ابن عربي يلعب البوكيمون في مقصورة ابن مثنى!
بتقديري أن ابن عربي هو واحد من أخطر المفكرين في التاريخ الإنساني، بل هو الأخطر على الاطلاق. إنه ليس مجرد مفكر ديني، متصوف، بل هو فيلسوف وعالم فيزياء وأكثر من ذلك يتمظهر في كل مرة بثوب وبآخر. إنه يشبه تماما “الحقائق” و”النظريات” التي تكلم عنها والتي ربما بدأت في زمنها وإلى اليوم في كثير منها غامضة ومربكة تشبه الخيال.
ظهور لعبة البوكيمون التي شغلت العالم في الفترة الأخيرة وحققت اقبالا واسعا في ظرف أيام وجيزة، بل أثرت على البورصات والاقتصاد والمخيال الجمعي، أعادني لسبب ما ليس لي أن أفسره، بإعادة قراءة ابن عربي الذي كثيرا ما توقفت عنده.
كنت قد تركت سرير النوم في ساعة مبكرة قبيل الفجر بقليل، لأرى نفسي بدافع غير مفهوم، أمام فكرة ربما قرأت عنها ذات يوم، أو تخيلتها أو امتزج هذا بذاك، كانت أمامي ساحة أو حديقة كبيرة يلعب فيها أطفال من شتى بلدان العالم. أطفال أبرياء مفعمين بالبشاشة واللطافة، من اليابان إلى أمريكا مرورا بالصين والهند والشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا إلى أمريكا الجنوبية، بكل سحناتهم وعذوبتهم الإنسانية. هذه الساحة التي تبدو حقيقية ما هي إلا مكان تفاعلي، موجود في أكثر من دولة بذات مساحته وحيزه وتفاصيله التي ليس لها من وجود إلا بإطفاء الإنارة وتحول المكان إلى ظلام، وقتها لن يبقى سوى أطفال الحيز من البلدة المعينة ويغيب سواهم.
وهذه الساحة يمكن أن تكون مكانا للقاء للعشاق والسياسيين ورجال الأعمال، لعقد مؤتمرات وغيرها مما يدعو للتواصل الإنساني، وربما في أسوأ الظروف شكلت ساحة حرب. وهي ربما تشبه تطوير للمؤتمرات التفاعلية لكنها أكثر فاعلية وحقيقة لأن التفاعل هنا أكيد والناس حاضرون بهيئاتهم، يتحركون، حتى أن الأطفال بكل براعتهم في التخيل قد لا يكتشفون سرّ هذه الخدعة.
اكتشفت أن هذه الفكرة المستوحاة من عالم البوكيمون، هي – ليست إلا تطويرا لما وراء الأفكار التي يُسوغها ابن عربي لفهم العالم المادي الذي نعيش فيه.. فابن عربي “يرى الوجود كله خيالات ورؤى وأحلاما تشبه ما يتراءى للنائم في نومه” (ص 245 – عندما تكلم ابن عربي لنصر حامد أبوزيد).
لقد كان ابن عربي صاحب رؤية متقدمة في وعي تركيبة الوجود، ليس على مستواه المادي بل الفكري.. الأهم، وهو ما يمكن أن يساعد في تحرير الإنسانية من الإرهاب والتشدد الذين يضرب اليوم مهددا الأمن والاستقرار، إنه صاحب الابيات الشهيرة التي تلخص “دين الحب”:
لقد صار قلبي قابلا لكل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
إن هذه المساحة التي تجعل القلب موطنا للحب والجمال الوجودي، هي تلك المساحة التخيلية التي رأيتها في تلك الساحة التي تجمع البشر، للتآلف، والتي لن يعود بعدها العالم كما ذي قبل، حيث يجتمع الأطفال منذ الصغر وهم يلعبون ويتعايشون ويضحكون، ليبدأ عالم جديد هو نتاج عصر التكنولوجيا وتطور التقنيات، لكنه أيضا نتاج تصورات سابقة تليدة كالتي جاء بها ابن عربي.
يحكي ابن عربي في سيرته قصة غريبة عن أبيات شعر أنشد بها مع نفسه في مكان يدعى مقصورة ابن مثنى بشرق تونس، ثم وجد شخصا ينشد تلك الأبيات نفسها في إشبيلية بالأندلس بعد ثلاثة أشهر. ما يجلب الحيرة، وهو يعلم حق العلم أن مؤلفها هو – ابن عربي – لا غير!
لكن هذا الالتباس في هذه القصة، التي تجسّد حالة عالية من التخييل الكوني الذي يمكن أن يعبر عن الحقيقة، في عالم – التصوف- وما وراءها حقيقة العالم الغائب الذي يمكن أن تكتبه التكنولوجيا؛ ليست إلا نظرية ابن عربي عمّا يعرف بـ “الموجود في عالم الغيب”.. والذي يمكن تبسيط فكرته في أنه: “ملازم للإنسان من عالم الغيب ينقل ما يدور من حديث منطوق أو نفسي من الإطار الذي يدور فيه إلى خارج هذا الإطار، فيفاجأ الفرد أو الجماعة بحديثهم هذا – المنطوق منه أو النفسي – منتشرا بين الناس الذين لم يكونوا حاضرين، والذين لا سبيل لهم لمعرفة الحديث بالطرق المعتادة”(أبوزيد، ص 44).
بقية القصة أن ابن عربي سأل ذلك الشخص في إشبيلية، ولم يكن أحدهما يعرف الآخر، عمن يكون صاحب هذه الأبيات من الشعر، فرد الرجل بأنها لمحمد ابن عربي فسأله الشيخ (الصبي) مرة أخرى، ومتى حفظتها؟ فذكر له التاريخ والوقت بالضبط وأن ذلك حدث في ليل من ليالي إشبيلية “حيث أنشد بها رجل غريب لا نعرفه كأنه من السياح، فاستحسناها وكتبناها”.
وتتعدد مثل هذه القصص. لكن ليست هذه الحكاية برمتها. فالظل يدل على الشجرة. فالعالم عند ابن عربي يقوم في حقائقه على ما يعرف بالباطن والظاهر، وهذا جوهر ما حلّ الكثير من إشكالات النصوص الدينية وعلى رأسها القرآن الذي لا تفك تعقيدات التأويل له إلا عبر هذا المنحى، مع الإشارة إلى أن ابن عربي وقف ضد مصطلح التأويل تماما، وهو يرى أن القرآن لا يحمل مرمزات أو رموز ليعاد تأويله لأنه ليس شعرا بمنطوق النص نفسه، لكنه يحمل معان يكون فهمها بالاقتراب المباشر من الله، الذات المتعالية والسماع منه مباشرة!
ولكي نفهم هذه المسألة الدقيقة والعميقة بشكل أوسع، هنا لابد من العقل الفيزيائي، إذ يخارج ابن عربي القرآن من النظر إليه كنص لغوي وتاريخي تتحدد دلالته وفقا لقواعد وأصول اللغة العربية، إلى ما أبعد من ذلك من حيث كونه كلام الله وأن الوجود كله كلام الله، وليس المهم عند “العارف” فهم كلام الله من خلال ظاهر اللغة إنما بالاستماع المباشر من المتكلم (الله) من خلال مجالي كلامه على مستوى الوجود والنص، لتتماهي المعرفة في مستويين إنصات لكلمات الوجود وحديث النفس المدربة على السياحة في الآفاق الربانية.
إن هذا المعنى يقود للمجاز الكبير الذي يتجاوز اللغة نفسها وهو موضوع معقد يتضح من خلال مزيد من الشرح والتجربة، ويمكن فهمه ببساطة بمستوى ما يمكن أن تفعله الموسيقى بالإنسان إنها تحركه وتهبه دافعية وقوة وغيرها من الردود دون أن يكون ثمة تأويل مباشر للنص الموسيقي.. للمقطوعة التي نسمعها. لهذا السبب ربما كان للقرآن ارتباطا كبيرا بالترتيل والتلحين “مستوى التلاوة” الذي يحرره من اللغة في منطوقها الدلالي المباشر.
إن عمق أفكار ابن عربي.. تتجلى في قراءتها بشكل جديد ومناظير أوسع وربطها بحيثيات الوعي الجديد للإنسان، وتحريرها من كونها ذات صبغة دينية مباشرة، بالتعامل معها وفق الطبقات الكثيفة من وعي الإنسان والوجود والموجودات والله في ظل علوم العصر.
* روائي وكاتب من السودان