواجه عدوّاً بدون ذخيرة. أسوأ ما في الأمر أني لم أشاهد أي مخلوق في هذه الساحة. رفّت عيني اليسرى. أمي تقول إن كانت رفّة العين من الجفن الأعلى سترى شخصاً لم تتوقعه، أما إن كانت من تحت العين ففي الغالب أنك ستبكي. لكن لم أستطع أن أتبيّن مكانها الصحيح، أو بالأصح اللحظة غير مناسبة لفك شفرة التنجيم. هبطت ورقة جافة من الشجرة على كتفي كتمت على أنفاسي، التفتّ غريزياً إلى كل الاتجاهات، أخرجت زفرةً قوية ورحتُ أخفِّف على نفسي من وطأة الذعر. قلت لنفسي، أنا متوتر فقط ليس هناك شيء يدعو للخوف، سأسكن هنا لفترة قصيرة لأنها قريبة من مكان الدراسة، ويجب ألا أنسى أني قد انتظرت طويلاً حتى توافق بلدية أمستردام على هذا “الكورس”. أشعلت سيجارة وتدحرجتُ أعاين المكان، ما زال قلبي مشدوداً بسعف نخيل مُبتلّ، لم أر أي شخص خارج المحطة، موقف السيارات خالٍ، رجّحتُ ذلك لسبب التوقيت الذي حضرت به، منتصف الظهيرة. أخرجت هاتفي نظرت إلى التوقيت، كان من المفروض أن يكون هنا شخص في انتظاري، أحد أبناء وطني ولكني لا أعرفه، تكلّمنا فقط عبر الهاتف ولنا صديق مشترك، مهمته أن يأخذني لمعاينة الغرفة التي سأسكن بها بصورة مؤقتة. وبما أنني لم أر شخصاً خارج المحطة، وبالأصح كنت خائفاً، اتصلت عليه ووجدت أن هاتفه مشغول، رجعتُ أداوم على خوفي، غمغمتُ بمفردات وقحة، وشنّفتُ سلوك أبناء وطني وخاصة في تعاملهم مع الالتزام بالمواعيد، خاطبت نفسي بصوتٍ مسموع، من طريقة كلامه، كان واضحاً أنه من أولئك الذين لا يتأذّى أحدهم نفسياً إذا لم يَفِ بوعده. منذ أن شعرتُ به يكرّر لي جملة: إن شاء الله، عرفتُ أنه شخص غير جادّ، يستحيل التزامه بالمواعيد. إحباط جديد. نحن أصلاً لن نترك عاداتنا مهما طال بقاؤنا في أوروبا. لا بد أن أقرّ بأن المكان الخالي بقدر ما كان مخيفاً شجّعني على التفكير بصوتٍ مسموع، وعندما أكون خائفاً أمارسُ هذه العادة التي ندر ما أعترفت بها. استبدلت شنطة كتفي من الجهة اليمنى إلى اليسرى دون سبب واضح، اتصلت عليه مرة أخرى وهذه المرة جرس بدون رد، جاوب يا دين حجر، هكذا قلت محدّثاً نفسي. حتى لا أفقد أعصابي قرّرت أن أتجول وأكتشف المكان القريب من المحطة، تدفعني رغبة لرؤية أي شخص، إنسان أستمدّ منه الطمأنينة، رحتُ أبدّد الوقت بالتدخين والمشي في نفس المكان حتى يأتي هذا الشخص الأرعن. على يميني كانت هناك حديقة مهملة، سياجها المهدّم يحتجز الأوساخ بصورة ملفته للنظر، تحرّكتُ نحوها، خطوات أقدامي تهرس أوراق الأشجار الجافة هرساً وتضرس أسناني، تفاديتها بدخولي أرضية الحديقة. بدت لي مدينة حديثة بعض الشيء، المباني بطرازٍ عصريّ، غياب تام لرائحة الرطوبة التي تعشعش في أحياء أمستردام، ولكنها أشبه بمدن الأشباح التي تصوِّرها السينما عادةً، هدوء تام، صمتٌ مفتعل قبل بداية المجزرة، صراحةً أكره هذه النوعية من الأفلام، مبتذلة وسخيفة.
فجأةً فطنتُ إلى شيء يدعو إلى الرعب، سمعتُ على إثره ضربات قلبي: حتى على محيط المحطة لم أر أيّ شخص. تذكرت نظرات الركاب والقطار يغادر. تحركت بخطوات سريعة، اقتربت من شارع الأسفلت الذي تفصلني عنه الحديقة، متوقّعاً ظهور هذا الشخص في أي لحظة، أهدّئ نفسي باحتمالات، في الغالب سيأتي من هذه الناحية، أو ربما من الجهة الأخرى للمحطة، وحتماً لن يجتهد كثيراً للبحث عني، فليس هناك بشر غيرى في هذا المكان اللعين. رحتُ لا شعورياً أدندن بأغنية، نفس الأغنية التي ردّدتها وأنا في القطار، تذكرت سبب إصراري على ترديدها، أنها عالقة بذهني منذ أن استمعتُ إليها ليلة أمس من على جهاز الكمبيوتر، أصبحت مملة بعد هذا الاكتشاف. وجدتُ قدميّ تجرجرانني إلى منتصف الحديقة، كان في وسطها يقف نصب تذكاري مهمل، عبارة عن مصطبة مرتفعة حوالى متر ونُصِبت عليها ألواح من الرخام الأسود، اقتربتُ أكثر، كانت أوراق الأشجار الذابلة والمبتلة بالأمطار مقززة، رائحةً وملمساً، لم تفِدها أشعة الشمس التي أضاءت المكان دون أثرٍ لحرارتها. تقدّمتُ بحذر، وقفت أمام ألواح الرخام، رأيت بها ستة وستين اسماً، أسماء منقوشة بخطّ ذهبيٍّ ومقسّمة على ثلاثة ألواح رخام ومدوّنة عليها تواريخ وفاتهم على يد قوات جيش هتلر. رحت أحاول استهجاء بعض الأسماء وتاريخ الوفاة، غالبيتهم لقوا حتفهم في شتاء الجوع، ذلك الشتاء الذي ضرب هولندا بقسوة ومؤامرة من الاحتلال الألماني. لا أدري، شيء ما جعلني أبحث عن أسماء يهودية تقليدية، لاحظت أن هناك بعض الأسماء المكرّرة عند الهولنديين، كما لو أنها مقدسة، وبينما أنا منشغل في مهمتي واستهجاء الأسماء وأدخن، أفزعني صوت جهوري، لهجة سودانية لا تخطئها الأُذن مطلقاً:
– سيجارة لو سمحت.
التفَتُّ مُخفياً جفلتي وفزعي بابتسامة مصطنعة كي أردّ على الطريقة العبيطة التي جاء بها هذا الشخص ليحافظ على مخزون الاعتذار الوطني، وأساساً ليس هناك لزوم لتغليف الحرج بالمزاح، على كلٍّ، أنا لن أعاتبه على التأخير، فهو في نهاية الأمر قد جاء من أجل مساعدتي. اتفقتُ مسبقاً مع هذه التبريرات لأنني لن أجرؤ على مواجهته وانتقاده أو توبيخه على التأخير، أنا لا أقوى على هذه الجرأة، لم يحدث أن واجهتُ أحداً برأيي الذي أبطنه نحوه، أخجل من مواجهة الحقيقة مثل معظم البشر. لكن الغريب في الأمر أني رأيتُ شخصاً يستحيل أن يكون هو نفسه الذي انتظره، شخص كأنه شبح، كنتُ قاب قوسين أو أصرخ، تقهقرت خطوات إلى الوراء، استعداداً للهرب، بدا لي كأنه أحد الأسماء التي على النصب التذكاري، شبح خرج من المقبرة لتوه، قلبي قفز إلى الجانب الأيمن، صواميل مفاصلي سقطت سهواً، وقفتُ مستنداً على رعبي، أبحلق فيه وأنا أرتجف، لم تبدر منه أي حركة مخيفة، ظل يحدق في عيني مباشرةً وهو جامد، ترك لي سانحة تفكير، تبدو فعلاً مدينة أشباح، وإلا من أين جاء هذا الشخص؟ هل تحدّث بلهجة سودانية فعلاً أم هي مجرد تخيّلات؟ تذكرت نظرات الركّاب عندما نزلتُ في هذه المحطة، أعتقد أنني في مأزق حقيقي، ماذا أفعل الآن؟ أأهرب نحو شارع الأسفلت؟ أم أعود إلى المحطة؟ ولكن ربما أجد شبحاً آخر ينتظرني هناك. لا شعوريا التجأتُ إلى المقاومة الداخلية، رحت أتلو في سرّي آية الكرسيّ بسرعة فائقة كما لو أنني أسابق نيّة هذا الشخص البشع قبل أن تصدر عنه حركة مباغتة، ظلّت عيناه المحمرتان تحملقان في وجهي بدون أن يرمش له طرف، وبعد ثوانٍ لم أحسبها من شدة الخوف، سمعته ينطق مرة أخرى بصوتٍ واهن:
– يبدو أنني أرعبتك، بشكلي المخيف، على كلٍّ أنا آسف، هل ممكن أن تمنحني سيجارة؟
لعَنتُه في سرّي. لقد تأكدتُ بما لا يدعو للشك أنه من أبناء وطني. قلت لنفسي، لا لا، يستحيل أن يكون هذا هو الشخص الذي سيستقبلني! أعتقد أنه معتوه. لحيته نمت لشهور عديدة، شعره مُلبّك بالأوساخ، له ضفائر خشنة تدلّت حول كتفيه، وبشّعت بملامحه، أسنان صفراء ومقزّزة، يرتدي بنطلون جينز فقد لونه الأصلي وسترة سوداء ممزّقة من الأطراف، وحذاء رياضي عاجز عن مهمته. كان أطول مني بقليل، رائحته نتنة تستدعي التقيؤ من أصوله، عيناه ترتجفان داخل محجريهما، يكْرشُ في جسده بصوت خشن، يرتعش، يتابع بنظرات شغوفة دخان سيجارتي وأصبعا يده السبّابة والوسطى يتحرّكان لا شعورياً مقلِّدَين طريقة التدخين، أظافره سوداء قذرة، عند هذه الملاحظة تأكدتُ من أنه أحد المدمنين الذين يعيشون على المحطات، ما أكثرهم في محطة أمستردام، من عادتي أن أحتقرهم ولا أوليهم أدنى اهتمام، لكن لا بأس هذه المرة، ربما لأنه أول شخص ألتقيه في هذا المكان، أو لأنه صراحةً أربكني ولم يترك لي مجالاً لتجاهله. تنفّستُ الصعداء وتصنّعتُ ملامح جادة أخفي بها رعبي، وبسرعة وارتباك مددت له سيجارة ثم كتمتُ على أنفاسي حتى أشعلتها له، رائحته كانت لا تطاق أبداً، غادرني مباشرة بعد أن نفث أول دخان، ذهب يطنطن دون أن يشكرني، كما لو أنه استعاد دَيناً قديماً بعد محاججة. مشى بخطوات سريعة وجلس متكئاً بظهره إلى جذع الشجرة الضخمة متلذّذاً بالتدخين، ينفخ الدخان إلى الأعلى ويتابعه كما لو أنه سيتوصل إلى نتيجة حتمية ينسف بها مضار التدخين، كان بالقرب منه شوّال كبيرة بلون بنّيّ بداخله ملابس وأشياء قديمة، يظهر من بعيد كصخرة، وحوله أكياس وأشياء أخرى تؤكد تشرّده. تابعته بأقل اهتمام بعد أن شتمته في سرّي بعبارات غير مهذبة، لأنه صراحةً، أفزعني. كان شكلي سيبدو جباناً ومخزياً وأنا أهرب من معتوه. حاولت بقدر الإمكان إخفاء ابتسامتي عندما لاحت بخاطري الطريقة المضحكة التي كنت سأجري بها وأنا أفقد هيبتي، يخيّل إليّ أن من الظلم أن أورّطه في حقدي، شعرتُ به يتكلم بصوت غير مسموع وبين الفينة والأخرى يرمقني بنظرة ثم يبتسم، وعندما يصطدم بنظراتي الجادة، يشيح ببصره إلى الأمام ويشتم شخصاً غير مرئيّ، كأنما شعر بمراقبتي له وراح يفتعل تلك الحركات. تابعته وأنا أتساءل، هل هو مطالب بأن يثبت لي مدى اختلاله العقلي؟ هيئته تكفّلت بذلك، سلّفته بعضاً من شفقتي التي تضاءلت في الفترة الأخيرة، ربما لأنه أحد أبناء وطني، وفي الغربة ينمو لنا حنين إضافي للون البشرة، ذهني تعرّض لأسئلة تقليدية، كيف وصل إلى هذه الحالة؟، ما الذي حدث له؟ هل بسبب إجراءات اللجوء التعسفية؟ لم أجتهد كثيراً لأغوص وأفترض أسباباً وأصل بها إلى إجابات مُرضية، الأمر لم يكن يعنيني كثيراً.
عدت أعاين المكان، أتأمل اللافتات، مكتب رعاية صحية للأطفال، صيدلية وعيادة أسنان، شارع خاص للدراجات بلونٍ طوبيّ مرافق لشارع الأسفلت لكنه مفصول بحاجز، لم أشاهد درّاجات مثل أمستردام، فعلاً شيء غريب هل هذه المدينة بلا سكان؟ التفتّ إلى الجهة الأخرى حتى أدحض فكرتي. في هذه اللحظة سمعت صوت سيارة تتوقف، يترّجل منها شاب مبتسم، لوّح لي بيده وهرول نحو هذا الشخص المعتوه ووضع أمامه كيساً دون أن يتكلم معه، مثلما يزيح شخصٌ حجراً من الطريق ويضعه قرب شجرة. ومن ثمّ أسرع لملاقاتي، ببهجة، كأنه تلّقى نبأً رائعاً، شاهراً ابتسامة سخيّة حشّفت من عينيه وضيّقتهما. كنتُ لحظتها قد خرجتُ من حديقة النصب التذكاري مدفوعاً نحوه بلهفة مَن عثر على طوق النَّجاة، لنلتقي في نقطة أقرب إلى جذع الشجرة الضخمة، عانقني بودٍّ مفرط كأنه يعرفني منذ فترة طويلة أو كأنه شعر بالرّعب الذي تعرّضتُ له قبل قليل. ربّت على ظهري بضربات سريعة ومُوجعة، لا يمكن أن يكون هذا سلاماً! تذكرتُ أنني تلقيتُ هذه الرصعات المعبرة عن السلام بعد عودتي الأولى إلى الوطن بعد غياب استمرّ سبع سنوات، وخاصة عندما زرتُ اهل والدي في القرية. لكن لم أتوقع أن أصادف أحداً بهولندا محتفظاً بهذا الإرث. تشكّل لديّ انطباع بأنه إنسان بسيط، والحصيلة كانت حكة في منتصف ظهري. رحّب بي بفرح، صوته مبحوح يجعلك تتنحنح معه لا شعورياً، قصير القامة وأجلح، ملابسه غير متناسقة، يرتدي سترة ليست مقاسه، عرّفني على نفسه:
– أنا عثمان جبارة، لكن معروف بعثمان فخة.
ثم انفجر في ضحكة عالية، جاملته بابتسامة عريضة مخلوطة بكحة السجائر، أصرّ على حمل شنطة كتفي الخفيفة مع كوم اعتذارات على تأخيره. الغريب في الأمر أن تعابير وجهه لم تكن توحي بأنه متأسف على التأخير. عبثاً حاولتُ أن أتمسّك بالشنطة، لكنه انتزعها مني بالقوة بعد أن أقسم بكل مقدساته. توجهنا إلى سيارته، حاولتُ بيدي اليسرى أن أتحسس مكان الرصعات والضربات التي نلتها من هذا السلام، إحساس بتهيُّج جلدي ودعوة ملحة للهرش، محاولات يائسة من أصابعي للوصول إلى منتصف الظهر وحكِّه. فكرتُ أولاً قبل كل شيء أن أطرح عليه تساؤلاتي: أين سكان هذه المدينة؟ ولماذا كان ركاب القطار ينظرون إليّ بطريقة غريبة لحظة نزولي في المحطة؟ فتحت باب السيارة وجلستُ على المقعد ورحتُ أدعك في ظهري بالمقعد، التفتُّ أتابع المعتوه، وكما توقعت لقد فتح الكيس وبدأ يأكل بلا شهية، خطر بذهني أن أذهب إليه وأعطيه علبة سجائري، إحساسي بالكرم دائماً ما يأتي متأخراً أو بتأثيرٍ من الآخرين، ولكن للأسف ها هو عثمان فخة يدير محرِّك السيارة ليعطِّل الفكرة، كان من الممكن أن أستأذنه، ثوانٍ معدودة، أرمي علبة السجائر أمام هذا المعتوه ثم أعود، لا أدري لماذا ترددت، كان من الممكن أن أفعلها بكل يُسر، وأحتفظ بسيجارة واحدة حتى أشتري علبة أخرى، رجعت أتأمله، تابعني بنظرات قاسية وهو يمضغ في الطعام، كان بمقدوري أن أتخيّل المرارة التي يتذوّق بها الأكل. حدّقنا في بعضنا حتى دارت السيارة دورة كاملة ليلتفّ الندم حولي وأستعين بزفرة هواء حادة، ولكن سريعاً ما خفّفتُ من وطأة تأنيب ضميري وقلتُ لنفسي، لا يهمّ الآن، سأعود إلى المحطة بعد قليل للمغادرة وحتماً سأجده، حينها، سأعتذر له وأعطيه باقي السجائر. يبدو أن عثمان فخة أحسّ بي أتابع المعتوه ولم أركز مع حكايته التي كان يسردها بمتعة ليبهجني، التفَتَ إلي مباشرة لحظة أن توقف أمام إشارة المرور:
– تخيّل يا أشرف.
ثم صمت كأنه شعر بأنه سيورّط نفسه في زلّة لسان ثم استدرك:
– مش فعلاً الاسم الأول أشرف، ولا أنا غلطان؟
أومأت موافقاً حتى لا أعيق استرساله، لكنه أطلق قهقهة ولام ذاكرته البليدة، ثم واصل:
– تخيّل هذا الشاب سوداني، سكن معنا في هذه المدينة مدة طويلة، شخص ممتاز جداً، ولكن للأسف الشديد ماتت زوجته الهولندية في ظروف غامضة، يقال إنها انتحرت والبعض الآخر قال إنها قُتلت، المهم بعد ذلك تدهورت حالته النفسية إلى الحد الذي لم يعد بإمكانه رعاية طفله، ومهّد بنفسه لمنظمة رعاية الأطفال التي أخذته منه عنوة. بصراحة كان مستهدفاً. مسكين!، تحوّل إلى هذه الحالة التي يُرثى لها.
سألته ذلك السؤال المستهلك في تلك الحالات التي أجد فيها نفسي عاجزاً عن بلورة إحساسي أو اتخاذ رأي إيحابي، قاطعاً اتجاه ما يسرد من مأساة. باختصار رسمتُ تكشيرة على وجهي، تكشيرة نمطية يمكن لها حتى أن تصلح ردة فعل لاحتراق مكرونة على النار، استخدمتُ سلاح الأسئلة لكسب الوقت للإتيان برد فعل حقيقي. ردّ عليّ بانفعال كأنني ألومه هو شخصياً:
– لقد فعلنا ذلك أكثر من مرة، ولكنه رفض بشدة، لقد أصبح شخصاً حاداً جداً.
قلت له:
– حسناً، أليس له هنا معارف أو أقارب، يعيدونه إلى الوطن؟
نفى بشكل قاطع أن يكون لهذا الشخص أقارب أو أصدقاء. لحظة غمرتني عاطفة تجاهه أدهشتني أنا نفسي. للأمانة كنت في حالتي العادية عندما أسمع عن شخص ألمّت به ظروف عويصة مثل هذا المعتوه، أتعاطف معه بالقدر الذي تسمح به أنانّيتي فقط، ومن ثمة أتفاخر بحظي الذي تكفّل بدفع الضرائب نيابة عني. ولكن مع هذه المعتوه، الذي أرعبني قبل قليل، كان الإحساس مختلفاً. فمن المؤكد أنه نال نصيبه مضاعفاً من الخيبة والإحباط. سرحت مع فكرة انتحار زوجته، متجاهلاً الرأي الذي يرجِّح احتمالية مقتلها، لسببٍ بسيط هو تضاؤل نسبة الجريمة في هذا البلد، وفقدانه ابنه في غربة قاسية الطقس. وضياع زوجة وابن سببان كفيلان بانفجار الدماغ.
وأثناء اللحظات النادرة لمؤامرة العَبرة وكمين الدموع، أخذ عثمان فخة منحنىً سيئاً، مثل تعامله المستهتر مع فن القيادة، وراح يحكي عن المدينة ويجمّلها ليصبح أشبه بسمسار عقارات محترف. أغاظني جداً، شعرتُ به كشخص يعبر شارع الأسفلت في أماكن ليس بها خطوط عبور مشاة، واصل قهقهته وهو يعدِّد لي محاسن المدينة، ومن ضمن المحاسن حسب رأيه أنها مدينة هولندية ولكن بدون هولنديين، وكأنه أحس بسؤالي القادم، بإحساس التشفي أجابني:
– لقد هجرها الهولنديون، نعم هجروها لأن الأجانب أصبحوا أغلبية، وهذا ما جعل عنصريتهم تطفح، تخيَّل. أعلنوا بكل صراحة عن استيائهم من استقبال الأجانب، ليتأجج الصراع ويصل ذروته في معركة حاسمة ينتصر فيها الأجانب. وأنت تعلم أن الهولنديين جبناء بطبعهم، لم يصمدوا أمام هتلر أكثر من ست ساعات، شعروا بأقليتهم، خافوا على أرواحهم وراحوا يتسللون واحداً بعد الآخر.
في البداية شعرت به كلاماً غير منطقيّ، لكن عندما ربطت ذلك بنظرات ركاب القطار تقبّلته على مضض. تحاشى عثمان فخة أن يتحدث عن تفاصيل ما حدث في هذه المدينة، وأنا لم أهتم؛ لأن المعتوه تلصّص على ذهني عنوة. رجعت أتخيّل لو أنني في مكانه ومرَرت بنفس الظروف، هل يا ترى سأصل إلى نفس النتيجة الحتمية؟ لا أدري!، شيءٌ ما جعله ينخر في ذهني، رغم أنني جئت هنا لمهمة محددة، يجب أن تنتهي وأعود أدراجي.
قبل أن ينهي لي مهمتي أنجز عثمان فخة عدداً من المهام الخاصة به، وأسرف في ضحكته المجلجلة، لذلك عرفتُ سبب التسمية. يحمل في سيارته أشياء مختلفة، بعضها داخل صناديق والبعض الآخر في أكياس مانعة للرؤية، توقف في عدة أماكن وسلّم البضائع مع قهقهة عالية. حسدته على سجيته وبساطته. أوقف السيارة في شارع رئيسي مزدحم بالناس والمحلات التجارية المختلفة، ملابس مشنوقة على حبال حَجبت مداخل المحلات، محلات لصيانة الموبايلات، ورشة موبيليا، مقاهي إنترنيت، مطاعم مختلفة الجنسيات، لافتات بكل اللغات عدا الهولندية، ازدحام يعيق حركة السيارات، لذلك وجدت عذراً لخلوّ المحطة من البشر. لكن المثير للدهشة أن هذا المكان لا يشبه هولندا إطلاقاً، شعرتُ كأنني في دولة أخرى. اقتنعتُ بكلام عثمان فخة، يبدو فعلاً أن الهولنديين قد هجروا هذه المكان لتصبح مدينة متعددة الجنسيات. لاحظتُ أن عثمان فخة مشهور في هذا السوق، صافح البعض وتحدّث صارخاً مع المارة، دعاني للدخول إلى مطعم تركي وصافح عاملة الكاشير واثنين من العمال، وبدون أن يستشيرني، طلب لي طبقاً من اللحوم المشكلة، شيش طاووق، كباب، شاورما، شرائح لحمة مشوية، وطبقاً آخر به سلطة مشكلة مع الطحينة والزيتون والجبنة البيضاء، كانت وجبة دسمة. شربت بعدها زجاجة كوكاكولا، فوجئتُ بصوت دوي التجشّؤ يصدر من داخلي حتى اهتزّ جسدي، انفجار حقيقي، التفتُّ فقط نحو الفتاة التركية التي تُصدر أوامر الطلبات، سعدت جداً أنها لم تسمع هذا الصوت، كأنه صدر عن كائن خرافي.
أخيراً تفقّدت الغرفة التي سأسكن بها مؤقتاً، كانت تلائم مِزاجي. اتفقت مع صاحبها على كل التفاصيل، وأنا في عجلة من أمرى كي أعود للمحطة وألتقى ذلك المعتوه. لا أدري ما الذي يجذبني نحوه بهذه القوة المغناطيسية؟ هل يعقل أن يكون ما يجذبني إليه فقط هو أن أسلّمه علبة السجائر؟ ربما تعاطفت معه لمجرد أنه أحد أبناء وطني ليس إلا. وجدتُ المسافة من موقع الغرفة إلى المحطة قريبة جداً ويمكن أن أمشيها على قدميّ، ولأجد مبرراً أهرب به من عثمان فخة، قلت له:
– بما أن المحطة قريبة، من الأفضل أن أتمشّى حتى أتعرف على الطريق الذي سأسلكه يومياً.
أجابني منفعلاً:
– لا يمكن أن تعود إلى المحطة وحدك، مستحيل، أنت ضيفنا.
تركني لخياري بعد مصارعة حرة وإصرار مبالغ به، فهو شخص من النوع الذي تسعد برفقته إلى حيّن، شخص كريم وتلقائي في تعليقاته، يتمتّع بخفة دم مذهلة، لكن مشكلته تكمن في أنه بمجرد ما يشعر أنك مستمتع به يزيد من عيار قفشاته بصوره مفتعلة ليصبح شخصاً مملاً، حتى أنك ترغب في أن تصفعه ليكفّ عن هذا الهرج، فهو إنسان بسيط لا يعلم أن عبقريته تكمن في عفويته. تخلّصت منه بمشقة بعد أن أمدني بمعلومات عن هذه المدينة.
* روائي من السودان
* الرواية ستصدر في الأسبوع القادم من دار الحضارة للنشر ” القاهرة” ومن ” دار شفق للنشر” بأكسفورد .