ثمار

سبع ساعات من رفقة النهر: انبعاث الشاعر الملحمي في ملكوت البصيرة!

منجد باخوس

(لن تجدوني..

كما في أساطير من مثلوني..

نقوشاً على حجر..

أو؛

تصاوير مبهمة..

في كتاب قديم!

أنا الكائنات وفيكم أقيم).

هكذا-كالصاعقة-يضاء العالم، هكذا ببساطة يفتتح لنا كاتبنا البوابة العظيمة الأولى. ثمة مئات من البوابات المغلقة رويداً رويداً يقودنا إليها؛ ونحن يملؤنا الخوف؛ القلق والحذر الشاهقان؛ ننقاد لجبروت هذا الدفق الشعري. ليتركنا في غسق الغرق الصوفي المُقدَّس، ويتبخَّر دون أن يترك لنا أثراً سوى حجر ضخم من الأسئلة الدائرية المشتعلة! هكذا يفعل بنا دائماً الكُتَّابُ العُظماء، موافي يوسف في هذا السفر التاريخي يقذف بنا بعنف دموي داخل القاع المحيطي، يُربِّت على أكتافنا، يُغنِّي، ينفخ مزاميره العلوية، يغرينا للدخول، ثم يضيء المصباح الشعري الخالد؛ ليكتفي بابتسامه نبوية مُشعَّة، فيختفي! ثم يبتلعنا المحيط السرمدي: محيط الحيرة، القلق الوجودي، الأسئلة، الغرق، الموت، العشق، الحرب، المعنى، اللون، الوطن، الحبيبة والشتات الأنطولوجي على فلوات الله الواسعة.

إنه الفيتوري: سيدي الفيتوري!

لطالما طاردني الوسواس والأسئلة: أي روح سماوية تلبست كاتبنا، أي روح ما ورائية دفعت بكاتبنا لخوض مغامرة كهذه، أن تكتب عن شاعر عظيم كالفيتوري، إنه شيء يشبه الرقص بأعين معصوبة على شفا هاوية، إنها تشبه تماماً أن تخلع نعليك السميكتين ثم تركض بقدمين حافيتين على أوغاد من شظايا زجاج متكسر! وللحقيقة كنت خائفاً خوفاً هائشاً قبل قراءتي هذا السفر! لكن يا لدهشتي! دهشتي البالغة وأنا أتسلَّق هذا البنيان العظيم الشاهق الملحمي حرفاً حرفاً دون أن أُبارح مكاني. إنه عصير من البكائيات الخالدة والملاحم التي لا يختفي أثرها من اللوح الإنساني.. إنه تاريخنا، تاريخ العالم كله، تاريخ الجنس البشري قبل ومن بعد التكوين وفي الأزل!

في هذا الكتاب؛ بمهارة فائقة يسرد لنا الكاتب السوداني الصاعد موافي يوسف عن تاريخ شاعرنا العظيم محمد مفتاح الفيتوري، شاعر أفريقيا والجنس البشري أجمعين، وبتقنية مدهشة يضيء لنا الكاتب تاريخ الفيتوري وحياته الخضراء التي قدمها للعالم، أحلامه، عذاباته، هواجسه، غزالاته الشعرية، رحلاته عبر المحيطات والأخيلة، طفولته البيولوجية الخجولة، لياليه القاسية خارج الوطن، عوالمه العرفانية، أسئلته الفلسفية الكبرى، قنديله الإبداعي والبراق الشعري المقدس الذي يعرج به في السماوات المبهمة اللانهائية كي يقطف ثماره التي نعرف. ثمار القصائد، الثمار الخالدة والمحرمة التي زينت غابات أفريقيا السوداء. أفريقيا التي هي في قصائد الفيتوري عروس أبدية أفنى شاعرنا أغنيات العمر يعزف موسيقاه لأجلها.. ويدور “درويشاً متجولاً” حول عروسه السمراء الجميلة. غارقاً.. أبداً في عوالم الوجد الصوفي.

في هذا الكتاب البهي؛ بطريقة عرفانية ما ورائية ينبعث الفيتوري الشاعر الإنسان من متون العدم الخالص، في عملية طقوسية روحانية غرائبية يتجلى الفيتوري للسارد كشبح.. كرؤيا.. كملاك صغير يتدرب على تبليغ الوحي.

“وفجأة صوت يهتف، ينشد بأنفاس مثخنة، أحسه قريباً مني، بل جواري تماماً، أطبقت على الكتاب ببطء ودهشة، وبعينين مزمومتين وخاطر ذاهل أرخيت أذني لأرهف السمع، صوت كأنما قادم من مغاور منسية، مرهوب المفردة، عميق حد امتلاء الصدى، جليل حد القداسة، مشوب بالحزن والجمال والقوة في آن.. إنه هو. لا بد. نعم هو: محمد مفتاح الفيتوري! إنه صوته، هتافه. إنه ذاته!” ص13.

وليؤكد الفيتوري عمقه الحضوري البشري الفيزيائي؛ حضوره المطلق: يتلو الفيتوري قصيدته أمام ساردنا:

” قلها لا تجبن..

لا تجبن..

قلها في وجه البشرية: أنا زنجي” ص24.

ثم يختفي الحضور الشبحي! هنيهة من الزمن لينبت الفيتوري مرة أخرى  كنبتة فردوسية خضراء من داخل قصيدة منبعثاً كدخان ليُلقي بصخرة الحيرة الفيزيائية الكبرى على كاهل ساردنا.. من داخل المتن نقرأ: “وفجأة ؛ وفيما يشبه الميتافيزيقا، أو هي عينها، إذا به ينبثق من رحم قصيدة! بدا في أول أمره مثل دخان يتعاظم، ثم شيئاً فشيئاً تكاثف، ثم تمثل أمام ناظري، فيتوريَّاً باذخاً كشمس أفريقيا، فيتوريَّاً بلون الطمي.. يجلس قبالتي كفوضى من الإدهاش والعجب! ص15.

بهذه الطريقة الطقوسية؛ يلتقي السارد بشاعرنا، وتبدأ الرحلة في المسير، يبدأ المعراج الإبداعي، الباذخ، الناصع كبياض القبعة النورانية على رأس ملك، ليُشعل السرد الملحمي الأركان المعتمة في حياة الفيتوري، يسأل السارد الشاعر ويتداعى الفيتوري أحياناً، يصمت أحياناً، يبتسم أحياناً. وينشج نشيجاً لا مرئياً حين يسأل عن أكثر الحكايا مرارة في حياته. لكن يبدو طوال الساعات السبع نبياً مباركاً بالشعر ومغتسلاً بآلاف من الأنهار الربانية والأرواح البيضاء ثم تعازيم الأجداد المقدسة.

يستنطق السارد شاعرنا طوال الساعات السبع بمكر خلاق ودهاء؛ مُعرِّجاً على القضايا المركزية التي أراد السارد أن نعرفها عن الفيتوري؛ ربما ما أراد الفيتوري فعلاً إخبارنا إياه عبر مشروعه الشعري، لنعرف في نهاية المطاف أكثر القضايا حيوية في ذاكرة الفيتوري الإبداعية: الثورة، التصوف، الحرب العالمية الثانية، المرأة، الحبيبة، الوطن، الله، النفس البشرية، القصائد، الكون، الحرية، النجمة المذنبة العرفانية، الدياسبورا، الآخر، الشتاء، الأرشيف السلالي، الأجداد، الثقافة، العرق، العبودية، الأسود، الحرائق السيكولوجية، البعث، القبر، المسرح، القيامة، القلق، الغرق، بودلير، الطيب صالح، الشعر العربي، الحلول، الجذب، الفراغ، المعرفة، الإنسان، القرآن، البكاء، الوحدة، أفريقيا، العالم العربي، السودان، ليبيا، مصر، المغرب، الأشياء، السقوط، الطيران وقضايا كثيرة متشابكة في نسيج حافل كحلبة رقص موسمية في غابات القارة الأفريقية بالحزام الاستوائي. وما إن تنتهي الساعات السبع المباركة؛ بعد أن يقول الفيتوري كلَّ ما أراد قوله، ينشد قصيدة؛ ثم يتبخر ويتلاشى في التراكيب العدمية الغامضة!

تقنياً:

على المستوى التقني؛ يتكون الكتاب من “150” صفحة  مقسمة إلى تسعة عشر باباً، بعتبات معظمها مقتبسة من قصائد الفيتوري؛ على هذا النحو: “انبثاق، شيء من اللاتصديق في حضرة العظيم، الجدة السوداء، في البدء كان السكون الجليل، وفي الغد كان اشتعالك، ولدت في عتبات الصمت والغضب، الفيتوري ذاكرة الصبي1، الفيتوري ذاكرة الصبي2، الفيتوري ذاكرة الصبي 3، زمني جلاد لا يرحم، قلبي على وطني، في حضرة عظيم آخر، ليس في الياسمينة غير البكاء، عذاب الإبداع حينما تولد القصيدة، بودلير الشاعر الملعون الجرح والسكين، التجربة الصوفية، آخر الحكايا، نماذج شعرية، إنفوغرافيك”.

فنياً:

ما يصيبنا بالدهشة في هذا العمل أننا بصعوبة بالغة يمكننا تصنيف إلى أي الأجناس الإبداعية يمكن أن ينتمي، إذ تبنَّى الكاتب أسلوباً كتابياً عنيفاً في المراوغة، فلوهْلة، ومن خلال العتبة الأولى يشي لنا نسيج الحدث بأن الأمر برمته نسج خيالي ضارب في المطلق، فالوصف السردي، اللغة الشعرية الرشيقة الهاربة توحي بأننا أمام عمل روائي جبار متخم بالأخيلة الحرة المحلقة؛ لكن شهقة من مسير تطعن بعمق في مبنى ظنوننا اللحظية الخجولة، فبمجرد انبعاث الفيتوري داخل الفناء السردي تأخذ دفة احتمالاتنا بالتحليق في الجهة المعاكسة للريح؛ ريح الاحتمالات الطارئة ثم مصعوقين كالطرائد نركض للبرية الضارية. وببساطة نطلق احتمالاً آخر: يبدوالكتاب توثيقياً! وينجح الكاتب على امتداد السرد المشتعل الملحمي يراوغ ظنوننا ويقفز برشاقة فوق احتمالات التسمية والتجنيس. وهنا؛ أقول بثقة: إن هذا – في نظري – واحد من أهم الأعمال التي قرأتها في السنين القليلة الفائتة، ولفتنتي الدائمة المخلدة بما يسمى بالنظرية العابرة للأجناس الأدبية، أو كما يسميها البعض: نظرية الأجناس الأدبية الكبرى؛ لكل ذلك وقعت صريعاً في عشق هذا العمل المهم منذ الصفحة الأولى!

“سيكون هذا العمل واحداً من الأعمال القليلة التي سيكون كتابة نقد حولها أمر غاية في الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً.. لصعوبة تجنيسها في المقام الأول والأخير”.

خروج:

إن هذا العمل سيكون دون شك إضافة كبيرة للحركة الثقافية في السودان، ونهراً دائماً في إنعاش الذاكرة السودانية بتاريخها المشرق، وعرشاً موغلاً في دسامة تاريخنا فتوحات مبدعينا وإشراقاتهم، والفيتوري بالطبع واحد من أهم أطوار نمو الفعل الإبداعي والشعري السوداني، وتمنياتي القصوى أن يواصل كاتبنا في مواصلة هذا المشروع العظيم، ربما في مقبل السنوات القليلة القادمة يقدم لنا عملاً آخر حول واحد من مبدعي السودان التاريخيين، وربما نشهد جزءاً ثانياً عن الفيتوري نفسه؛ إذ لا أدري إن كان بإمكان كاتبنا بطريقته الطقوسية بعث سيدنا الفيتوري مرة أخرى أم لا. إن كان نعم. سيغمرنا الدفق الشعري، وإن كان لا.. هذا العمل وحده سيظل متجولاً بقوة ..كأغنية، تميمة، جناحان، منقار، رقص، رعشة عاشق وكطائر خفيف في بواكير طفولة الطيران.

ملحوظة:

عن المؤلف:

موافي يوسف: شاعر وقاص ينتمي لجيل الكتاب المعاصرين.

عن الكتاب:

سيصدر الكتاب عن دار المصورات للطباعة والنشر-السودان- في شهر سبتمبر القادم.

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى