ثمار

قنديل الدهب والليل حكاية النهر

محمد سيف الاخير

همس قنديل الدَّهَب

لا خيار سوى العوم

ردَّدَتْ همستَهُ ضفافي ، كنتُ مشغولاً بشئوونِ الأصيل تشقني أشعة الشمس العائدة لأراضٍ بعيدةْ و بحارٍ أصبُّ فيها و أخرى تُجاورني في الخرائط و إن ذهبت عميقاً في الظُلمةِ بما يفوق مسافةَ إستواء إنحناءاتي و تعرُّجي ، طويل كما البلاد التي أعبرها و مديدٌ مِثْلَ حزنها المُنتظر خلف أبواب لا أعرف لها دروباً  ، عاتي و مزاجي من طميٍ يُخصِّب الجروفَ ، لا أغدِرُ و إن إستعدت ما أقتطعهُ النَّاسُ و خضَّرَهُ النبات لكنني لست معنياً بحكايتي إنما بسيرةِ الشيخ محمد القنديل ولد عبد الله الطِّريفي ، حينما أدرك قنديل الدهب المَشْرَعَ لم يجد مركب الفقيه و لم يكن هنالك سوى صيادٍ عجوز شغلهُ رمى الشِّباك عند مهوى جرفي البعيد عن أي أمرٍ آخر و بعضِ أسرابِ طيور عائدة لأوكارِ هجوعها و غنمايةٍ  مسكها أنينُ ألم فادح عن العودةِ لمُراحٍ ينتظرها و لكأنَّما قنديل الدهب تحسباً لسباحةٍ يتوقعهاْ وضع جراب متون شرح الخليل في رِكابِ الفقيهِ عبد العاطي عند صباحِ وداعهم لأبو حراز مؤكداً للمرةِ الألف أمر لحَاقِهِ بالركبِ مما أضحك جمع الفُقرا المهتاجين بمراسمِ الوداع الطويلة .

توقف عند قيفَتي لبرهة طويلةٍ ، زارتهُ أطياف والده و ذكرى حجَّتهِ التي ماتَ شهيداً دون أن يدركها ، إستعاد تميز أبيه الواضح في علومِ الظاهر و تفرده الذي شهد به الناس فإنطبق عليه القول الشائع ” الحُوار الغلب شيخو ” ، حنَّ لحنوِّهِ و رعايته الرفيقة فإمتلأت روحه بمشاعر شتى و مرت بذهنهِ خاطرات طفولته البريئة و صباه الباكر ، جاش صدره بحنينٍ لا يقاوم أو تصدأ معابرهُ ، فاضت مآقيه بدموعٍ حرَّى أدمت قلبه و أبكته فإختلط ماؤها بأمواهي فإرتجت ضفافي من بحر دار حتى تخوم بحر الروم ، غَشيته كادرات إنصرافه عن الذكرِ و إبتعاده من الدرسِ فعنَّف نفسه و لامَ تكاسلها ، سدَّ أبواب ذرائعها و زجر ضَعفها و إستكانتها للدعةِ و التباهي الذي أفردت لَهُ الأزقةُ آهاتِ ضُل ضَحاويها و طقطقة شِعَب رواكيب قَيْلُولَاتها لكنَّ هاتفاً مّا جعله يستدير صوب البلدة مُعطياً ظهره لخُضرةِ الحراز الداكنة في ضفتيَ الأخرى و لشمسِ الأصيل التي أحالت مائي لأحمر قانٍ كأنها تُكملُ المشهد بما تَعَودتهُ قُبيلَ كُلِّ مغيب ، تشابى موجي علَّهُ يرى وجهه فأبصرتُ دموع أبو حراز كانت البيوت واجمة و قباب الضرائح شاخصةٌ نحو أفقٍ بعيد ، بلل عرق الإضطراب الرمل و غسلَ الحصى ، تاهت أسراب الطيور العائدة عن أعشاشها

 قلت بُكاء المُحِب يهزُّ الأكوان

 سمعتْني أبو حراز فذكّرتْني عهدي القديم مع النُّبل

مائي كتاب الزمان و ضفافي دفّتاهُ  ينحتهُ هَدّامي فتتآكل السطور الغاشمة و يرسُب طَمِي صفحات مجدٍ جديدة و ما بين الخصِمِ و الإضافة تستقيم النبالة و تأخذ عهودي قوامها ، عَنَت أبو حراز تذكيري بمركبِ التشييع المبارك الذي مَخَرَ أمواج دميرتي العاتية دونما ربّان يوجه دَفَّتَه أو نوتِّيّ يمسك مجاديفه ، لم يكن فيه سوى نعشِ الرجل الصالح و كفنهِ الناصع البياض ، أحزنني عويل الرجال و قصمت ظهري مناحات النساء الطويلة ، هيَّجتْ عوالمي نقرات النحاس ، أفزعت الطيور وفرّت من وقعها المؤثر التماسيح و إختبأت الأسماك في مكامنها الآمنة ، كسرت رائحةُ الحنوط جنون حِدّة عِرقي فتماسكتُ في الحزنِ و وازنَ موجي صعود المركب و هبوطه ، تَشريقه و تَغريبه ، جَريه و توقّفه ، لاحقَه المشيِّعون ليومين كاملين و ضحوية فاترة ، تهادى فيهم كيفما شاءت إرادة قيادته التي لم تعرفْ لها الجموعُ صرفاً و لا أدركت لسرّها عدلاً لكنَّ الراحل الكريم إستجلى كُنهها و تحدثت بغموضٍ شيِّقٍ وصيته الحازمة

(( إذا مت لا تدفنوني بل ضعوني على مركب و حيثما رست عليكم أن تواروا جثماني قُبالة مكانِ توقفها ))

رويداً رويداً حلَّ القلقُ محلَّ الترقب الواثق و الخوف بديلاً للإطمئنان الهادئ و إنتصر الضيق على الإثارة و فيض التكهنات الجذلى برغم أنف الحزن ، أولاً تخلفت عن ملاحقةِ النعش النساء و الأطفال و الصبية ، لجأوا لظلال الأشجار و رواكيب الجروف ثُمَّ أنهكَ المشي المتواصل الشباب و الرجال و هدَّ طاقاتِهم البُكاءُ الذي لا يتوقف ألا لينفجر مع قدوم أيِّ مُعزٍّ جديد ، عاد معظم المشيعين من ضفتي عندما صعدت الشمس ذراعَها الأولى في السماء و أعلنت إنقضاءَ ضُحَى يوم الجنازةِ الثالث ، رجعوا لبيوتٍ أطفأ الحداد نيران مطابخها و عبأ الفراغُ غير المحايد باحاتِها و غُرفَها السمراء و رواكيبها الغبشاء ، فراغٌ عريضٌ و عميق أسند الرعاة على جدارهِ عكاكيز سرحاتهم و استكانت لَكثافته الدوابُّ المرهقة بسببِ الجوع و إنتظار العلف ثُمَّ أسلمت لأقدارهِ الماضية احتجاجاتها البكماء و الفصيحة ، وصل الجهد و التعب بالمنتظرين شأواً بعيداً ذلك لأنهم لم يناموا أو يقربوا الطعام ليومين متتاليين فجلسوا يَنكتون بأعوادِ صبرهم الوسيم التراب ، وحدها أمُّ الراحل الكريم ظلت واقفة تُراقب المدى البعيد و القريب ، يزامل انتظارها صوت نِحاسٍ قويّ يهزُّ الأرض و يملأ الفضاء .

إنتصفت شمسُ الظهيرة السماء ، تعامدت أشعَّتها الحارقة و إمَّحَت الظلال ، سكت النحاس ورُفعَ  النداء ، شقَّ صوت المؤذن المتعب دربه المقدور ، صعدَ أعالي ضفافي و أشجار المكان و هبط  صوب مائي و تراب الأرض ، إنحنى و إستقام ، إمتلك أسماع الخَلقَ لبرهةٍ جمعتهم من جديد ، إنحدر كل من بقى صوب ضفَّتي للوضوء ، رمقوا المركب عند دنوّهم من الماء فلاحظوا سيْرَهُ المطمئن صوب الشمال ، حين عادوا بعد فراغهم من تأديةِ الظُّهر لم يروا المركب و لا وجدوا أم الشيخ التي تركوها تتوضأ عند إنعطافة مجراى ، ساروا بمحاذاتي فلحقوا بها بُعَيد المنحنى حيث مُشرع عبور الرعاة و بهائمِهم في الصيف ، كانت أم الشيخ قد أكملت صلاتها و وقفت حين سمعت وقع الخُطى ، حين دنوا منها رأوا البركةَ و الصلاح الجليَّ و أدهشهم الجلَدُ البائن والصبر الجميل الصبر .

سألها أحدهم : وين ولدك شيخ محمد ؟

مدّت أصبعها صوب الشمال حيثُ ترسو المركب و أجابت

– محمد ولدي بان نَّقاهو

لم تزد تركتهم و إتجهت صوب البيوت مشت فتَبِعَتها جموع النساء النائحات و الأطفال المُتَأَثِّرين و سبق خطوها إيقاع النحاس و جرت بين يديها ريحٌ خفيفة عبرتني فرطّبها رذاذ مائي و غسلتْها بعضُ دموع الأكوان .

أكمل قنديل الدهب مناجاته سمعتهُ البيوت و أوصته القباب الشاخصة و حفظت الدروب حِفَنة تراب من وقعِ خُطى مشاويره و أجابت البلدةُ نجواه

“ستطول رحلتك يا ولدي و سترى ما لا يُرى و ستسمع أصوات الوجود لكنك ستعود لحِجري كأنك ما بارحت عيون إشتياقي و لوعتي و لا سافرت في بقاعِ أمي الأرض تحمل أحزانك المقدورة و ستجدني على العهدِ ذاته و الوعد نَفْسِهِ و المحبة التي لا تبوح ثُم بكت أبوحراز غزيراً و نبيلاً و همست في أُذني بوثوقٍ حانٍ :-

هذا الواقف بين يديك سَيبين نقاؤه “

ردَّد موجي الحزين قولها فعدتُ من بطنِ حكايتي و أدركتُ لحظةَ إستدارة وجههِ نحوي و رأيتهُ يُدخل في جيبِ عرّاقيِّهِ الكبير مسواك الأراك و سبحةَ اللالوب  الصغيرةَ و سبع بلحات أُعطيت لَهُ عند مرورهِ بالمسيدِ و فصَّ قرض أخذهُ من شجرةِ سُنُط تنتصبُ قبالة الجروف ثُمَّ قلعَ هدومه و لواها برأسِه كما العُمامةِ و خاضَني حتى بلغ الماءُ أعلى خاصرتهِ ، توقف لبرهةٍ تأكد فيها من شدّة رباط هدومهِ و وضعَ ثِقَلَ جسمهِ على صدرهِ و وازنَ كتفِيه في خطٍّ واحدٍ مع سطحِ مائي و سبَحَ محافظاً بذاتِ الوقتِ على علوّ رأسه حتى لا تبتلَّ ملابسه ثُمَّ منحَ قيادهُ لتياري القوي فحملهُ صوب الشمال  لكنهُ داومَ على ميَلانٍ ثابتٍ تجاه ضفتي الغربية كأنه أراد إختصار مسافةِ وصوله لمُشْرع وَدْ مَدَنِي السُّنّي حتى يلتحق بركب الفقيه عبد العاطي ، رويداً رويداً أنعشهُ مائي الساعي ما بين الدفءِ و البرودة و إحتوى إنتظام موجي و قوة عِرقي إيقاع حركة يديه و قدميه و صاحبهُ ما تبقى من شمسِ الأصيل و حين بلغَ منتصفي إبتلعت الأرض آخر الأشعة و إصطبغ أفقها الغربي بحمرةِ شفيفة ، راق كل رائق و دكَنَ لونُ كلِّ داكن ، إمّحى الحدُّ الفاصل ما بين الأَرْضِ و السماء ، تلاشت في خريرِ أمواهي ضجَّة الضفتين ، نشاط طيورها و تناغم أشجارها و ذابت في عَبقِ نكهتي روائحُ المغيب .

سَبحَ قنديل الدهب بهدوء و سلام حتى أدركَ ضِفتي الغربية ، أغتسلَ من الطميٍ و الرمل العالق ، جففَ جسمه من الماءِ و إرتدى ملابسهُ و توضأ ، صلى المغرب و أدى نوافله الراتبة ثُمَّ يممَ وجهه صوبَ الجنوب و مشى بمحاذاتي و الضوءُ وهنٌ يتلاشى و الليل ضعفٌ يقوى و الأرضُ تعلو لتهبط و تزيد دُكنتَها الأشجارُ . تحركت كائنات الليل و أوت دوابُّ النهار لمضاجع العشب و الحجر و الماء ، تصايحت الصراصير و كافحت اليراعات إنسدال الظُلام الوليد ، أطلَّ في السَّمَاءِ كوكب الُزُّهرة و تبعته الكواكب الأخرى و بعد حينٍ  تبعتها نُجميات الثُريا و العنقريب و غيرها من نجوم و سحبت الفضاءاتُ خروف قُربانها فإستبانَ درب التبانة . تباعاً طرزتِ البوازغُ خيمة الليل العظيمة ، غَذَّ سيره حثيثاً متسربلاً بالليلِ المتكاثف تدفعهُ رغبة مُلِحة في إدراكِ ركب الفقيه قبل أن يناموا ، حين غابَ الشفق الأبيض عن الآفاقِ و دخل وقت العشاء حاذى قنديل الدهب إنداية ضَهَرة ود مدني فإمتلأت مسامعُهُ بأحاديثِ السُّكارى و نُتفٍ من نمِّ دوبيتهم و أشعارِ مساديرهم ، أضحكهُ التقاطعُ و التوازي ، الأصواتُ المشروخةُ و روائحُ المرايس التي تُعبق في الأجواء ، الصيحات الجَذلى و القهقهات المنتشية ، نقرات الدلوكة و الغناء المصحوب بالهزِّ الممراح ، رقصٌ يهزَّ الأرض و يعلنُ عن إنفعاله العنيفِ الغبارُ ، شدَّت يدُهُ اليُسرى خيوطَ الليل الذي يجمعهم و إن تباين العشق و قبضَت يُمناه السِّبْحةَ بمودةٍ فاضت لها دموع قلبه و شَهق ملءَ شغافِه شوقاً لخمرِ الله و إن أقرَّت روحُهُ بطولِ طريق المنال ، لانت تحت قدَمَيْهِ الأرضُ و إنكشفت نتوءاتها و بانت حدباتها و بسطت السماء سجادة خرزها البديعة تلأْلأَتِ النجومُ و سطعت أنوار الكواكب ، طارت الشهب و النيازك برسائلِ الأكوان ، و شعَّ بدرٌ ناقصُ الكَمالِ . برد الليلُ تماسكت رقَّتُهُ و إبتدر انعطافتَهُ الصبِّية فإرتاحت مظانُّ الأسماك و إنشغلت الجروف و الأشجار بتماثلِ الضوء و الهواء و إندمجت التماسيح بلعبةِ قنصها الدّامي ، عندما إنصرف النهر لمداعبةِ طميِّهِ اليابس أسدلَ الليل أجنحته و أستلم خيط الحكاية المضيء ، طوت الأرض مسافاتِها و إسترخى عصب ترابها و إنتصب شوك واديِّها شوقاً للسماعِ .

شدَّ إطمئنان الفتى أوتارَ حنيني فتنفست عميقاً – قال الليل – بلغت دهشتي أوْجَها حين رأيت جرأتهُ تمشي دُكنتي و لا تهاب وعورة البرِّ رغم يفاعته لكأنما التورايخ حابتهُ و إصطفى مرورُهُ المكانَ و تضاريسه الناجزة بينما رافقتْهُ حقوقُ الملكية العجيبة ، قلت لنفسي ما أعرفهُ لم ينقضهُ النهار و ستؤكده قصة نشوء ود مدني السُّنِّي التي يغذُ لها الفتى السيرَ الآن ليُحققِ ما كتبتهُ و حفظهُ الضوء و بصمَ عليه الزمان و إن نقصت عزائمه و تخلل الضعف قوتهُ و    تضاربت في تجلّيهِ الإرادات فالحكاية المتواترة تقول :-

” أنَّ الخوف تَملّكَ السلطانِ بادي ود عدلان عندما إشتدَّ مرضُ إبنه الأثير فهبَّ لعلاجهِ أطباء و سَحَرة و فُقرا أتوا من سنار و بقاع السلطنة الأخرى لكنَّ محاولات التَطبِيب باءت بالفشل الذريع ، خيمت أحزان ثقال فوق سماء بلاط السلطنة و إستشرت ما بين زوجات السلطان العديدات المكائدُ و الحروبات الصغيرة و الكبيرة ، توجست أم السلطان من مغبة إنفراط عقد التوارث الذي سار عليه السلاطين السناريّون فحثت إبنها لإرسال من يستدعي الوليَّ الكبير دفع الله المصوبن لسنار ، قُوبلَ طلب الحضور بإمتناع هادئٍ لم يزحزح رسوخه التهديد و لا ليّن الترغيب رفض الشيخ الوقوفِ بأبوابِ السلاطين ، إرتجَّ البلاط و خافَ الناس مَغبات عدم الحضور إلا أنَّ سفر ولي عهده المريض صحبة أبيه السلطان لأبو حراز أقعدَ سنار التي أوقفها ذُعر عواقبِ الممانعة ، شُفِي السقيمُ و إسترجع القصر و البلاطُ سلامهُ و إستعاد الأب طمأنينته وأمانَهُ لكنّه تحيرَ لزهدِ الفقير وتواضعه الجمّ وزاد الدهشةْ صموده بوجهِ أغواءِ الوعود المبذولة وعزوفه عن مباهجِ الدنيا التي أقبلت تستعرض مفاتنها في ركابِ جلالته ، لم يسأل الفقير عن شئٍ رغم إلحاح بادي ود عدلان الشديد فإقترحت أم ولي العهد طابع البياض (الهدية) التي أقرَّها السلطان دونما تأخير .

تَّمَلى الليل ظُلمته الشاحبة بينما أطربت الأرض الذكرى وأضاءَ القمر بنقصانِ كمالهِ حدودَ مربع البياض ومناحي الهدية وقوامها المقتطعَ بعنايةٍ من خارطةِ جسد السهل الشاهد والمشهود ، أسمته الوثائق العتيقة مربعَ كركوج وحازُه بالصمتِ الناطقِ الشيخ دفع الله المصوبن “عم قنديل الدهب” ، أمتلكهُ بأقتدارِ علاجه لولي العهد وأكدَّ أحقيتهُ بالزُهدِ البائن وتكلمَ بحدودهِ في الأَرْضِ فرمان ملكي ، يمتد المربع “البياض” لمسافةِ مائة كيلومتر علي طول النيل الأزرق تبدأ من عندِ خور ود قناوي جنوباً لفداسي الحليماب شمالاً ومن بلدةِ كركوج غرب المحروسة أبوحراز لحوش أب قمري الواقع للجنوبِ الغربي من بلدة الحاج عبد الله ، تنوعت وعورةَ مربع كركوج مع غلبَة أنبساط الأرض وأنتظام أنحدارها صوب الشمال وتفردها بالخصوبةِ العالية كما تخللت السهل أشجار كثيفة من كل أنواعِ السافنا البستانية وتسيد غاباتِ ضفاف النيل الأزرق وجروفه السنط .

تنهدت الأرض بمحبةٍ وسرحت فيما سيكونه المربع العجيب ، نفض النهر نُعاسه وأستوى جالساً نُصفه فوق عناقريبِ الليل والأخر توهطَ الجزائر الصغيرة والخيِران العطشى للماءِ ثُمَّ فركَ عيونهُ وتذكر الوصيةٌ الرؤية التي سَقت ولاية العارف بِرَبِّه دفع الله المصوبن بفوحِ الماء وصبغتها بألوان الحنين وأرَقَتها ورقَّتها حتى تبوأ سَنامَ خير ساقَ لأبواب مسيدهُ المفتوحِ بلا حُراس رِكابَ سُلطة الزمان ،

قال الماء :-

– هي وصيةٌ شيِّقة زُيِّن من أجلِ عيدها رأس الشيخ وعُممَ بعمامةٍ مكية شدَّتها بحزمٍ حاني يدين مباركتين شدَّة تكريم لا ينالها ألا كبار القوم ثُمَّ خُصِّص لمُرافقةِ قافلتهِ أربعة فُقرا مُجودين وأُمر بالسُكنى قُرب البحر والأشتغال بتدريسِ العلم حين الرجوعِ للمحروسةِ أبو حراز حيث أهلهِ ومنارات أبائهِ ،

لا تسكن البادية ،

لا تسكن البادية بل جاور النهر ،،

رددتها البرية مع الماء ، فرح النهر بما تطامنت لَهُ الأكوان وتذكر كيف أنَّ ظهره القوي حملَ أحجارَ بنايات برنكو للمحروسةِ أبو حراز حيثُ بُنيَّ مسجد الشيخ المصوبن ، تنادى لذاكراتِ النهر العجوز الليل والنهار وتعاقبهم ، أُمِر الحاج سعيد بذلك لكنهُ لأسبابٍ يعرفها أمتنع عن تنفيذهِ ومضى وراءَ ما يعنيه ، “قال الليل” ما صرح به لا يعني الحكاية الذي يهمها قيِّمة الحاج سعيد عند سلاطين الفونج وجلابتها الكبار التي لا يُقابلها ذهبٌ أو مال فهو خبير التجارة وحادي القوافل العليم ، كشَّاف الأدغال ويقين الدورب الشائكة في الظلمةِ والأمطار والوعورةِ والأحراش والأراضي العدوة ِوالصديقة ، تَعرفهُ القري وتنتظر مَقدمِهِ البَلَدات الصغيرة والكبيرة وتربط كلمته النافذة المبايعات ويقبل حُكمها المتفاصلين في مقايضاتهم البكماء أو التي ترنَّ ريالاتها المجيدية ، وصلت قافلة قادها ذات ليل متأخر لأبوابِ سنار ، أطفأت المدينة نيرانها وخلدت لسكونٍ لا يمزِّقهُ ألا نباح بعض الكلاب ، كانت رحلة الحبشة طويلة ومُرهقة وأن حازت مقصدها ، أوى الحاج سعيد كعادته لطرفٍ قصيٍ من الجمع ، صلى ثُمَّ توسد الأرض ، تخيِّرَ ذات مكانهِ العالي المفضل فمنهُ يطلُ على المدينةِ حين تغسل أشعة الشمس الأولى خدرها فتدَّبُ في حواريها الكائنات وتنهض الأصوات البشرية وتتَضوعَ الروائح وتتجلى لحواسهِ النكهة والطعم الذي يحب ،،،

” قال النهر”

ويرى منها يقظة أمواهي …..

لكنَّهُ مشغولٌ الأن برصدِ أفلاكي “همس الليل” ربما ستشحذَّ معارفه لسفرةٍ أُخرى فحنينهُ طويلٌ كما البلادِ التي لا يملَّ مشي مناحيها العجيبة ، مرَّ نسيمٌ منعش فأمسكهُ النوم وتهاوى جسدهُ المتعب ، قُبيل الفجر زارتهِ رؤى حق لن يقاوم لها أمرٌ فهبَّ مكتمل اليقظة والقرار لا يلؤي على شئٍ سواء أنجاز بينانِ المسجد وحينما مَثَلَ في نهارهِ ذاك أمام من بين يديه الأمر توسلَ لَهُ لتحقيق ما أنتوته الرؤى فلبى صاحب النهي رجاءِه المبلل بدموعِ شوقٍ فادح لم ينجح في أخفائها الأطراقَ ، أُذنَ لَهُ بسبعَ مراكب وصحبة خِيرةِ بنائن السلطنة حتى يتَيسر أتمام تشييدِ المسجد ، حينما مخرت المراكب موج النهر بلغَت غِبطة الحاج سعيد حدًّ لم يجربهُ من قبل ،،،

قالت نَفْسِه :-

– ” ربما لن يقارب أنجازي عزَّ دعوة جدَّي الشيخِ تاج الدين البهاري لزيارةِ البلاد لكنَّ النَّاسَ سيذكروني كما فضلَ الجبلابي الكبير ” ،،،

ملأت الريح الطيبة أشرعة المراكب وصاحبها بمحبةٍ تياري فسارت الرحلةَ على ما يُرام لا تنقُصها سواء الأجابات المبتورة فبرغم وضوح الغرض أنبهمت عليهم التفاصيل وزادَ ألتباسهم تجاوز المراكب لمُشرعِ أبو حراز وعدم توقفها ببلدةِ الهلالية لكنَّ بروز تلَّةَ برنكو أزال ما غمضَ من غرضِ الرحلةِ وأبان وجهتها .

ظهرت في الأفق القريبِ أطلال مصيف الأميرة العنجاوية تُحيطهُ كالطوقِ حشائشٌ بريةٌ غزيرة وتتخللها أشجارٌ كثيفة من كل صنف ونوع ، عندما رست مراكبهم بذاتِ مُشرِّع برنكو القديم أبتسم الزمان وتَنَسَّم  بمحبةٍ رائقة روائحَ قلقهم وميِّز سريان تأهبهم فعاودتهُ ذكرى عطور موكب الأميرة وتراءى لعيونِ دهشتهِ جمالها يمشى التلَّة فينعطف لفتنتهِ النهر ويتثنى بين يديه الضوء وتُخرج الشمس لمرورهِ الرافلَ بالبهجةِ والأُبهة أوسمَ الأشعة ، أصاخَ قلبِ الزمان لثرثرات الحاج سعيد وجمعه الناشطة وتمطت معابرهُ مثلما تمطى الحماس بأجسادهم التى خدرها جلوسهم الطويل ثُمَّ طقطق أصابع تحفزهُ حين دَبَّ بعصبهِ قلق تهجسهُم لمرأى الخرابة المهجورة لكنَّ تنكبهم صعود تلَّة برنكو أعادهُ من حبالِ تهويمِهِ العتيق فرمق بحنوٍ أعشاب السافنا الكثيفة التي تسببت وما تواتر من فيضانات كتابهُ النهر وهيجانات أمواه الأمطار في أزالةِ عتبات الدَرَج القديم المؤدي لباحة المصيفِ الأمامية ، شقّوا دربهم بصعوبةٍ بالغة حتى أدركوا بَسْطَة الربوة ، تفيأوا أحدى أشجارها الضخمة ، لم تكن الشمس حارقة رغم ظهيرتها في اليوم فالوقت مازال يتسربل بأرديةِ الشتاء الفتيِّ ، جلسوا يلفهم صمتٌ واهن ظهورهم للأطلالِ وعيونهم ترمق أمواه النهر المترقرقة بلا دموع أو عرقٍ يغسل بدن المجرى العتيق ، تدبروا خطتهم وباشروا نظافة الممشى المهمل مُذ خربَّ جمالِ أبنة عجوبة الأسطوري سوبا عاصمة مملكة علوة المتداعية ثُمَّ أقبلوا نحو الأطلال يستكشفون ما سيُفيدهم في بنيانِ المسجد ، أقتلعوا طندبة ضخمة سدت المدخل المنهار وولجوا لباحةِ القصر ، كانت حشرة الأرضة قد أكلت ما تبقى من أخشاب السقوف والنوافذ والأبواب الداخلية بينما أحتلت الحشائش والشجيرات الشوكية جميع الفراغات ، أستقرَ رأيهم علي نقل أحجار جدران البهو الخارجي للمَصِيف لبقائها واقفة رغم أنهيار السقف ، شجعهم على ذلك أطلالها على المُشرّع  وقُرب مدخل البهو من الممشى الذي يؤدي لمراكبهم ، أنهمكوا دونما تأخير في تنظيف الباحةِ وأزالة الحشائش والشجيرات الشوكية العالقة بالحوائطِ ، أنهوا النظافة ظهيرة يومهم الثاني فأنقسموا لمجموعتين أهتمت الاولى بتسَّويةِ الممشى مستخدمةً ألات الواسوق حتى يتثنى لهم المحافظة على أنحدارٍ مناسب يساعدهم على دحرجة الأحجار بينما أنشغلت المجموعة الأخرى بأقتلاعِ أحجار الجدران و رصها بنظام يُسَهل عليهم عملية نقلها ، في ضُحَى يومهم الثالث أكملوا تحميلها في المراكب وأدركوا أبو حراز قُبيل غروب الشمس فباشروا بمساعدةِ جملة أناس البلدة التفريغ والنقل ثُمَّ بدأوا في الأيام التي تلت بناءِ مسجد الرؤى حتى أكتمل .

بات الأمر أوضح من شمسٍ في رابعةِ النهارِ فعاد الليلَ من أسفارهِ العديدة ، مسك الحكاية بيديهِ المعروقتين ٍبلا رطوبةٍ ثُمَّ أنغمس ووجدهُ في دهشةِ أكتفاءِ الشيخ الفقير ببلداتِ ضهرةِ كركوج ومداومته الأنتقال والحِيران لفلاحِها عِنْدَ نزول التُريا وأمتلأ الأكوان ببشريات الخريف حيثُ يزرعها مستطعماً غِلالها وملاح ويكابها الشهي أما ود مدني السني فلقد سبقت نشأتها هدية بادي ودعدلان وأن أقتصرت على حي سكني وحيد قَطنه دارسي ومريدي الفقيه محمد الأمين بن الفقيه مدني الذي حلَّ في المكان قبل عشرين سنة من قيامِ السلطنةِ الزرقاء ، طمأنَّ الشيخ أحفاد الفقيه  حينما عبأ القلق أجواء القرية الصغيرة فهدأت جوانحَ الناس وأنتفضت حظوظ ود مدني بين يديَّ وعد الأمان الناجز فتمددت أحيائها وأنتظمت فيها صناعات المراكب الشراعية والعناقريب والأحذية ودباغة الجلود .

عندما فارق قنديل الدهب أخر شجرةٍ في الغابةِ التي يليها مُشرع المراكب خفَّت دُكنتي وتراقصت في المدى أضواءَ مُشرع ود مدني السُني الشاحبة فتهاوت وحشته وأنستهُ الأصوات البشرية ، كنت عند وصوله لركنِ المُشرع الشمالي قد تبوأت مقعدي المفضل في ثلثي الأول بعد أن أكمل الناس صلاة العشاء وتناولوا وجبتهم الأخيرة وأنصرف من بللت لَهُ مزامير القيام أو النشوة أو كليهما حناجرها الذهبية وألتجأ ناصيتي من أراد شدَّ أوتارَ معازف الكون ، صمت من صمت ونام الأطفال في براءتِهم الناعسة ، تكاثفتُ غزيراً و سميكاً فسندت البيوت النحيلة عصى أمانها على حوائطِ ظُلمتي ولم تغلق المنازل الشحيمة أبوابها في وجوه الريح أو الذين توهتهم الدروب الشائكة ، أحتفى المُشرع بجوقةِ سُمارهِ الأوفياء ، صيبةَ نجارين المراكب القلقين و الأسكافية المرحين و النُقُلتيهْ الصموتين و الصَرّماتيه النجباء ، الحواتة الأشقياء و صيادي الأسماك الصبورين ، المسافرين الذين غافلهم الكرى رغم تعبهم العصي أو من جذبهم كما الفراشات عسل الونسات اللذيذ أو حرضهم رنين القهقهات الجذلى على مفارقةِ لحاف الأرض ، نُوتيَّة أعالي النهر وأسافله ، عارفي فضل الماء والباحثين في أتون حكاياتهم عن خيوطٍ ماتعة تُبقيها شيِّقةٌ ومستمرة في التكرار و تعديلاته ، السابلة والمتسولين وكائنات الليل االهاربة من جحيم العُرف أو الذين أضجرهم الترف الراتب و الدِّعة التي تُجَندل المغامرة ، كان الناس يغشون دائرة الأنس في طريقهم لمناحي أُخري فتستوعبهم رحابتها و يغادرونها وقتما شاءوا ممتلئين بها حدَّ تلفت القلب و لوم النفس الآمَارة كأنها مركز الأرض و ملتقى أشجان الوجود فأن كُبرت تَقلَّ ضجتها و أن صغرت تمايزت أشواقها و بلغ كلامها مراتب الصمت الفصيح و هي بين هذا و ذلك لا تنفك تسقي من أراد السُقيا و تُطرب من قصد النشوةَ و تُطعم من دهدهتهُ في البراري أو قذفت بِهِ مركبٍ تأخرت في فلاةِ النهر ولم يشرح سيرها تيار الماء .

 

* مجتزأ من رواية لم تكتمل

 

* روائي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى