ثمار

فصل من رواية: الزمن قبل غارة الأنتينوف

احمد الملك

فجأة سمعنا صوت إطلاق رصاص كثيف من على البعد!

كانت ليلة عيد الفطر، العالم يبدو رائعا وناصعا كأنه خُلق في تلك الليلة، هواء الليل مشبع برائحة وضجيج الغرباء، كنت أقطع شارعا طويلا يقبع نجم أحمر في نهايته، أشعر بالناس والأشياء من حولي لكنني لا أرى شيئا، تحس بوجود الأشياء وهي تسبح من حولك في مداراتها، أصوات الأشياء والاحساس بوجودها كان أقوى من مجرد رؤيتها. كأن العالم كان بالفعل كما قال أحد رفاق تلك الليلة، مثل شخص محتضر، يبدو فجأة في لحظاته الأخيرة مليئا بالحياة كأنه سيعمّر ألف عام أخرى، بينما النهاية تقترب بخطى حثيثة من حولنا.

فجأة دوّى صوت آذان في القفار، بدأت الأشياء تستعيد وجودها، أشجار السنط تأخذ أماكنها، طرق الحمير والبغال تنشق في الارض في كل الاتجاهات. جدران البيوت تبرز في رماد ضوء النجوم. لم استطع تبين ان كان الصوت هو أذان العشاء أم الفجر، شيء ما مصاحب للصوت لم نستطيع تحديده كان يوحي وكأن الزمان انتهى، وأن كل شيء يحدث في اللحظة نفسها وفق زمان خاص بكل شيء على حدة. صوت المؤذن نفسه لم يكن يوحي بأنه يعرف الى أية صلاة كان يدعو الناس، لكنه كان مثل شخص استيقظ فجأة من النوم ولم يجد وجهه، فقرر أن يشرك العالم من حوله في حلم الرمال المتحركة التي كان غارقا فيها دون أمل . انتظرت لحظات ألتقط فيها أنفاسي واعطي الأشياء الفرصة لكي تكمل خروجها من العدم الى أماكنها التي وجدت فيها منذ الازل. عندها رأيت في ضوء النجوم الباهت رفاقي في الرحلة، تبدو عليهم لحظات التحول، سمات موتى عائدين من رحلة بعيدة لا يزال غبار نسيانها عالقا في أهداب عيونهم.

خرجنا مجموعة من البشر، لم يجمعنا شيء سوى الصدفة، رغم أن أحدنا سيقول: نبدو مثل شياطين أطلق سراحها، ألا تعرفون أن الشياطين يطلق سراحها في هذه الليلة بالذات؟ كلما تقدمنا خطوة الى المجهول كنا كأننا نولد في عالم جديد، يختفى كل شيء من خلفنا، عاصفة الليل التي كانت تقتفي خطواتنا، كانت تخفي كل أثر للحياة التي تركناها وراء ظهورنا. مثل ستار ضخم ينسدل من خلفنا ويحيل الماضي الذي كنا نحث خطانا بعيدا منه الى رماد.

لم نفكر كثيرا فيما قاله الرجل، لم تشغلنا قضية هل نحن بشر أم شياطين، لم يشعر أحدنا أن تلك كانت مشكلة، كان يستحوذ على تفكيرنا شيء لا نستطيع حتى تحديده، كأننا نبحث عن طفل تائه، كنا نمشّط كل شيء حولنا، نتشمم بأنوفنا مثل كلاب الصيد، نركّز أبصارنا على السماء أكثر من الأرض، حتى حين نتفحص الأرض ونختبر التربة الرملية التي تغوص فيها أقدامنا كنا نفعل ذلك فقط لكي نختبر افضل مكان يمكن أن نقف عليه لنواجه السماء.

 كأن التائه الذي غاب عنا، أبحر نحو السماء. كأن السماء هي المسئول الأول الذي يجب أن يوضح لنا نهاية الطريق الذي كنا نسير فيه، كان الدرب الذي سلكناه يتلوى داخل القرى ويسير تارة بجانبها، وتارة يخترق أحشائها حتى نشم رائحة تعفن الحياة في حافة هذا القفر الشيطاني، حيث لا شيء سوى نبات الصبّار الكئيب، يشبه مظهره مظهر الجنود في استعراض عسكري بمناسبة عيد الثورة، ونبات الحلفاء الذي ينمو بفوضى أمام أعيننا، كأنه يقاوم بنموه الفَزِع فوق جداول الماء والأودية، رياح الفناء التي بدأت تهب من أعالي الجبال البعيدة. يزحف الدرب فوق الرمال مثل ثعبان، يشق شجيرات الطندب والحلفاء في حواف الأودية، ويسير بمحاذاة نهر النيل كأنه يبحث عن شيء أضاعه في ضوء النجوم.

كان مشهدنا  يوحي بأننا خرجنا لإنجاز أمر ما، لكن منظر أي واحد فينا كان يعطي أيضا انطباعا بأننا لا نعرف ماذا نريد والى أين نتجه، لا يجرؤ أحد حتى على التفكير أننا كنا نحاول في الواقع ان ننجو بحياتنا!

فجأة أحسسنا باقتراب الخطر، من إشارات الصمت العميق من حولنا، من خمود أصوات حركة الكواكب التي كانت ترافقنا، من تراخي أصوات الحياة التي غارت في باطن الأرض، واختفت في الآبار المهجورة والأودية الغارقة في ضباب النسيان، من دبيب أصوات الحيوانات الزاحفة والكلاب الضالة التي كانت تهرب كلها من الكارثة الوشيكة الوقوع. رأينا من على البعد ما يشبه خيطا طويلا من البشر! مثل خط من النمل، وقفنا جميعا وقد انقطعت أنفاسنا ونحن نرقب خيط البشر اللانهائي وهو يعبر في طريقه الى المجهول.

رد حاج النور على مناداتي له بالشيخ ضاحكا: إنت الشيخ  مش أنا، قالوا من ما كنت صغير، كنت بتتنبأ للناس بمستقبل حياتهم، وبتساعد العشّاق لتذليل المشاكل التي تعترض طريق زواجهم!

ابتسمت لفكرة أن يتنبأ بالمستقبل من لا يستطيع حتى تلمس موضع قدمه في اللحظة نفسها، من جرّده الموت من كل ما حوله، دون حتى ان يتنبه لخطوات الموت التي ظلت تنبض باتجاهه. ابتسامة ضاعت في الظلام، الذي تضيئه بحذر نجيمات متناثرة بعيدة، قلت بعد لحظة صمت: كل شيء بثوابه!

قال شيخ النور: طيب ما تكسب ثواب في نفسك، ولا مصّر تخلي باب النجار مخلّع!

يبدو أن شيخ النور شعر بالذنب من صمتي، كأنه شعر أنني كنت أستخدم درع الصمت لأخفي خوفي من المجهول، فقال: يا ولدي الحي أبقى من الميت، ودا حال الدنيا، مرّت سنين طويلة، الحياة ما بتتوقف، الموت والحياة ما بتوقفوا، وجهين لعملة واحدة زي ما بيقولوا.

صمتّ طويلا، شعرت بلساني ثقيلا كأن أحدهم وضع فوقه جبلا صغيرا، نظرت دون أن اشعر الى أعلى كأنني أستعيد ذكرى الغارة التي فقدت فيها زوجتي وابني، لكنني في الواقع كنت أبحث عن الاشارة التي ظللت في انتظارها منذ سنوات، الإشارة التي سأعرف منها أنه اصبح بإمكاني أن أعيد الزمان الى الوراء ليبدأ من اللحظة التي سأحددها. عندها حين يصبح بإمكاني قيادة الزمن سأعيد الانتينوف من حيث أتت، لتلقي بحممها بعيدا، عندها حين أجد نفسي بجانب محمد وزينب، سأكون الوحيد الذي يعرف أن الزمن عاد سنوات الى الوراء وأن هذه ستكون الفرصة الأخيرة، سنبق في مكاننا، لن نسرع نحو الجبل، سأقول لبقية المجموعة أن الجبل دونه الموت، سنبق بجانب هذه الغابة الصغيرة حتى نتأكد من زوال الخطر تماما، سيقول أحدهم، إن لم نسرع سيأتي الجنجويد! لكنني سأقاوم حتى لو اضطررت للبقاء وحدي ومعي محمد وزينب! حين رأيت صورهما في اللحظة الأخيرة قبل هجوم الانتينوف، تذكرت الهاتف الذي كان ينبهني كل بضعة أيام الى الإشارة التي ستظهر في أية لحظة، تجاهلت تحذير الهاتف الذي كان يكرره كل مرة: لا تفكر في الموتى! لن تستطيع إعادة الزمن الى الموت! الزمن يعود فقط الى الأحياء، الموتى ذهبوا الى زمن آخر غير مسموح لك بالدخول اليه! فهمت أن العودة الى ما قبل الغارة ستكون مستحيلة لكنني كنت أصر على المحاولة حتى ان كنت سأهدر فرصتي الوحيدة! التي سيكون ممكنا أن استفيد منها لاستعادة نورا، لأعيد الزمن الى اللحظة التي جاءت فيها لتعرف إن كنت أرغب في الزواج منها أم أن عليها ان تمضي قدما في مشروعها للزواج.

قال شيخ النور بعد فترة صمت، بدا كأنه كان يقرأ فيها أفكاري:

أول مرة أعرف عبد الفتاح السجمان دا كان بيحب! أنا كنت فاكر انه زول سكران ساكت، قالوا زمان كان عنده طنبور ودائما حائم من بلد لي بلد يفتش البنات السمحات، وكت يلقى بت سمحة يقعد جنب قريتهم الليل كله يعزف الطنبور ويغني! وما يمشي الا يجوا شباب المنطقة يطردوه. وفي أيام الحصاد يمشي يقعد جنب الاولاد والبنات في حصاد الشمار، يغني معاهم ويبكي! وكت يكون في عزاء في المسيد، يجي يقعد يسمع تلاوة القرآن ويبكي! والحكمة ما بيصلي! وقت الناس تقف للصلاة يقول ليهم صلوا أنا بأنتظركم في الضل دا! ويحب حلقات الذكر، قالوا يمشي سكران يرقص الليل كله في حلقات الذكر.

صمت شيخ النور لحظات، ثم قال: أنا مستغرب كيف أقنعت بت فاهمة زي نورا دي تعرّس واحد سكران حيران زي دا ؟ وفي النهاية كمان بقى مؤتمر وطني ، في سكره على الاقل ما ضر زول. لكن هسع، وكت بطّل السكر عشان بقى كوز، أهو سرق البلد كلها. أكيد وكت جاتك تشوف ليها الخيرة، تكون خدعتها قلت ليها الموضوع خير!.

قلت مترددا: الحقيقة أنا كنت مجرد فاعل خير، والخيرة دي ذاتها ما بعرف كيف يشوفوها، والزول دا كان صاحبي وزميلي، ونورا كانت زميلتي، وانا كنت واضح معاها.

قاطعني النور متلهفا: قلت ليها شنو؟

قلت وكأنني أدفع عن نفسي تهمة عظيمة، كنت أشعر كأنني يجب ان أختبئ داخل نفسي من خطر داهم وشيك: الحقيقة هو كان أرسل ليها واحدة من اخواته، لكن نورا لم ترد عليه.

لذت بالصمت قليلا، لا لأستجمع تفاصيل حكاية نورا، بل لأستجمع القوة اللازمة لأمضي في سرد القصة. كنت انظر الى السماء حين واصلت كلامي دون أن أعي ماذا أقول: جاءتني في المدرسة، نحن استغربنا لزيارتها، لأنها كانت تركت المدرسة من زمن بعد ما اشتغلت في البلدية.

قال النور: وطبعا هو شافها في البلدية، يكون مشى يسرق ليه حاجة!

قلت: هو اصبح مدير إدارة التعليم في البلدية!

ضحك شيخ النور وقال: سجم التعليم وسجم الإدارة، وبعدين وين التعليم اليعملو ليه إدارة؟ ثم استدرك يسألني: خلينا من الزول دا ، إنت قلت ليها شنو؟

قلت: أنا قلت ليها الزول دا بيشرب، وانا عارف هي من زمان قالت لينا زول بيشرب هي ما بتعرسه، أبوها كان بيشرب بالليل والنهار وكان بيضرب امها ، حياتهم كلها كانت مشاكل! كنت اود أن أمضي في مزيد من التفاصيل حول والد نورا، حول المشاكل التي كان يسببها لأسرته، حول أية شيء يبعدني عن حكاية زواج عبد الفتاح من نورا، لا ألاحظ أنني كنت أهيئ نفسي وأهيئ حتى العالم من حولي لإعادة الزمن، الى زمن نورا كبديل لفشلي في إعادة الزمن الى ما قبل غارة الانتينوف!

نظرت الى النجوم التي بدت لي تهم بالسقوط فوقنا، كأنها تهرب من جحافل ظلام أو ضوء تتبعها دون هوادة. ودون أن أعي وعورة الطريق الذي أمضي فيه، لم أستطع أن أشرح لشيخ النور أنني كنت أود أن توافق نورا وأن ترفض في الوقت نفسه! كنت أريدها ان توافق على الزواج من عبد الفتاح حتى لا أشعر بالذنب من تركها تنتظرني دون أمل، كان قلبي معلقا بالإشارة التي ستعطيني سطوة مؤقتة على الزمان! وكنت أتمنى أن ترفض دون أن اجد لذلك تفسيرا ربما لأنني كنت أخشى في قرارة نفسي أن أفشل في استعادة الزمن الى النقطة التي أريدها كما ظل الهاتف الخفي يحذرني!

رميت بإحدى القنابل التي احملها فوق ظهري، تركت لساني للحظة يتحدث وحده دون أية كابح، وحين تنبهت وسارعت لاستخدام الكوابح كنت قد تأخرت كثيرا، خرج الكلام من فمي : لو كنت أعرف أنّ ما عندها مشكلة مع الشراب أنا كنت ذاتي بعرسها!

انفجر شيخ  النور ضاحكا، بصوت أقوى من الدوي الذي أحدثته قنبلتي، وقال: أنت اقعد أحسب النجوم، وأحلم بالعرس، العرس داير حلم؟ لو داير تعرس كان مشيت خطبت وعرست، لكن انت الزيك دا هو المؤخر قطر بلدنا دي، داير ليك مية سنة عشان تاخد قرار ولو أخدت قرار ما بتقدر تنفذه!

واصلت كأن شيخ النور كان يتكلم مع جدار المسيد، ألقيت بالقنبلة الثانية، كانت تشبه قنبلة دخان، كأنني قصدت فقط أن تضيع الرؤية في المكان، فلا يرى أحد وجهي وانا اتحدث عن نورا: أنا قلت ليها الزول دا سكران!

بدا شيخ النور في البداية كانه لم يفهم ما قلت، كان يحسبني أخفي عيوب اصدقائي بمثل طريقتي في تأجيل اتخاذ اي قرار،ثم فجأة انفجر في الضحك،

اها وقالت شنو؟

يظهر أنها كانت تريد الزواج بسرعة، ظروفهم كانت صعبة شوية والزول دا كان دخل مع ناس الحكومة وأحواله اتصلحت!.

استجوبني حاج النور مثل محقق في جريمة قتل: وما لّمحت ليك حاجة؟

ضحكت بحزن في سري، رغم خوفي أن تكشف النجوم المتساقطة ضحكتي. كنت في الواقع أخشى أن تكشف النجوم أنني كنت بالفعل حتى تلك اللحظة غارق في حب نورا.

ما قالت حاجة واضحة لكن قالت بدون مناسبة:

العمر مشى، حننتظر لمتين لغاية الجبال ما تتحرك!

ضحك شيخ النور، ثم قطع ضحكته فجأة كأنه استدرك أن حالتي كانت تدعو للرثاء، تمهل قليلا كأنه يزن ما يريد قوله،  ثم قال : بالله انت راجل! اكتر من دا دايرة تعمل شنو؟ تمشي تخطبك من أهلك؟.

كرّرت قولي لأمسح ما دار بعده من كلام من ذاكرة العالم.

قلت ليها الزول دا زول سكران!

قال النور: وإنت مالك؟ سكران من جيبك؟ لا ترحم لا تخلي رحمة ربنا تنزل! داير تحجز البنات، وتعيش حياتك العادية ، وهم ينتظروك لغاية ما القيامة تقوم!

يريد شيخ النور بإصرار ان يضعني في مواجهة النجوم التي كانت تسقط داخل وجهي. كّررت للمرة الثالثة، محاولا بيأس ان أمسح كل ما دار بيننا في الدقائق الأخيرة عن الجبال وغيرها.

قلت ليها دا زول سكران!

طيب خلاص عرفنا انه سكران، وسكره دا داير ليه اذاعة، البلد دي كلها عارفاه زول سكران، وفي كل مرة يسكر لازم يجينا باستعراض جديد، مرة جة دخل المسيد دا بحماره ونحن واقفين في صلاة العشاء! والحكمة نحن واقفين في الصلاة وهو سكران ويخطب فوقنا من فوق الحمار! تقول عدمنا الدين لامن عبد الفتّاح السكران كمان يجي يوعظنا!

قلت محاولا بيديّ تشتيت الجبل الذي بدأ يتجمع فوق وجهي: وخطب فوقكم قال شنو!

قال لينا ما تضيعوا وكتكم ساكت، قيامة ما في! ، جدود جدودنا ماتوا وابهاتنا ماتوا ونحن حنموت والحيجي بعدنا ذاته حيموت، والحيجي بعد البعدنا ذاته حيموت والشغلة حتكون مدورة كدا ! وأهو بعد الخطبة دي بقى كوز! سبحان مغيّر الأحوال! والكيزان يفرحوا لو لسة مصر إن قيامة مافي! عارفين نفسهم وكت يجي الحساب، حيطلعوا مطلوبين!

صمت شيخ النور قليلا كأنه كان يفكر في شيء ما يخص خطبة السكران، ثم قال سيبك من كلام السكارى، البت قالت شنو وكت قلت ليها الزول سكران، حيران!

 ترددت قليلا ثم قلت، قالت: وفي زول واعي الزمن دا بيمشي يعرّس ويتحمّل مسئولية!

في تلك اللحظة اكتشفت ان العبارة نفسها كانت جبلا آخر، رغم انني لم ألحظ شيئا حين حفظتها في ذاكرتي طوال تلك الشهور!

وضعت يدي فوق عينيّ، لأحميهما من النجوم المتساقطة، لكني كنت أرى النجوم تسقط داخل وجهي رغم يدي التي كانت تغطي وجهي. فجأة تصاعدت في حمى الخطر المحدق بنا من كل جانب، صوت دقات طبول مكتومة. كانت تتسرب من باطن الأرض، من آبار الماء الجافة المهجورة، من الخيران الجافة ومن الأودية الغارقة في نبات الحلفاء، ورطوبة نوار الليمون.

عندها فقط رفعنا رؤوسنا قليلا من مخابئنا، وبدأنا نتعرف على العالم من حولنا، كأن دقات الطبول التي مضت أمواجها الإعصارية، تغرق العالم من حولنا، كانت تعيد الحياة الى الصور المحفوظة في رؤوسنا، دون أن نتعرف الى مناسبة وجودها في ذاكرة نسياننا الجماعي!

تنحنح شيخ النور في يأس، كانت المرة الاولى التي يبدو لي فيها يائسا، كان يميل للتشاؤم أحيانا لكنه لم يفقد الأمل في حدوث تغيير ما، يعيد العالم القديم، بدلا من الخراب الذي يحل في كل مكان. كان الأمل دائما يعقب تشاؤمه، يتحدث عن صعوبة الحياة، عن الجوع والغلاء. عن فشل كل شيء. ثم يقول: بكرة انشاء الله يعود كل شيء افضل مما كان زمان، والناس دي تتحاسب كلها على تخريب البلد دا.

تريث قليلا ثم قال: إذا هي أخدت قرارها طيب جاية تشاورك في إيه؟

خفت أن يسقط من جوفي جبل آخر ولا أجد شيئا أمسحه به من الوجود. فلذت بالصمت، لكن شيخ النور تطوع بإحضار الجبل بنفسه.

قال بعد صمت يائس من ردي: في الحقيقة جاتك، عشان تودّع الجبل ! جاية تشوف يمكن في زلزال حرّك الجبل شوية ولا سواه بالأرض!

قلت لشيخ النور: على كل حال أنا مسافر، كنت قررت بعد عودتي الى القرية، لو طلبوا مني أن  انتقل الى مدرسة ثانية ، استقيل واشتغل في الزراعة، لكن الان ، كدت أقول بعد زواج نورا، قبل أن استدرك واقول: مشيت مكتب التعليم طلبت منهم ينقلوني أي مدرسة في الولاية او خارجها.

شيء ما كان يمنعني من الاعتراف أنني كنت بالفعل ارى في نورا شيئا يعيدني الى نفس زمان زوجتي الراحلة، كأن حضورها كان يعطيني سلطة غير مرئية لأدوس على أزمنة الحزن في ذاكرتي، ينبت الفرح في كل شيء من حولي. كنت أشعر أنها الوحيدة التي يمكن ان تعيد ذكرى أيامي السعيدة قبل تلك الحادثة الرهيبة. لكنني رغم ذلك لم استطع أن اقوم بأية خطوة رغم أن نورا كانت تشعر بأنني أرغب في الزواج منها، وكان ذلك السبب الذي جعلها تزورني قبل ان تتخذ قرارها بالزواج، ألمحت لي مرة، كنا نتحدث فيها في أشياء كثيرة، نقترب ونبتعد عن الحب بصورة ما، كنا وحدنا نقوم بتصحيح  أوراق الامتحانات، وقد اقتربت نهاية العام الدراسي، حين رفعت رأسها فجأة، وأزاحت كومة الأوراق أمامها، كأنها تريد وضع فاصل زمني بين تلك اللحظة، وما سيحدث بعد ذلك:

أشعر كأن لديك شيء تريد ان تتقاسمه مع آخرين؟

قلت للأسف ليس لدي سوى حزن يكفي لتقاسمه مع العالم كله، وليس مع شخص واحد فقط!

صمتت، شعرت أنها على وشك ان تشعر باليأس من ناحيتي، حاولت أن اخفف من وقع ردي عليها، قلت ربما يجب أن يقاسمني شخص ما هذا الحزن حتى لا أنهار يوما وأنا أحمله فوق كتفي ليلا ونهارا!

لاحظت أنها ابتسمت ابتسامة خفيفة سرعان ما أخفتها داخل قناع وجهها، كانت معتادة على طريقتي في اغراق المكان حولي بسيل أحزاني الشخصية ومن ثم محاولة أن امد يدي لإنقاذ الاخرين من الغرق فيه.

قالت وكأنها تتحدث عن موضوع آخر: تبدو وكأنك في انتظار شيء ما! كان ذلك حقيقيا، كنت بالفعل أحيا على نبض ذلك الانتظار، انتظار ينبض في داخل جسمي بدلا عن القلب.

كنت أنتظر حدوث المعجزة، معجزة عودة الزمن الى الوراء، الى ما قبل غارة الانتينوف. كان الهاتف يزورني اثناء نومي، ويشرح لي في كل مرة الاشارة التي سأراها وسيمكنني حين تظهر أن أعيد الزمن الى النقطة التي أرعب في أن أبدأ منها من جديد. كان الهاتف يحذرني في كل مرة، سيعود الزمن ولكن ليس الى الموت. لديك ثلاث فرص، لا تضيعهم في محاولة العودة الى الموت. لكنني بالرغم من ذلك كنت مقتنعا أنني سأستطيع استعادة اللحظة التي حين تسربت من بين يدي فقدت كل شيء. حين رأيت نورا في المرة الأولى، كنت انظر من خلال النافذة مرتعبا وهي تمد يدها لتصافحني! لم أسمع صوتا غريبا عبر النافذة التي كان عصفور أبو البشير يغرد فوقها، كما شرحت لها. لكنني في الواقع كنت أبحث عن الجبل. فمشهد نورا وهي تجلس الى مكتبها وكومة الكتب والأوراق فوق المكتب لم يكن ينقصه سوى جبل تلودي في الخارج، لتصبح نورا هي زينب. وليعود الزمن سبع سنوات الى الوراء بكل تفاصيله  السعيدة التي اختفت وراء الموت.

أرحت رأسي على حصير السعف، كانت دقات الطبول تدوي ببطء في وجهي، كانت تشبه زلزالا عكسيا، زلزال يهز الأشياء ليعيد ترتيب كل شيء في مكانه، زلزال يغربل الأرض ويخرج الصخور من باطن الأرض يعيد تجميع جبل اندثر ودفنت معظم صخوره في زحف الرمال. كان الجبل يتجمع في وجهي، فرأيت زينب يوم جاءت لتنضم إلينا في المدرسة. وهي تجلس على مقعد صغير في ظل شجرة السدر في الفناء بانتظار حضور مدير المدرسة. رأيت بريق عينيها الحزينتين الغارقتين في ضوء الضحى، ووجهها الأبنوسي الجميل، وإشارات ضوء الفجر البعيد القابع خلف حزن عينيها .

 

 

 

 

* روائي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى