قراءة ملء الرئتين في ” عطر نسائي” للروائي عماد براكة
حين تلقفت رواية ” عطر نسائي ” التي أمدّني بها مشكورا صاحبها الروائي السوداني عماد براكة مع مجموعة رواياته عبر الإيميل ، سعدت بها كثيرا حدّ الفرح أنّها ستقتحم عليّ اعتكافي وتجعلني أخرج إلى حديقة الإبداع لأعيش معها وأعايش مفرداتها وتراكيبها وشخوصها ووضوحها ورمزها ودلالاتها في دهشة لم تفارقني حتى أتيت عليها بكاملها.
صنّفتها منذ البدء على أنّها أدب نسائي وليس نسويّا ، فالأدب النسويّ ذاك الذي تكتبه المرأة عن نفسها وتفصح فيه عن كوامنها ودواخلها ومشاعرها وأحلامها وتتعرّى فيه بحرفها عن روح الأنثى بشفافية لا يسترها ضمير.. أمّا أن يكتب الرجل بلسانها عن أحاسيسها وأشواقها وعواطفها وأوصافها من روابي أنوثتها فذلك أدب نسائي .. تماما كما فعل نزار قباني في ديوانه ” يوميّات امرأة لا مبالية ” حيث استعار لسانها ـ الذي تحجّب هو أيضا كما هو مفروض عليها اجتماعيّا ـ ليكشف عن دواخلها..
وكما نجد عبر مقاطع الفيديو الإباحيّة في الانترنيت تحذيرا لمن هو دون الثامنة عشرة أو على علب السيجاير تحذيرات بأنه قاتل أو مسبب للسرطان نجد الروائي عماد يصدر روايته بتحذير للمراهقين ومن هو دون الثامنة عشر يقول في تحذير ثقافي ( أرجو الاحتفاظ بهذه الرواية بعيدا عن متناول أيدي المراهقين وأبناء جيلي … المؤلف ) رغم علمه أنّ مثل هذه التحذيرات ليست سوى رفع العتب وأنه قام بالواجب.
وأتوقّع أن تشدّ هذه الحروف الشباب ويقرأونها منعزلين عن محيطهم الذي يلهب ظهورهم بالحرمان ، فيما سيشنّ عليها المحافظون والشيوخ ورجال الدّين هجومهم ويصفون كاتبها بما شاء لهم قاموسهم من ألفاظ الخروج عن السائد وبنقد قد يصل حدّ إشباع غرورهم كحرّاس للفضيلة. فالمفردات تتسكّع على روابي الشهوة وتغوص بين دروب الغريزة وتفتش عن مواجع اللذة وسطوة الجنس، والحروف حين تفعل ذلك تكون شبقة ومشبعة بأنفاس حارّة متلاحقة عمد كاتبها الدخول إلى عمق الممنوع ودائرته في بيئاتنا الاجتماعيّة المحافظة من حيث التصريح ، والتي تحرّم وتجرّم هذا النوع من الممارسات خارج إطاره المباح ودون الحديث عنه لأنّ لغته ليست الهجائيّة بأيّة حال.
قدّمت الرواية عددا كبيرا من الفيديوهات خارج المسموح به وكاتبها يعلم أنّها تعكس الهاجس الممنوع والذي لا يجيزه الرقيب نتيجة الحرمان والكبت . فالرواية بكاملها فن سابع لما حوته من تصوير دقيق للمشاهد بل لما يعتمل النفوس من مشاعر وما تدفع به الغرائز دون مواربة أو ترميز أو تعمية..فهي من الأدب الحسّي والنفسي.. أزمانها وأماكنها محدّدة بدقّة .
و ” أحلام يس ” هي الراوية الأساسيّة التي التقيناها بريئة في أوّل أيّام لها بجامعة الخرطوم ورفيقها ” خالد عزالدين ” الذي التقاها يوم أن أعدّ الطلاب مهرجانا خطابيّا ضدّ إعدام الشيخ الأستاذ المفكر ” محمود محمد طه ” ثمّ المظاهرات التي أعقبت ذلك. لقد كانت صادقة وهي تروي الأحداث التي تمرّ بها كما ” خالد ” وصحبه من المثقفين اليساريين والمبدعين الصعاليك المعوزين، وليس هناك ما يدعو للتخفّي حول القيم الاجتماعيّة والسلوك الذي يفرضه المجتمع.
اختيار ” أحلام يس ” راوية :
وفّق الروائي براكة لدرجة كبيرة في اختيار الأنثى راوية لعدد من الأسباب الموضوعيّة.. منها أنّ الرجل حين تتحدّث غرائزه يصل لقمّة الإبداع من أثرها على الأنثى وكأنّ هذا الأثر يشكل ذروة النشوة لديه ويظلّ يرقب هذا الأثر أثناء إبداعه الجسدي. . ومنها أنّ الأنثى لا تحتشم في أن تحكي حتى أسلوب مضاجعة زوجها لها وكيف كانت أنفاسه تتلاحق حين يعبر المضيق، وتحسّ الأنثى وهي تحكي لصويحباتها وتنشر لذّتها ونشوتها لهنّ بمتعة كبيرة، لأنّها ترمي من ذلك إلى الاعتداد بأنوثتها وما تملك من مؤهلات الإغراء، وتبالغ غالبا في رواياتها لتغيظ الأخريات اللاتي يبادرن باختلاق قصص يدافعن بها عن أنوثتهن.. بينما في العالم الافتراضي اليوم وهي تحكي لصديقها الافتراضي عكس ذلك فزوجها لا يشبعها ويؤلمها ولا يكمل مشواره السريري معها ورياضته غير مكتملة، فهو سريعا ما ينهي أمره قبل أن تكتمل نشوتها وأحيانا يمارس دون عاطفة وهي في أمسّ الحاجة لها.. وتكرّر ذلك مع كلّ صديق افتراضي من أصدقائها.. بينما يربأ الرجل بنفسه أن يتحدّث عن مغامراته السريريّة لا مع زوجته ولا مع صاحبته أو العاهرة التي تستضيفه، ويظل حديثه في هذه الأمور محاط بكثير من عزة النفس والشرف مهما كانت جولاته التي استمتع ومتّع بها الأنثى..
من هنا كان الكاتب موفقا ليختار ” أحلام يس” راوية لقصّته حيث نحت الرواية بمجملها هذا المنحى المنفلت من ضوابط المجتمع وكأنّه يرمي إلى أنّ المجتمعات التي يتمّ تقييدها بالأعراف والتقاليد والمعتقدات وتعلو فيها أسوار الممنوع ويفرض فيها الحرمان يصعب عليها أن تسيطر على شبابها وخاصّة رغبات الإناث وسعيهنّ لإشباع رغبات هذه الأنوثة المتدفّقة..وفي عرضه لشخوصه الرئيسة في الرواية أبرز الحديقة الخلفيّة للمجتمع الذي يُعتقد بأنّه محافظ وملتزم حيث أضاء الكاشفات على هذه الخلفية وباعترافات الأنثى .. وحتى “خالد عزالدين” في هولندا .. رغم أنّ الرجل نادرا ما يكتب أو يتحدّث عن ممارساته خاصّة حين تكون مع عاهرة تبيع جسدها فذلك فقط للتخلّص من التوتّر الجنسي الزائد لديه، ولكن شاء الكاتب أن يجعلها ضمن مذكراته فترويها “أحلام يس”.
المجتمع السوداني ينظر إلى “أحلام يس” على أنّها منفلتة تلهث وراء نزواتها وإشباع أنوثتها حسب ما قادتها إليها الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصاديّة، تماما كصديقتها التي وقعت في فخ الأصلع صاحب الوكالة ورمز الرأسمالية..
رؤى فلسفيّة:
وردت في الرواية بعض الرؤى الفلسفية من خلال بعض الحوارات بين أحلام وخالد:
ـ حياديّة المثقف يا حبيبتي تعني موافقته على إبقاء حالة التخلّف كما هي .
ـ طيّب أين هو المثقّف الغير محايد مازال التخلّف لازال قائما ؟
ـ أنا أتحدّث عن المعرفة بمعناها العميق.. إنّ أركيولوجيا المعرفة عند ميشيل فوكو تعني أنّ الأيديولوجيا تتسرب في كلّ أنواع الممارسة الحطابيّة.. وأنا أعتقد أنّه لافرق الآن بين خطاب السلطة وخطاب المثقّف.
ـ ماذا تعنيي ؟
ـ أعني أنّنا نحتاج لمعرفة لها استراتيجيّة تميّز أفكارنا، لثقافة خاصّة بنا.. فمثلا الأطبّاء لهم خطاب خاص بهم جاء نتاجا لتكيفهم مع أفكارهم.. فمصطلحاتهم العلميّة انبثقت من خلال فصل الأعراض عن المرض أو فصل الدال عن المدلول والله أعلم ص25
- لقد علّمني أنّ الإنسان الصامت يدعم في الظلمة باستمرار، وأصبحت أحدّق في المعرفة جيّدا قبل أن أعبر شارع الأفكار المتسارعة . ص25
- الدهشة ملل كامن داخل قوقعة سرعان ما نعتاد عليه .
- هل تعلمين أنّ مفردات الحوار السياسي منغلقة على معنى ثابت ولا تستطيع أن تنفتح على معان متصارعة.. فطوبى للمفكرين والأدباء..ص15
- ما أبشع أن ترى الكلمات عارية لا يستر عريها حتى قميص الحبر الناشف..ص21
المناخ الثقافي :
- أصبحنا من أميز العشاق في الوسط الطلابي ، وزحفت علاقتنا ومدّت براعمها خارج نطاق الجامعة لأمسيات ثقافيّة شيّقة في اتحاد الكتاب ، وعروض سينمائيّة بالمركز الثقافيّة.. حفلات صاخبة وجلسات استماع بكليّة الفنون الجميلة .. عروض مسرحيّة بقصر الشباب والمعهد العالي للموسيقى والمسرح..
- هو يعتقد ويؤمن بأنّ العمل الحزبي في فترة الدكتاتوريّة أكثر متعة، ويعجبه النضال في الخفاء، والسريّة تستهويه ويستلذّ بها..ص25
- أذكر في إحدى الليالي نصف القمريّة كنّا بالمركز الثقافي الفرنسي لمشاهدة فيلم سينمائي عظيم (مقتبس من إحدى روايات الأدب الروسي) ص28.
أجواء الشباب اليساري وأسلوب حياته:
يقدّم الراوي لوحات متعدّدة للشباب المثقفين والشعراء أصدقاء “خالد عزالدين” حين تتعرّف عليهم أحلام
- عرّفني بأصدقائه
– هذه حبيبتي الأكبر منّي إحساسا..
ملامحهم متشابهة مثل لغتهم .. أجسادهم بائسة ونحيلة .. ضلوعهم بارزة كمفرداتهم .. عقولهم نشطة وفي حالة نحل جائع وتنقيب مستمر.. ألاحظ أزرار قمصانهم العلويّة مقطوعة لا أدري هل يتعاركون في الأمسيات؟ حتى خالد عزالدين له نفس الخصلة ممّا جعلني أسرح دائما في شعر صدره (وفيما بعد سأكتشف زحمة مواصلات أحياء الكلاكلة وأمبدّه) عندما يأتون لزيارة خالد عزالدين في الجامعة كنت أتوسّطهم عمدا وأجلس معهم في نصف دائرة حول حاجه آمنه مستمتعة بمناكفاتهم لها وأراقب نظرات معجبيهم من طلبة وطالبات.. أحسّهم يحسدوني على جلستي فأغيظهم أكثر بمشاركتي في المناكفة والنقاش.. وأشعر بسعادة مفرطة والطلاب يسألونني عنهم وعن أخبارهم، وأصبحت الناطق الرسمي باسمهم وأعلم بأماكن وتواريخ قراءاتهم الشعريّة..ص 26
- منفعلة ومندهشة بحياتهم ورغم عوزهم تمنيت أن أحياها وأعيشها حقيقة.. لياليهم مثمرة وأماكنهم مختلفة .. إنتاج مفرداتهم الحديثة لا يتوقّف حتى أثناء العقوبات الاقتصاديّة .. ولغتهم لا تتجمّد ضمن الأرصدة.. ظروفهم متساوية كمرتبات عمّال “الدريسة” لقد أصبحوا أصدقاء مسجونين في فكرة بحثهم عن بعض.. خطواتهم لا تحفظ دروب منازلهم الخاصّة .. منزوين دوما في علاقات معقّدة.. فقراء أصحاب متربة لا يفترقون إلا عندما يعتلي الملل ربوة أذهانهم أو يندس بينهم جوع منافق ويفتنهم فيحتمون بطعام أمّهاتهم. ص27
- كنت أعتقد أنّ الحرمان والعوز وتلك المعاناة هي التي أنجبت إبداعاتهم .. ولكنّي اكتشفت الآن أنّ الفراغ وعدم المسؤوليّة مع قليل من المعرفة كفيلة بإنتاج أضخم أنواع الإبداع..
- وأتساءل لماذا أدهشتنا إبداعات اليسار فقط ؟ هل لأنّها كانت تنتصر للفقراء في خيالهم. أم هي مجرّد صدفة؟ فأصحاب الأموال والكروش الكبيرة ليس لديهم الوقت للاطلاع على الإبداع أو إنتاجه، فهم في عمل دؤوب لزيادة أموالهم .. أمّا الفقراء فهم فقراء لذا يكدّسون المفردات ويحتكرونها.. يدخل جمل(وهو الحبل الذي تجرّ به المركب) من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنيّ في ملكوت الإبداع. ص27.
لوحة القمع البوليسي لطلاب الجامعات:
- ” حدّثني عن إعجابه بالمهندس محمود محمد طه (وهو مفكر سوداني إسلامي أعدم بسبب أفكاره) ولم أعد متعاطفة معه مثل أول .. فوالدي يقول إنه زنديق وكافر .. ورغم ذلك قرع داخل ذهني جرس المزاد حول التحف والقناعات النادرة” ص17
- ” اضطربت خطواتي وفزعت وتبعزقت أفكاري عندما رأيت سور كاكي خارج البوّابة الرئيسية ويمتد على طول شارع الجامعة .. مجموعة من قوّات حفظ الشغب متمترسة على طول الطريق.. حتى الممر الذي يؤدّي إلى مبنى الداخليّة أغلقوه بشاحناتهم وسحناتهم الصارمة ” ص17
- ” أتذكر محاذير أبي والوصايا.. أحاول أن أهتدي لمخرج من الخلف فأصطدم بجدار غاضب لا يحتمل فكرة التراجع.. شعرت بنفسي داخل أحشاء المظاهرة تائهة بين انفعالاتهم المعويّة.. راح الطلاب ينشدون أغاني وطنيّة في تحدّ من نوع آخر لإثارة حفيظة السور الكاكي الذي ظلّ محافظا على صرامته” ص18
- ” متمترسون خلف دروعهم الزجاجيّة .. متحصّنون بتميمة الغاز المسيّل للدموع .. الهتافات تنقر على خوذاتهم الحديديّة وتستفز أذهانهم.. أصابعهم الخشنة تلاعب غمّاز العصا الكهربائيّة متلذّذين بأنّهم يملكون داخلها تيّارا كهربائيا معتّقا وسيستردّون كرامتهم في خطوة قادمة..” 18
- أطلقت قوّات الشرطة عيارات ناريّة في الفضاء كأنّها تصطاد صدى الهتاف، رأيت اللعنات تسقط ميّتة على رؤوسنا وتسمّم الجو بغاز خانق.. رحت أصرخ وأرتعد في مكاني.. أحسّ بهيجان في عيني وأدمعت بغزارة .. زوبعة وفزع وصراخ حولي.. صوت ضربات على العظام أسمعها وأصرخ بتشنّج.. لقد انتهكوا الكتلة الطلابية بعصيّهم .. ضرب وركل .. اختلطت أجسادنا وتزاحمت..”ص19
قيمة الرواية الموضوعيّة :
إنّها واحدة من الروايات التي عمدت إلى توثيق الصراع في المجتمع السوداني مع الأنظمة العسكريّة ودور هذه الأنظمة في :
– تشريد أبناء السودان لتحتويهم الغربة في أنحاء متفرقة من العالم.
– صدام العسكر مع طلاب الجامعات وقمعهم وتقليص دورهم النضالي وحصره في تلقّي المناهج فقط..
– ” تحدّث عن بطش الحكومة وجسارتها وفساد القضاء وانهياره، واعتبر المحكمة صوريّة وكاريكاتوريّة ولا يحق لها أن تعاقب شخصا بالإعدام بتهمة كتابة منشورات معادية للسلطة” ص12
– إعدام المفكر السوداني محمود محمد طه وهو شيخ جاوز السبعين من العمر..
– عوز المثقّفين وفقرهم وتشرّدهم، وعدم قدرتهم على مجابهة احتياجات الحياة الأوّلية.
– خروج الشباب وتمرّدهم عن القيم التي كانت ضابطة للمجتمع وإطلاق العنان لإشباع الغرائز.
– استمرار الصراع المسلّح مع النظام حيث لم يترك لهم مجالا سوى لغة الصدام.
– مواصلة الحزب الشيوعي اجتماعاته رغم حظره، وضياع البوصلة من المنتسبين إليه بعد فقد أهمّ قياداته ومفكريه..
– الارتقاء بالمفردات والمصطلحات لدى مثقفي اليسار تمرّدا على السائد ووالرجعي والسطحي والتركيز على الجانب الثقافي والفكري..
– كما عرضت الرواية بجلاء أنّ التحرّش لإشباع الغرائز دائما ما يأتي من الأنثى ويتجاوب معها الرجل إلاّ في حالات الفراغ والضياع التي يعيشها في غربته.. ” ولكنّ خالد عزالدين كانت له آراء أخلاقيّة لا يتنازل بسهولة عنها، وكان لأنوثتي رأي آخر” ص30
– كما أنّ التركيز على الوصف الدقيق لمشاعر اللغة الجسديّة الذي نجحت به الرواية إنما لكسر حاجز الممنوع ويعرّي طبيعة هذه العلاقات التي جاءت نتيجة الحرمان والكبت من جهة وسدّ الطريق أمام الشباب من أداء دورهم الفاعل في الحياة السياسية من جهة أخرى ، وهو أمر لمسه كثير من المختصّين إثر إغلاق العسكر لبيوت بنات الليل التي كانت في استراتيجيتها حامية للمجتمع فكانت النتيجة أن انتشرت هذه الظاهرة بين الأسر وفي الحدائق الخلفيّة للمجتمع لتبديد هذه الطاقة خاصّة مع تردّي الوضع الاقتصادي.
القيمة الفنّية للرواية:
تتمثّل القيمة الفنّية للرواية في رقيّ الأسلوب وسلسة السّرد وعفويّة التداعي وتلقائيّته وتناغمه مع الشخوص .. كما تتمثّل في كسر التوقّع باستخدام التداخلات بين المألوف والمتآلف ، ممّا منح الأسلوب جماليّات فنّية لا تتكئ على سطحيّة المتداول من التعابير، الأمر الذي منح الرواية بعدا جماليّا وأسلوبا شاعريّا، وحيويّة فاعلة لدى المتلقّي وذلك على امتداد الرواية التي تتجاوز المائتين وخمسين صفحة نعرض لنماذج هذا الكسر للتوقّع:
- انتظرت على عتبة توقّعاتي
- ممشى شفتي
- أربط حزام بهجتي لحظة هبوط القلق..
- العبرة تحتشد في حلقي فأقيّدها وأصلبها على جدار اللهاة ..
- تتثاءب رموشي..
- أتأرجح كطفلة يتيمة بين الأزمنة..
- أمسك بتميمة الماضي بين يديّ وأصهرها بتوابل الحاضر..
- أحلّق في حذافير الماضي وحتف الأمنيات..
- ينفش الهواء فستان ذاكرتي ولا أستحي
- أنتف مخاوفي وأتصفّح حواراتي في سيناريو الماضي..
- هي لحظة خارج زمن العشق تظلّ صبيّة ولا تشيخ..
- صرخات مفزعة عن الشارع السياسي، وتهشّم مصطبة الأخلاق الجانبيّة
- يعيدني لرصيف متاهتي
- لقد استطاع اعتقال ذهني.. وتجسّس على مشاعري
- ورمى شباك توقّعاته على آخر معاقل الاحتمال
- ثمّ أطفو على سطح النهر لأستنشق بعض مبادئي..
- أرى فساتين التضحية تناسب مقاسي وأبدو أنيقة في المواقف البطوليّة..
- وقف خوفي على أمشاطه..
- أمّا الشيء الذي رفع فستان حسرتي فوق الركبة عندما تذكرت وصايا أبي والمحاذير..
- رحت ألملم في بلوذتي ودموعي.. وابتلعت توتّري..
- أخفيت عنه أجنحة فرحتي..
- ينفضن عن ثيابهنّ صفق الخجل..
- بصعوبة بالغة كنت أعبر شارع منولوجي الداخلي بعد أن يرسم لي خطوط عبور المشاة..
- وصلنا محطّة الإدمان الرئيسية دون أن نستبدل قطارنا أو نطّلع على بوليصة شحن الأحاسيس.
- إذا به يلتهم شفتي ويقتل صرختي أمام عتبة فمي قبل خروجها..ص39.
الأثر القرآني في الأسلوب:
واضح من استخدام بعض التعابير ذات الصلة بآيات قرآنيّة ممّا ينمّ عن خلفيّة دينيّة كان الكاتب قد تسلّح بها خلال مراحل دراسته الأولى:
- ” وإذا المشاعر بعثرت والمرتبكة سئلت بأيّ ذنب أدمعت ” ص9
- ” وترى الطلاب سكارى وما هم بسكارى ولكنّ الإنفعال شديد” ص17.
التداعي :
وهو أسلوب في الاسترسال والانتقال دون إحداث فجوة أو فراغ يحدّ من انسياب المتابعة للقارئ ويتيح للكاتب التجوّل في ما يشاء من ردهات العمل وهو أسلوب يحسب لقيمة الرواية الفنيّة:
- واستنشق معه دخان سيجارته بصراحة أناقشه في (تلك الرائحة) و(نجمة أغسطس) وهما روايتان للكاتب المصري صنع الله إبراهيم.
- أحسّها لا تناسب سنّي ولكنّها تنسجم مع اللحظة الراهنة والفستان البنّي الطويل ، تذكرت البن (وغالبا ما يكون مشتهي قهوة سودانيّة). ص19
ويلاحظ تشبّع الكاتب في أسلوبه وخاصّة طريقة كسر التوقّع للمألوف والسائد ( ربط الحزام ، والهبوط، والمخاوف والحوار والسيناريو والشارع السياسي والأخلاق الجانبيّة وشارع المنولوج الداخلي، والمتاهة والاعتقال والتجسس وآخر المعاقل واستنشاق بعض المبادئ ، والتوتّر وعبور المشاة ومحطة الإدمان والقطار وبوليصة شحن الأحاسيس والقتل والصرخة …) مثل هذا الجو المليء بمثل هذه المفردات ودلالاتها تنقلنا إلى المناخ الذي كان يعيشه الكاتب عماد براكة من غربة وترحال وتوتر ومعايشة ما يتم على الشباب من اعتقالات وتعسّف من قبل الأنظمة العسكريّة الجاثمة على صدر الشعب السوداني عقودا من الزمن..
تلك قراءة أوّليّة في لوحات الرواية ” عطر نسائي” والتي جاءت على لسان الراوية “أحلام يس” وهدفت بمجملها إلى توثيق مرحلة من أقسى المراحل التي خنقت أجيالا متعاقبة وشرّدتهم وجعلتهم بلا ملامح، وتمّ عرض هذه اللوحات في ثنايا الرواية دون التركيز عليها حتى لا تؤثر سلبا على جماليّات السرد الروائي الأنيق والأسلوب الشاعري الرفيع…
* كاتب وناقد من السودان