صيف الغربان
ما لم يقله التلميذ، وحكاه لشيخه الأستاذ.. ( أغربة تأكل لحم ظهري، ويفيض الألم حتي يبلل نعاسي، فأهرب من النوم؟ )
أنتهي إلى أن الحلم ترف طبقي ما إليه سبيل!
قال: أعنى حلم الصيف!
قال: والنوم نفسه أضحى موجعاً!
قال : إنها الغربان؟
ماذا لو ولدت قبل ميلاد الإنسان؟ قبل الزمن؟ دون اعتبار الكشوفات التي يعتمدها
علماء الحفريات ، وثائق لدعم نظريات علم التاريخ!
دهسني الزمن، ولم يعتذر!
كل ذلك ملحق بأحلامي المرعبة، والتي تهاجمني فيها الغربان، وتنقر لحم ظهري نيئاً.
وهل تشكل الكارثة يقيناً يطمئن إليه الكائن، كنهاية محتملة لهذا الوجود، بما فيه أحلامي المرعبة؟
كم تمنيت أن أعيش موازٍ لعمري! وأنا أراقب هذا الكائن العجيب المدعو النور احمد علي، وهو يتحرك في الزمان والمكان، يتعثر، يظلع، يقع ، يقفز فوق مطبات الوجود. يعشق أخطاءه ، ويعشق عمره ويصاحبه، ثم يصادقه!
كم تمنيت أن أخذ بيده، واقيله من عثراته الكبرى، وأنقذ عمره من الهدر.
وإن أعيتني هذه الأمنية، أتمني أن أرقب موته ، وأري كيف تسير الأمور معه في عتمة العدم. من يقابل هناك؟ ومن يكون رفقته في تلك المتاهة ؟ وهل الأمر مربوط بانفجار آخر كبير؟ ويكون الملك هو سيد تلك اللحظات المشحونة بالقلق والتوتر؟
مؤذٍ الملك، وقيل قاتل!
مشحون أنا بالعواصف، وكلما أوشكت على الانفجار، يراوغني العدم، ويجبرني على الترتيب حتى اطمئن لعدمي.
هل تعترف الكتابة / القصيدة بالعدم؟ وكيف تراوغه، وتذهب لشأنها، وتواصل سيرورتها غير معترفة بالوقت؟
وحين تهاجم الغربان لحم ظهري في الحلم، لا أصرخ ، خوف أن أزعج أحلام القرية، ولا أتعب من النقر، وربما بدأ لي الامر، أشبه بانغراس شوكة في لحم الرجل، وكم يبدو انتزاعها أشبه بالدغدغة، تاركة ألماً لذيذاً ؟وفي الصبح أصحو معبأً بالألم اللذيذ! وفي المرآة أنظر كلي مبللٌ بسائل الألم، التفت إلى فراشي مبلل كله بذات السائل اللزج، وبقايا من نتف اللحم منتشرة على كل مرقدي، أخجل من نفسي ومن رائحة الألم المرهقة، وبقايا اللحم الحي تصرخ من قسوة الألم.
أنظر أسفل مرقدي فأجد الألم قد فاض خارجه (مرقدي) فارضاً سجادة إضافية من نسيج الألم النادر!
يا رب الألم، ماذا تقول زوجتي، إذا استيقظت فجأة عن هذا الذي يحدث؟ ولكنني اطمأننت، فعادتي مع هذا الشيء: أنه ومع خيوط الفجر الأولى تنسحب الغربان انسحاباً تكتيكياً، ولكنني اعتدت تكرار عودتها!
والغريب… في الصبح، يعود كل شيءٍ سيرته الأولى.. لحم ظهري إلى حالته قبل النهش الغرباني، مع اختلاف يسير حيث يترك الألم سيرته الذاتية مدغمة في لحم ظهري، فقد يحتاجها ذات صيف ليل.
ونتيجة لتكرار ذلك الحلم وتفاديا للألم، اعتدت النوم على ظهري، تفادياً لألم محتمل، هل التمرد مجدٍ؟!
هل أخاصم النوم؟!
ما الذي يحدث أن تمردت على النوم؟
هل أعشق ألمي على سنن كبار المتصوفة؟؟
حاولت عقد صداقة كاذبة مع الغربان! لم يكن الأمر سهلاً كما توقعته، فالغربان متحولة وفي بعض أطوار تحولاتها تبدو اشبه بصور الملائكة في المخيال الديني، واعرف انها حين تبتسم، تكون بأقنعة مموهة للشيطان!
هل قلت الشيطان؟
عليك أن تفك عقال خيالك، للقبض على صورة محتملة للشيطان، وأن فشلت فلا جناح عليك، هي فقط استراحة لما قبل دورة الألم ، هذا الألم الذاتي التجريبي، لا أحد غيري يحسه أو يتصوره!
** لست مجهولاً عند الكثير.
** كلما اتسعت الجغرافيا أفيض عنها
** حبذا اللا مكان وطناً:
فيه تختفي كل الصراعات، وعلي رأس القائمة الصراع الطبقي، وقس على ذلك قبائل الصراعات العديدة.
** لا أحد يشعل حرباً في اللامكان.
** لا أحد يبيع سلاحاً للامكان.
وبذلك يكون كل الذين أعرفهم مواطنون جغرافيون، وأنا الوحيد الكائن العدمي، وغرباني أيضاً عدمية؛ وأنا أنسبها لي بذريعة العدم المشترك.
**في الليل تنقر غرباني لحم ظهري، فأنا الوحيد الذي يحس تنقيرها، ويحس بألم ذلك التنقير، بل وأراه! نعم أراه!؟
** وفي الصبح أرقب تحولاتها ،فأراها بشراً، يموهها الالم، وحتي ابتساماتهم، يستطيع بدني قراءتها منسوبة لغربان الليل.
** هي حكر لبدني.
** أنهم لا يرونني!
** أنهم لا يعرفونني!
** لا أرغب أن أكون: من يدري ولا يدري؟!
** وحدي أطوف في المدى القاتم بين اسمي ورسمي.
** وحدي هبوب لا يهادن!
**ألمي لي.
** دمعي لي.
** وهذا الطريق لي، أنا من اخترعه، وانا من مشاه
** وكل أحزاني الصغيرة لي، وإن كبرت، أعطيها نسب سلالتي، حتي لا تهزم إذا اختلطت الأنساب!
** ومقتاتوا لحم ظهري لا يدرون أن ظهري بوصلة لخارطة الألم ،وظهري يتقن فصاحة الألم.
** يقول ظهري حين تعبئه الرياح:ـ لا تنظر خلفك، لن ترى الغربان، وحين تقع عينك عليها تموه نفسها وجعاً بالعين! هل ترى وجع عينك؟
** الغربان كائنات تعشق اللحم النيء، وتكره الشعر والجمل المفيدة.
** الغربان أساطير يطلقها الرب بغتة في ليل الغوايات.
** حين تسود الغربان الليل، يأذن الرب بهطول الكوارث!
** أطلق عليه صيف الغربان! أنه الصيف الذي يضجر الأحلام، فتهرب شاكية للرب عطالتها!
********
** حدث كل ذلك ذات صيف قادم من النصف الثاني من هذا القرن القلق.
** الزمان قرية الزندية ؛ قرية حقيقية ، من قري سهول شرق النيل الابيض، لم تنجح الجغرافيا، في تأليفها، فتركتها مهملة علي ذمة المكان، فبقيت متحولة في أكثر من مكان، ذات ليل ممعن في الدكنة، أصاب أحلام سكان تلك القرية، فزع شديد، فخرجت تهرول في كل الاتجاهات؛ بعضها كان قد انهي دوره كحلم، وبعضها قطع أحلامه، وكثير لم تبدأ بعد دورتها كأحلام؟
** كل الأحلام في تلك القرية تركت أبدان أصحابها، وهامت في أزقة القرية غير المنتظمة. كانت الأحلام تهرج، ولا تعرف ماذا تقول، أو كيف تفسر أو تفهم ما جرى؟
** ودون اتفاق مسبق، تجمعت الأحلام في ساحة القرية التي كانت مسرحاً لألعاب الأطفال الليلية، هذه الساحة، كانت تقع شمال «كس أم الحرين» : القرية المناقدة والمناقضة لقرية «الزندية» وأمام خلوة الشيخ رضوان، لتحفيظ القرآن، وفي حيرتها تلك – الأحلام – علا صوت الغربان بالنعيق، المر الذي أزعج الأحلام وأخافها.
** ما الذي جرىَ في الزندية ،ذات الليلة الصيفية تلك؟
** لا أحد علي وجه الدقة الذي جرىَ ، وقد ترك الأمر للأحلام وللسادة الغربان. وما روي لاحقاً علي لسان حلم: «أن تلك الليلة كانت فريدة من حيث الحلكة، وفيها أن الأحلام لم تنم جيداً تلك الليلة، ولم تنجز أعمالها الليلية كما ينبغي»
** سُمعَ «صيف الغربان» في حلم منتصف يقظته، حتي كأنه لم يفارق بدن صاحبه. وخرق سؤال صارخ رأسه، ماذا يعني «صيف الغربان»؟ أصغي جيداً إلي نعيق الغربان، الذي كان يهطل من كل الاتجاهات؛ المتخيلة والجغرافية، ولكن ماذا تعني كل هذه الفوضى؟ وفجأةً سمع أنيناً مكتوماً ، حدث ذلك في المسافة الواقعة بين اليقظة والنوم ، كان قد فقد حلمه هو أيضاً، كما حدث لكل سكان القريتين. في تلك اللحظات أحس كأن صوت الغربان ينبعث من تحت لحافه؟
** ذلك كان حلمه الذي لم يكمل عمله الأحلامي.. أخذ من يده اللدنة، في ملمس الماء، وقاده وهو يمشي نائماً، إلى حيث يواصل نومه، ويواصل حلمه عمله الأحلامي، ليعرف على وجه الدقة ما الذي جري في «ليل الغربان»؟؟!! كان حلمه مرهقاً وغاضباً. من ماذا؟ لا يعرف. ولكن ما يعرفه أن حلمه تركه مفرغاً من الحلم، تركه لغربان الليل تأكل لحم ظهره، كلما حاول النوم. تركه للألم يسيل يغطي فراشه ويفيض خارجه!!
** وما زال كل ليلة ينتظر حلمه الغاضب ليعرف………….
* شاعر وتشكيلي من السودان