ثمار

زمن مختلف للشعر السوداني

محمد جميل احمد غلاف

لا يعكس الحديث عن مأزق الشعر وندرته ، أو أزمته ، إلا تصورا جزئيا مستقرا على هوية مفترضة ، أو منعكسا من تمثلات خاصة هي أقرب إلى التأويل الثقافي منها إلى حقيقة الشعر كإبداع متصل بالحياة.

والحال أن تلك الأزمة ربما تتعين ، فقط ، إذا ما نظرنا إلى الشعر كتعبير متعارف عليه من خلال نظم إدراك نخبوية! أما الشعر في الحياة ، كحاجة ، فهو موجود أكثر منه ، بكثير ، من كونه حيازة متوهمة لنخبة ما ، تحدد هويته بمقاييسها.

الشعر متصل بالحياة . وتجلياته المتلبسة بالفنون الأخرى كالغناء والتشكيل والسرد هي ما يكاد يخرجه من دائرة الأزمة التي يتصورها البعض عن مطلق معناه.

اتصال الشعر بحاجة البشر ، أكبر من الظن بقبول فكره أفوله أو انسحابه من زحمة الحياة المعاصرة . ربما يغيب تفصيلا من الشعر يراه البعض مقياسا  للشعر وهويته  فيزعم وهم الاختفاء والأفول.

غياب الشعر ،عربيا ، كمدونة ثقافية مشغولة ، وانكفائها عن تسييل حالة عامة للشعر تناظر حيويته كأحد خطوط الإبداع  الأساسية (كما هو  الحال في اللغات العالمية الحية) إنما هو في الحقيقة انعكاس لغياب سوية ثقافية ، أكثر منها إبداعية . فالإبداع الشعري جزء من الحياة ذاتها ، لكن الحالات الحيوية للشعر تستدعي بالضرورة علاقة للشعر باللغة  ترتبط به وجودا وعدما . فالشعر إذ يظل كامنا بين الكلمات (وليس في الكلمات) يظل في حاجة إلى تسوية لغوية ؛ إلى علاقة ما تجعل من امتلاك اللغة امتلاكا لمادة الشعر ذاتها . إن حالة الاعتلال اللغوي العامة ، عربيا ، (ليس بالنسبة لقراء الشعر فحسب ، بل حتى للشعراء كذلك) هي التي تساهم بقوة في تلك الازاحة المستمر للشعر إلى الهامش.

ثمة اغتراب في اللغة ينزاح على الكتابة الشعرية العربية المعاصرة  فيغيبها عن المشهد الثقافي العام ، لكنه بكل تأكيد اغتراب لا يغيَّب الشعر. فالشعر ، بوصفه حاجة  وصيرورة ، يتشكل باستمرار في خامات متنوعة ؛ من الغناء إلى السرد إلى الأناشيد وحتى عبارات الدعاية والإعلان ، ففي كل ذلك ثمة وجود قوي للشعر . وفيما يعزو البعض انسحاب الشعر من الحياة الحديثة ، لأنه الأكثر اتساقا مع رعويات الحياة الإنسانية الأولى وبراءتها ــ احتجاجا على صخب الحداثة المعاصرة وتذررها وقسوتها المادية  ــ مبررا بذلك ما ليس مبررا في ذاته ؛ فإن قوة الشعر تكمن أساسا في قدرته كطاقة رخوة ـ لكنها الأكثر شراسة في مواجهة قسوة الحياة ـ إن قوة الشعر هنا هي قوة المجاز ذاته الذي يفجر اللغة ويعيد اليها الشعر في كل منعطف من منعطفات الدهشة ، والبداهة المتجددة مع الحياة.

تجربة الحركة الشعرية

في الخرطوم ، أحدث شعراء شباب حراكا جماهيريا مذهلا للشعر ، اقتربوا به أكثر من حياة الناس ، وجالوا على الساحات ، الأسواق ، الشوارع ، الميادين ، عبر تجربة ملهمة  خلصت الشعر من العزلة والانكفاء  الذي فرضته سياسيات عزل طاردة لأكثر من ربع قرن تقريبا.  يقول الشاعر الشاب مأمون التلب صاحب فكرة الحركة الشعرية (يوم الثلاثاء 28 يوليو 2015م، حَدَث حدثٌ عظيم، بالنسبة لي على الأقل. وتتلخّص العظمة في انعدام التخطيط: رأيتُ حركةً لم أخطِّط لها، أبداً، كما تفعل الأحزاب السياسيّة الفاشلة ذلك: تخطط وتخطط وتنسى، تماماً، أن العالم ليس خُطَّة! لقد نَشَأت هذه الحركة اليوم لوحدها، نبتت على الأرض كما تنبتُ الغابة. كنتُ أصرُّ أنني لن أضع خططاً ولا تنظيماً لفعالية اليوم ـ وما كنتُ سوى داعٍ للقاء ـ مع انطلاقة الحركة الشعريّة، وقد كانت النتيجة مذهلة: لقد تكوّنت الفعاليّة من تلقاء نفسها، تماماً كما يحدث للنبات منذ قرون. لقد بادر الناس بالقراءة حتّى ذُهلت!)    لقد لقي الحراك الشعري الذي دشنه الشعراء الشباب من أمثال (مأمون التلب ـ أنس مصطفى ـ نجلاء التوم ـ حاتم الكناني) في ساحة شهيرة بالخرطوم تدعى ” أتنيه ” تفاعلا كبيرا بلغ المئات من المتابعين ، وبدا واضحا ، من خلال  التفاعل الكبير  مدى أهمية الشعر للناس .

لقد كانت تجربة الحركة الشعرية بعفويتها تلك ؛لحظة إدراك مباشر لأثر الشعر على الناس ، أدرك بها الشاعر مأمون التلب ؛ سرّ الشعر وطاقته الخفية على البشر حين قارن تجربة العام الماضي 2014 التي لم يتفاعل معها الناس كثيرا  ، مع تجربة العام 2015م التي وجدت صدى وتفاعلا كبيرا بفضل قوة الشعر وتعبيره  عن الانسان وتأملاته في الكون والحياة .

يقول مأمون :(في الفعاليّة الماضية؛ كانت النصوص المستثيرة للتأمل قليلة، بينما النصوص المستثيرة للعاطفة والانفعال والشعور بفداحة واقع اليوم وبؤسه أكثر؛ النصوص ذات الطابع السياسي تستثير الناس بكل تأكيد … وبصراحة لقد سئمنا من هذه الصورة الفاترة، فبتلك الصورة يخدم الشاعر حركة أخرى مكّارة، سلبته قيمته واعتداده بخياله . إننا لا نريد أن نخلق مساحةً للتعبير عن الحريّة السياسيّة، نريد أن نصنع مساحةً لحريّة التأمّل في الحياة والكون) ويعلق على الرواج الذي لقيه النشاط الشعري المكثف في تلك الساحة بفعل جهود الحركة الشعرية : (لقد أصبحت أتنيه ساحة مشهورة عالميّاً، بالمناسبة، ومحليّاً كذلك. بمجرّد أن تقول: أتنيه، إن الناس يفهمون عن ماذا تتحدّث. لذلك فإن كل مبادرة وفعاليّة تتم في تلك الساحة مكتوبٌ لها النجاح، وذلك يمثّل جزءً أصيلاً لنجاح فعاليّة تدشين الحركة الشعريّة.)

خارجيا ، اغترب الشعر السوداني على جغرافيا واسعة لـ(الدياسبورا) السودانية ، وشكلت تلك الحالة السودانية الخاصة والاستثنائية لشعراء سودانيين معاصرين (جلهم خارج السودان) ما يمكن أن يعكس هوية جديدة للشعر السوداني ؛ هوية غنية بالتجارب التي يمكنها أن تؤشر على زمن مختلف للشعر السوداني في الخارج.

بين زمنين ، لا تتساوى القوة بالفعل حيال جدلية الخفاء والتجلي التي طبعت الشعر كمدونة تعبيرية في أجناس الإبداع ، عربيا ، ؛ فغياب الفعل الشعري لا يعني غياب القوة الكامنة للشعر والموازية لممكنات وجوده في تعبيرات أخرى .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر  المقال ضمن ملف (مآلات الشعر العربي)  بمجلة (الفيصل) 2016 سبتمبر / أكتوبر

* ناقد وشاعر من السودان 

زر الذهاب إلى الأعلى