ثمار

حول الرأسمالية والتكنولوجيا والتحوّلات الممكنة

استضافتني في يوم الجمعة، 2 سبتمبر 2016، مجموعة اسمها “عقلانيون” تصبو لأن تكون “مساحة حرة للنقاشات العلمية بالأدلة والحقائق العلمية والبراهين والمنطق”، حسب ما ورد على صفحتها. تمت دعوتي للقاء أسبوعي اسمه “مراجعات” بواسطة مديري تلك المجموعة في موقع الفيسبوك. طريقة البرنامج أن يستضيف ضيفين لهم آراء عتيدة في قضية معيّنة (قد يكونان على اتفاق أو اختلاف فيها) ويتم توجيه أسئلة أولية لكل ضيف وضيفة ليجيب أو تجيب عليها. من خلال الأسئلة المختارة والإجابات المتباينة ومتابعة القراء يحدث تفاكر عام حول القضية.

ومن أجل إعطاء الفرصة للضيوف لتجهيز إجاباتهم بصورة مرتبة ومكتوبة فإن تلك الأسئلة يتم إرسالها للضيفين المدعوَّين قبل يوم اللقاء ببضعة أيام. أنا شخصيا وجدت هذه الطريقة مناسبة جدا، لكوني أرى الكتابة المتريّثة أجدى عموما في مناقشة مثل هذه القضايا من الكلام اللحظي (لكن أفهم أن بعض السياقات يكون فيها الكلام أفضل). ثم إني بعد تسلمي للأسئلة وجدتها أسئلة جيدة المحتوى، والأسئلة الجيدة تشحذ الإجابات الحذرة والمتمعنة.

موضوع حلقة اللقاء كان الرأسمالية، والأسئلة كانت حول سبل نقد الرأسمالية في عصرنا الحالي وكيف تكون، وما هي المسائل الجوهرية التي تحتاج للإضاءة والمواجهة بشجاعة النقد والنقد الذاتي. بعد كتابة إجاباتي أخطرت إدارة الصفحة أنني أنوي نشرها لاحقا بصورة منفصلة لتوسيع دائرة الاطلاع والتفاكر. الأسئلة الثلاثة وإجاباتها أدناه (مع تعديلات مقدّرة):

السؤال الاول: أحد مساوئ الرأسمالية انها تركز الثروة في أيدي قليلة من المجتمع. لكنها ايضا ساهمت في التطور العلمي ودفع عجلة التقدم للامام. لولا الرأسمالية لما استطعنا أن نتواصل في هذه الحلقة، عبر شتى بقاع العالم. ألا تشفع هذه الإيجابيات لنرجح كفة النظام الراسمالي؟ 

الجواب: هذه فرصة لمراجعة العلاقة المزعومة بين الرأسمالية من جهة والتكنولوجيا والعلوم الحديثة من الجهة الأخرى. ذلك الزعم المبني على فرضية أن الرأسمالية – وهي نظام اقتصادي الصدر بأذرع سياسية واجتماعية – مسؤولة عن ما جادت به القريحة البشرية في العصر الحديث في التحولات الضخمة الإيجابية التي تم تحقيقها في مجالات العلوم التجريبية والتكنولوجيا.

هنالك مسلمّتان مضمنتان في هذا الزعم، مهمّات لمصداقيته وتماسكه. هاتان المسلمّتان هما:

1- أن النظم الاقتصادية المسيطرة عموما مسؤولة عن ظهور أنماط تكنولوجية واختراقات علمية تحت كنفها، أي أن هنالك علاقة سببية بين النظام الاقتصادي في مجتمع ما ومقادير الإنجازات العلمية والتكنولوجية التي تحدث داخل ذلك المجتمع.

2- أن محتوى ومقدار “التطور العلمي ودفع عجلة التقدم للأمام” كما نراه اليوم، في عالمنا المعاصر، ما كان ليكون كذلك لولا الرأسمالية، أي أن الرأسمالية هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يمكننا أن نتخيله قادرا على تحقيق هذه النقلة المادية للمجتمعات عبر المرحلة التاريخية المعنية. إذا لم تكن هذه المسلّمة صحيحة فلا معنى لأن نقول، مثلا، إننا لولا الرأسمالية لما استطعنا التواصل اليوم عبر التقانات العالية للاتصالات والمعلومات.

أقول إن المسلّمتين أعلاه لا تصمدان أمام الفحص والتحقق الموضوعي، وذلك لسببين: الأول أن دراسة التاريخ المادي، بالبراهين والتحليل، تبيّن لنا أن ما يحصل كثيرا هو أن التحوّلات التي تطرأ في أنماط الإنتاج هي التي تؤدي لتحوّلات في علاقات الإنتاج وليس العكس. ما يعنيه ذلك في المستوى الاجتماعي الكبير أن التحوّلات التي تطرأ في تكنولوجيا الإنتاج تؤدي لتحولات في النظام الاقتصادي الذي يدير علاقات الإنتاج. هذا الأمر واضح بصورة كبيرة في تاريخ الرأسمالية نفسه وعلاقته بالثورة الصناعية، إذ أن اكتشافات تكنولوجية معيّنة هي التي أفسحت السبيل لإمكانية قيام النظام الرأسمالي وتضخمه عن طريق الزيادة المستمرة لفائض القيمة، كما سنرى بعض قليل. أمام السبب الثاني فهو أن الواقع يقول إن هنالك مسافة واضحة المعالم بين الإبداع البشري، العلمي والتكنولوجي، وبين القوانين التي تحدد من الذي يكسب وماذا يكسب من ذلك الإبداع. ما أعنيه أن النظام الاقتصادي ليس هو الذي يخلق قدرات الإنتاج الذهني والجسدي البشريّيْن بقدا ما هو الذي يحدد من الذي يكسب، وماذا وكم يكسب، من ثمار المجهود البشري في تطويع عناصر الطبيعة. بالتالي ليس هناك في الواقع برهان على أن الاختراقات التكنولوجية والعلمية البشرية المعاصرة ما كانت لتصل لهذا المستوى ضمن نظام اقتصادي آخر غير الرأسمالية، بل هناك براهين من التاريخ الحديث على نقيض هذه المسلّمة.

إضافة للسببين أعلاه أدفع بحجة أن المعطى الموضوعي المعاصر يقول لنا إن التقدم التكنولوجي والعلمي المأمول للبشرية، في المستقبل القريب، سيكون أعلى جودة وأعمق اختراقات إذا قمنا بسحب معظم عمليات البحث والتطوير التكنولوجي والعلمي من براثن السوق ووضعناها ضمن مجال التمويل العام (من ميزانية الجماعة أو الدولة) والمحاسبية العامة (أي الخضوع لأولويات ورقابة الرأي العام بدل أولويات ورقابة الشركات الخاصة) ومجال الشغف العام للمعرفة والاستكشاف (أي مؤسسات التعليم والبحث الحرة من ضغوط ومصالح مراكمة الأرباح) في مجتمعات لا يعاني أفرادها من تفاوت مجحف في الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بل جميعهم لديهم فرص مفتوحة لاستكشاف مواهبهم وتنمية قدراتهم والسعي للابتكار وسبر أغوار المعرفة الواسعة.

عودة للسبب الأول: الرأسمالية بَنَت نفسها عن طريق عملية معروفة، تبدأ بوجود أثرياء لديهم رأس المال القادر على امتلاك مجموعة من وسائل الإنتاج (مصنع وآلات ومواد خام) ثم استئجار عمالة آخرين ليس لديهم ملكية لتلك الوسائل وليس عندهم سوى عمالتهم ليبذلوها مقابل أجور، ثم إنتاج سلع وخدمات يتم بيعها بأرباح تعود عموما لصالح أصحاب رأس المال. هذه الأرباح تتراكم وتصبح نفسها رؤوس أموال لتوسعات أكبر في سلسلة الإنتاج لتراكم أرباح أكثر، ويستمر هذا التوسع، أفقيا وعموديا (في كمية وأشكال الإنتاج) إلى أن يصبح لدينا مجتمعا واسعا كاملا مبنيا على علاقات إنتاج وثقافة استهلاك مستمرة في مراكمة أرباح الطبقات المحظية واستغلال عمالة الطبقات العاملة واستنزاف الموارد الطبيعية وخلق المزيد والجديد من السلع والخدمات. هذا هو طريق الرأسمالية عموما باختصار، لكن تلعب التكنولوجيا فيه دور الصدارة وليس النتيجة. كيف؟

كما ذكرنا، من ناحية مادية تاريخية، فإن التغيّر الذي يطرأ على قوى الإنتاج المادية يورث بالضرورة تغيّرا في علاقات الإنتاج. عبارة كارل ماركس الشهيرة، في كتابه “بؤس الفلسفة” (1847) التي تقول “الطاحونة اليدويةتعطينا مجتمعا فيه الإقطاعي؛ وطاحونة البخار تعطينا مجتمعا فيه الرأسمالي الصناعي” هي عبارة تختصر مقاربة ماركس لقضية التكنولوجيا والمؤسسات الاجتماعــ/قتصادية اختصارا طيبا. إضافة لذلك فإن تحليل ماركس لظاهرة المصنع وكيف ظهرت في قصة صناعة النسيج في بريطانيا في القرن الثامن عشر، يعطي مثالا مناسبا جدا لعلاقة التكنولوجيا بالرأسمالية.

خلاصة قصة صناعة النسيج في بريطانيا هي أن ظهور تقانات جديدة، من مصادر متباينة كانت مشغولة بالابتكار التكنولوجي العام، ساعدت على إسراع عملية الغزل (والتي كانت أبطأ مرحلة في عملية إنتاج النسيج وقتها) مع ظهور المحرك البخاري (كاختراع جديد أيضا في ذلك الزمن) بشّرت بسرعة وغزارة إنتاج أكبر بكثير من المعتاد وقتها – وقد كانت عملية إنتاج النسيج وقتها بطيئة نسبيا وتتوزع على عدد كبير من الحرفيين المتعاقدين الذين يعملون من بيوتهم ويسلّمون كمّياتهم أسبوعيا لأرباب العمل تجّار الجملة. لكن كان على أرباب العمل اختراع طريقة عمل جديدة لتنسيق هذه التقانات الجديدة، أي المحرك البخاري ومسرّعات الغزل، مع الإنتاج، فظهرت الحاجة لجمع جميع العمّال تحت سقف واحد مع الماكينات الجديدة، وزيادة ساعات العمل وزيادة عدد العّال، مع المراقبة المباشرة لعملهم، وبذلك بدأت ظاهرة المصنع.

والعبرة من تلك القصة التاريخية الموثقة هي أن التكنولوجيا الحديثة ليست بالضرورة ثمرة من ثمار الرأسمالية، فالاختراقات التكنولوجية والعلمية الأولى التي مهّدت السبيل لظهور مؤسسة المصنع لم تكن بسبب الرأسمالية، وإنما هي التي أعطت الرأسمالية فرصة الانبثاق والنمو كنظام اقتصادي كامل (بعد أن كان نمطا جانبيا من الاقتصاد الميركانتلي في أوروبا حينها).

أما السبب الثاني، كما ذكرنا أعلاه، فيتبع أيضا من السبب الأول، لنرى أن عملية الإبداع العلمي والتكنولوجي عند الكائن البشري ليست نتيجة النظام الاقتصادي في أصلها وإنما نتيجة توفر الموارد والقدرات مع وجود الشغف والدوافع العامة للابتكار والاكتشاف كخاصية بشرية موروثة وليست كنتيجة للنظام الاقتصادي بالضرورة. صحيح أن النظام الرأسمالي الحالي يوفر ظروفا تجعل عددا كبيرا من الناس ينتجون أشياء واكتشافات مفيدة للبشرية، وتصل نتائج تلك الاكتشافات لأناس آخرين عن طريق سوق السلع والخدمات، إلى أنه ليس هنالك أي دليل على أن ظروف الابتكار والنشر هذه ما كانت لتتوفر بصورة وافية ضمن نظام اقتصادي مختلف. في الحقيقة، نحن نعلم أن الاتحاد السوفييتي والصين أنتجا ونشرا كمية مهولة من الاختراقات العلمية والتكنولوجية ضمن شروط محلية ليست رأسمالية. حتى إذا لم نتفق مع الأنظمة الاقتصادية-السياسية التي حكمت الاتحاد السوفيتي والصين فنحن على العموم لا نستطيع أن ننكر أنها لم تكن أنظمة رأسمالية (على المستوى القطري وعلى مستوى الكثير من الاتفاقيات التجارية والتنموية الدولية)، كما لا نستطيع أن ننكر أنها أنتجت نتاجا ضخما من الترسانة التكنولوجية والاكتشافات العلمية (ولا ننسى أن أول من تمكن من الخروج للفضاء الخارجي والدوران حول كوكب الأرض هو يوري جاجارين السوفيتي، باستعمال التقانات والعلوم السوفيتية).

أيضا لدينا أدلة كافية على أنه حتى داخل الدول الرأسمالية نفسها فإن كثيرا من الاختراقات التكنولوجية والعلمية الكبيرة لا تحدث عادة بواسطة تمويل الطبقة البرجوازية لعملياتها الإنتاجية من أجل الأرباح، وإنما تحدث في معامل البحث والتطوير، في الجامعات العامة والمعاهد البحثية وورش العمل، بواسطة تمويلات وتفويضات من وكالات الدولة، أي بواسطة الميزانية الوطنية من دافعي الضرائب وبواسطة أجندة تم تحديدها عبر مشاريع وطنية جماعية لا مصالح شركاتية خاصة. الانترنت مثلا، والأتمتة الصناعية، وتطورات صناعة الطيران، كلها من الاختراقات التكنولوجية الكبيرة التي تفخر الولايات المتحدة الأمريكية بأنها بعض هداياها للعالم الحديث، وذلك صحيح من الناحية الموضوعية، لكن كل هذه الاختراقات المذكورة أعلاه ليست نتيجة للعملية الرأسمالية المعتادة، إنما نتيجة رعاية القطاع العام لبحوث متخصصة ودقيقة ومكلّفة وطويلة المدى. لا يفوتنا مثلا أن نعرف أن وكالة ناسا للأبحاث الفضائية، بكل منجزاتها الحديثة، هي وكالة قطاع عام وليست شركة خاصة، فغرضها ليس مراكمة أرباح وإنما خوض مجاهيل المعرفة وتحسين حيوات الناس بها وبالتكنولوجيا الناتجة عنها. كما نرى فالقطاع العام في الواقع أكثر قدرة على تحقيق تطورات تكنولوجية وعلمية كبيرة من القطاع الخاص، وبذلك تسقط فرضية أن فلسفة الرأسمالية الاقتصادية، وإطارها الفعلي، هي المسؤولة عن التطور العلمي والتكنولوجي الذي لدينا الآن.

السؤال الثاني: يقول تروتسكي: إن المقدمات الموضوعية للثورة الاشتراكية العالمية ليست ناضجة فحسب، بل أخذت تتعفن. هذا يقودنا الى سؤال التغيير. النظام الرأسمالي دخل في أكثر من أزمة واستطاع الخروج منها والبديل يقول تروتسكي إنه بدأ يتعفن. السؤال هل الرأسمالية حقا نهاية التاريخ ومقاومتها مستحيلة؟ 

الجواب: نبدأ بالقول إن تروتسكي كان مخطئا، عموما، ببساطة. بالتالي فإن قوله إن المقدمات الموضوعية للثورة الاشتراكية العالمية أخذت تتعفن قول لا يؤخذ به، ولا يحتاج لأن نفسّره اليوم أو ندافع عنه في إطار دفاعنا عن فلسفة الاشتراكية. ربما السبيل الوحيد الذي يمكننا من خلاله إيجاد العذر لتروتسكي في قوله هذا – بالإضافة لعدم إسعاف الخيال له – هو أنه كان يقصد بالثورة الاشتراكية العالمية الثورة الشيوعية الماركسية العالمية حسب تصور لينين لها (بمدد من ماركس طبعا). هذه فعلا تعفنت شروطها، ولعل ذلك من مصلحة الاشتراكية ومن مصلحة البشرية عموما.

لكن، هذه فرصة للتفاكر العام حول سؤال: ماهي المقدمات الموضوعية لتحول اشتراكي عالمي (قد يوصف بثورة أيضا) وكيف نعرف مدى نضوجها؟ والأهم من ذلك السؤال هو: ما دورنا نحن في عملية “إنضاج” تلك المقدمات الموضوعية، وفي عملية “استعمالها” لإحقاق التحول الاشتراكي نفسه؟ سؤالان صعبان وضخمان بصراحة (أو بالنسبة لي على الأقل)، لكن يمكننا التفاكر حولهما.

قبل بضعة أيام قرأت مقالا صدر قبل أسبوع، في مجلة “بيزنس انسايدر” الالكترونية، وهو عبارة عن حوار تم مع الاقتصادي المعروف، الحائز على جائزة نوبل، والمستشار الاقتصادي السابق للرئيس الأمريكي كلينتون، وبروفيسور الاقتصاد في جامعة كولومبيا، ونائب الرئيس السابق والاقتصادي الأول للبنك الدولي، وأحد أعلام النيولبرالية سابقا، جوزيف ستيقليتز. في ذلك الحوار كرر ستيقليتز ما صار يقوله في السنوات الأخيرة بنبرة واحدة، وهو أن الوفاق حول النيولبرالية وجدواها قد مات، وأن النيولبرالية – وهي نفسها رأسمالية اقتصاد السوق بنسختها ما بعد الكينزية – أثبتت أنها مليئة بالعيوب والتناقضات كما انها فشلت في تحقيق الرخاء الاقتصادي العالمي الذي زعمت قدرتها عليه وفق اقتصاد السوق العالمي. ستيقليتز أيضا قام مؤخرا بكتابة تصدير طبعة جديدة لكتاب كارل بولاني “التحول العظيم” وهو أحد أقوى الكتب في نقد فكرة اقتصاد السوق والتنبؤ بالكوارث التي يمكن أن يجلبها تطبيق تلك الفكرة. كارل بولاني كاتب اشتراكي معروف كتب كتابه هذا في 1944. يقول لنا ستيقليتز في تصديره للكتاب إن بولاني كان له بعد نظر كبير في كشفه للإشكال الجوهري في فكرة اقتصاد السوق وأي هيكل اقتصادي يمكن أن ينبني عليها، وأن قراءة كتاب بولاني هذا مهمة اليوم مثلما كانت بالأمس وأكثر. أكثر من ذلك قال ستيقليتز إن الدراسات الاقتصادية المحترمة وذات المصداقية اليوم لا تتساءل حول حقيقة فشل اقتصاد السوق عموما من نجاحه، بل تتحدث عن إلقاء الضوء على مناطق فشله وعن كيف يمكن علاجها.

أطروحة بولاني كبيرة ومتماسكة، تتلخص في أن اقتصاد السوق، كظاهرة جديدة في تاريخنا البشري، يقوم بتسليع الأرض والعمل والمال – أي جعلها سلع تباع وتُشتَرى في السوق مثل غيرها من السلع – بصورة تخالف المنطق الاقتصادي البديهي وتاريخ المجتمعات السابقة، وهو يفعل ذلك كيما يستطيع السيطرة على جميع المناشط الاقتصادية في المجتمع (لان أساس فلسفته أن الأسواق قادرة على تنظيم نفسها وتنظيم الاقتصاد الكلي بدون الحاجة لسلطة اجتماعية فوق السوق؛ ويسمى أحيانا “اقتصاد السوق الحر”). هذا الوضع الذي خلقه اقتصاد السوق له عواقب سلبية جدا على المجتمعات في المدى الطويل، وإحدى أكبر تلك العواقب جراء تسليع الأرض، أي الطبيعة. حين تصبح البيئة الطبيعية، والموارد الطبيعية، عبارة عن سلعة لا تعدو قيمتها الجوهرية قيمة السلع الأخرى المعروضة في السوق، صار ذلك الضوء الأخضر للممارسات البشرية الكثيرة التي أدت لتدهور البيئة الطبيعية، على شتى الأصعدة، لمصلحة ثقافة استهلاكية سعرانة عمّت معظم أرجاء الكوكب.

الآن انتبه المجتمع الدولي، وببينها الدول الرأسمالية الكبرى نفسها، لهذه الورطة التي تهدد مستقبل الحياة البشرية على كوكب الأرض، وهي ورطة دخلنا فيها عن طريق ممارسات بشرية بدأت من الثورة الصناعية واستمرت حتى اليوم، حيث أن ثقافة الاستهلاك استنزفت الموارد الطبيعية بصورة بالغة، والعملية الإنتاجية المستعرة قامت بتلويث الأجواء ومصادر الحياة المهمة للبشر والحيوانات، والعالم الآن متفق بصورة عامة على أن نمط الحياة والاستهلاك الذي روّج له اقتصاد السوق – بدون أن يذكروه بالاسم تحديدا – لم يعد ممكن الاستمرار، كما أنه غير قادر على تكرار نفسه في المناطق النامية حول العالم إذ ليست هناك موارد طبيعية تكفي لتكرار القصة هنالك. ظاهرة التغير المناخي والتدهور البيئي من أهم إشارات أن البشرية الآن تواجه خيار حياة أو موت، وأن المواصلة في الطريق الرأسمالي هو خيار الموت.

صحيح أن الرأسمالية نجحت سابقا في إطالة عمرها بحيل كثيرة، سنتناول بعضها بعد، لكن الصورة الكبيرة بقيت حيث إنها في جوهرها نظام غير قادر على الاستدامة لقرون مثلا. في اعتقادي أن ما بقي من عمر الرأسمالية اليوم يحدده مدى نضج البديل (أو البدائل) الذي سيقوم بإزاحتها إما مرة واحدة أو عبر خطوات (وكلا الاحتمالين ثورة). ما أعني بنضج البديل ليس فقط البديل الاقتصادي السياسي (وهو مهم جدا بالتأكيد، من حيث التنظير والتخطيط والاستعداد للتطبيق، وهو حاليا موجود بصورة وافية وقابلة للنمو باستمرار) إنما أعنى أيضا قدرة قوى التغيير وإرادة التغيير على الشروع في العمل ومواصلة المشوار حتى نهاياته، أي المزاوجة بين الفكر والعمل.

عموما أيضا لا أعتقد أن التحولات الكبيرة التي يمكن أن يشهدها عالمنا المعاصر في المستقبل القريب ستأتي من مراكز الرأسمال، من دول العالم الأول، ومن الجيد أن لا تأتي منها. أعتقد أن التحوّلات الكبيرة ستأتي من العالم الثالث، وينبغي لها أن تأتي من العالم الثالث، فذاك كفيل بإحداث الهزة المطلوبة التي تخلخل ثوابت النظام العالمي الحالي، المادية والمعنوية، وتسمح بإبدالها بثوابت أخرى أكثر شمولا وأكثر عدالة وأكثر استدامة. لكن حتى لو جاءت بدايات التحوّل من داخل العالم الأول، بواسطة المقاومين من داخل بطن المارد، فإنهم سيحتاجون لبناء جسور وتحالفات قوية جدا، وذات ندّية كاملة، مع شعوب العالم الثالث حتى ينجح ذلك التحوّل.

السؤال الثالث: الضمان الاجتماعي وتحسين أوضاع العمال والضرائب التي تؤخذ من الشركات وتنفق على المحتاجين في شكل خدمات، ألا يعتبر هذا تحسنا وتطورا يخفف غلواء الرأسمالية؟ 

الجواب: لعل السؤال الذي يجيب على هذا السؤال هو: هل يُعتَبَر كل ما تفعله الدول ذات النظم الرأسمالية عموما جزءً من الرأسمالية أيضا؟ هل إذا تبنّت دولة رأسمالية أي سياسة اقتصادية فيها عدالة أكبر، يمكن تلقائيا أن نقول إن تلك السياسة “رأسمالية” نسبة لنظام تلك الدولة؟ لتقريب ذلك السؤال يمكن أن نقول أيضا: إذا زعمت دولة ما أنها “دولة دينية”، فهل ذلك يعني أن كل قانون أو سياسة تصدرها وتعممها سلطات تلك الدولة هي بالضرورة إذن “قوانين وسياسات دينية”؟

الإجابة طبعا لا. الأنظمة الرأسمالية قامت بتنازلات كثيرة ضد مبادئها النظرية حتى تتمكن من إطالة عمرها؛ وهي فعلا قد نجحت في ذلك لدرجات كبيرة. لكن تلك التنازلات ليست “تخفيفا من غلواء الرأسمالية” بمعنى التنازل عن أساس عملية مراكمة الأرباح بتضخيم وتدوير فائض القيمة. بل بعملية ماكرة قام رأس المال بتوسيع موارد فائض القيمة لديه، من السوق العالمي، كيما يعطي العمال في البلدان المركزية (العالم الأول) مزيدا من الفوائد والمكاسب المادية، نسبيا، التي تجعلهم يتخدرون عن القيام بقلب الأوضاع بالثورة على البرجوازية الحاكمة هناك. هذا التحويل التكتيكي لعملية الاستغلال البشع للقوى العاملة – أي تحويل ذلك الاستغلال نحو عمّال العالم الثالث أكثر وتخفيف العبء عن فئات مختارة من عمّال العالم الأول – هو ما سماه كوامي نكروما، الرئيس الأول لغانا والمفكر الاشتراكي الافريقي، بالاستعمار الجديد (أو النيوكولونيالية)، وهو مرحلة لاحقة من الإمبريالية التي بدورها ليست سوى تعبير الرأسمال عن نفسه في ميدان سلطته العالمية.

لاستبيان هذا الأمر أكثر علينا النظر لعملية خلق فائض القيمة: مفهوم فائض القيمة مفهوم ماركسي، من أميز مساهمات ماركس في علم الاقتصاد لأن به أسّس لمنهجه الاشتراكي. يعني فائض القيمة أن الرأسمالي (البرجوازي) يعطي العامل المنتج أجره (قيمة عمل) ويحتفظ هو بفائض هذه القيمة – أي ما يزيد عن أجر العامل في سعر بيع السلعة التي أنتجها العامل – تحت مسمى الأرباح وبحجة ملكيته لوسائل الإنتاج التي يعمل بها العامل. هذا الفائض هو الذي به يراكم الرأسمالي ثروته الضخمة المتضخمة، في حين يبقي العامل تحت سطوته بحكم ملكيته – أي الرأسمالي – لوسائل الإنتاج التي لن يستطيع بدونها العامل فعل شيء، ولهذا فإن جوهر الاشتراكية هو تخليص وسائل الإنتاج من ملكية الرأسمالي، وجعلها ملكية جماعية.

لكن الكثير من الحركات الاشتراكية المعاصرة تعي صعوبة تحقيق جوهر الاشتراكية في هذه الظروف، لذلك نجدها تحاول أن تبقى مناضلة من أجل حيازة العمال على مزيد من النصيب في فائض القيمة، وذلك بزيادة الأجور وتأمينات الصحة والسكن والتقاعد، والمزيد من حقوق التنظيم والتمثيل في القرارات الإدارية، الخ، وقد حققت هذه الحركات بعض المكاسب المتفاوتة في بلدان العالم الأول، لكن عمّال العالم الثالث ما زالوا متأخرين كثيرا في هذا الاتجاه. لكن عموما يبقى الحل الاشتراكي النهائي المتفق عليه بين عموم المدارس والحركات الاشتراكية هو الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج.

فما نراه هنا إذن هو أن النظام الرأسمالي لا يستطيع أن يتنازل عن طبيعته الأساسية، وهي مراكمة الأرباح والتوسع في تحصيل فائض القيمة أينما وكيفما أمكن ذلك. والواقع أنه يزداد جشعا في تلك الطبيعة مع الزمن، وفقا للبراهين. لكن بإمكان النظام الرأسمالي أن يقوم بتنازلات تكتيكية عن بعض خيرات فائض القيمة، لبعض الوقت، عند بعض الجبهات، فيعطي بعض الجهات المستغلـَّة نصيبا زائدا عن المعتاد من الأرباح كيما يحوز على بعض رضاها أو على التقليل من تذمّرها؛ أو يمكن أن نقول على تدجينها. لكنه لا يتنازل عن طبيعته الأساسية فهو حينها لن يبقى نظاما رأسماليا، أي سيحرر شهادة وفاته بنفسه، وذلك ما لن يفعله. لذلك ليس من الحكمة أن نظن أن النظام الرأسمالي “خفف من غلواء الرأسمالية” في جوهرها حين منح عمّال العالم الأول المزيد من الامتيازات. واقع الأمر أن كل منافع الاقتصاد والتكنولوجيا الحديثة هي حق القوى العاملة المنتِجة والمواظِبة على استمرارية نمط الحياة الحديث هذا، أما البرجوازيون فلا حق مشروع لهم في التحكم بفائض القيمة وفي احتكار معظم الأرباح المتراكمة لأنفسهم.

لكن من سيقنع عمّال العالم الأول بذلك؟ أقول إن بعضهم مقتنعون أساسا، فزيادة استفادتهم من امتيازات الأرباح جعلتهم أيضا يزدادون وعيا بقدراتهم على إدارة عملية الإنتاج كلها بدون الحاجة لأرباب العمل البرجوازيين الذين يأخذون معظم الأرباح لجيوبهم الخاصة رغم أنهم لا يفعلون شيئا ذا قيمة حقيقية في دولاب الإنتاج. هؤلاء العمّال المستيقظين يرون ذلك، ويستطيعون الاستنتاج الحصيف من ذلك الواقع، كما ان عددا غير قليل منهم يحتكون بالأفكار الاشتراكية عن طريق النقابات بصورة تترك أثرها في تفكيرهم ورؤيتهم للأشياء، شاؤوا أم أبوا. أيضا فإن هنالك حركة متنامية ماضية في اتجاه بناء التعاونيات الإنتاجية (وغيرها)، في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات، حيث أن أعدادا من العمّال المنتجين وذوي المهارات العالية والتعليم غير القليل استطاعوا الوصول لخلاصة نظرية، ولتطبيقها، تقول بأنهم قادرون على بناء وإدارة أعمال إنتاجية مجزية لأنفسهم بأنفسهم، فهم العمال وهم أرباب العمل أيضا، وفق ندّية داخلهم وبدون “رئيس” بينهم. وبذلك فهؤلاء العمّال أصبحوا أوعى فعليا، أكثر من غيرهم، بأن إدارة العمّال لوسائل الإنتاج ولأنفسهم، إدارة ناجحة، ليست مجرد تنظير وأماني بل أمر واقع الآن ويمكن تحقيق المزيد والمزيد منه. الاقتصاد التعاوني له تجارب مجزية في هذا المجال.

لكن لعلنا يحق الآن أن نتساءل: وماذا نفعل الآن إذ من الصحيح أن عمال العالم الثالث يتعرضون لاستغلال أبشع من عموم عمّال العالم الأول، ولديهم وسائل وحقوق تنظيم أقل بكثير كما أن صراعاتهم الفردية من أجل البقاء لا تجعلهم يتململون كثيرا كي لا يخسروا إحدى سبل كسب العيش الشحيحة المتاحة لظروفهم (خصوصا وأنهم إذا اعترضوا كثيرا قد يكون مصيرهم مثل عاملي مناجم منطقة ماريكانا، في جنوب افريقيا، في سبتمبر 2012، الذين قامت قوات الدولة بقتلهم بالسلاح، في مجزرة لم تشهدها تلك البلاد منذ 1960 أيام الأبارتيد، جراء إضرابهم ومقاومتهم لظروف العمل والأجور الجائرة لدرجة تشبه الاستعباد)؟ أيضا ماذا نفعل والرأسمالية العالمية مستمرة في استعمال التكنولوجيا الحديثة والماكينات للاستعاضة عن القوى العاملة الماهرة والمنظمة، الأمر الذي يقلل من خطرها على رأس المال مع الزمن؟

أقول إني أرى أن كل هذه الأشياء لن تكون كافية لكي تحافظ الرأسمالية على بقائها يد الدهر، فكثير من التغيرات التي تظن الرأسمالية أنها لصالحها يتضح لاحقا أنها تتراكم وتتفاعل مع عوامل أخرى لتزيد من ورطة الرأسمالية العالمية. لكن هنالك خطر حقيقي فعلا، واحتمال وارد، وهو أن تختار الرأسمالية العالمية خيار الحماقة وإدخال العالم في أزمة عالمية ضخمة جدا (ربما حرب عالمية ثالثة أو كارثة بيئية حادة وواسعة، أو عودة للأنظمة الفاشية، أو خليط بين أولئك أو شيء من هذا القبيل) فقط لتستطيع استثمارها لتمديد بقائها في مقعد السلطة العالمية برغم كل الضحايا وكل الخسائر التي ستتكبدها البشرية والتي سيتكبدها رأس المال نفسه. ليست عندي شخصيا ضمانات ضد هذا السيناريو القاتم، لكنه عموما سيناريو لا يغيّر شيئا من قائمة المطلوب عمليا اليوم من القوى المناهضة للرأسمالية: المضي قدما في بناء الجسور التواصلية والتحالفات القوية، والمضي قدما في بناء وفاق حول رؤية لعالم جديد ما بعد الرأسمالية، والمضي قدما في خطوات تنظيمية حقيقية، ثم خطوات تغييرية/ثورية حقيقية متسقة داخليا مع نفسها ومع رؤاها.

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى