ثمار

إسقاطات أفقية

حاتم

(1)

عَلىْ المِنْفضةُ الزجاجية تَجْثُم ُ أعقاب السجائر الصغيرة المتساوية الأحجام؛ وكأنها رؤوس مقطوعة تتوسد مقبرة جماعية، أكوام مليمتريه من رماد هلامي أو بقع دماءٍ متخثرة ترقد على سطح  ذلك الصحن الزجاجي بعشوائية بائنة، وفيما يُشبه الحُلم أو الخاطِر الثلاثي الأبعاد، رأيتُ بين أصابعي احتمالات متآكلة ودخان ولفافات صغيرة من القلق تغزو القفص الصدري بمعدلات ثابتة أو قابلة للزيادة، حسب إيقاع الملل الذي يبدو على هيئة مكتب وجهاز كمبيوتر ونافذة تصطاد الريح ولا تسمحُ بالضوء.

منذ الصباح، كنتُ أجلس هنا، أعالجُ بعض الأشياء الروتينية وأبصقُ عليها بعضاً من رضاب مُحتقِن يملأ صدري، وتلك الأشياء التي يسميها الناس عادةَ ب(واجبات العمل)، الاسم الأكثر إثارة في كنيسة الأرباح اليومية. ولكنني وبكلِ ما أوتيتُ من حنكةٍ ناجزه تَعلمتُها في سبيل الخبز، سأبدو مثابراَ ولطيفاَ (كحمار وظيفي) حتى يدَّخرني (إله المُرتبات) لفصلٍ آخر من فصول سنتهِ المالية. ولذلك حينما نبهني زميلي في الطاولة المجاورة أغلقتُ أسئلتي بالصمت، أقصد جلستُ خلف مكتبي كرجلٍ مثالي ينتظرُ آخر الشهر متيمناً بأسطورة الصبر.

حينما أرى الظلَّ والأشياء والمُدراء والصيادين والمجرمين، ويحملني وجه الشبه بعيداَ، أضغط بأظافري على  شحمة أذني وأقول لنفسي : (( أنك تحلمُ أو تهزي أو….))

شَتَّان مابين الآدميين والكراسي، غريب! . الخيول الجامحة تنطلقُ براكبيها إلى هناك، حيث موارد النصر، حيث تشيرُ اللافتات العصرية، حيثُ قيامة الثروات واختراق العظم البشري والنفاذ إلى (مُخِه) المَدسُوس ! .

كما أن الكراسي صُنعت ليضعُ عليها السادة مؤخراتهم بهدوء، والموظفون أيضاً، ولكن بحساب فروق الشكل والهيئةِ والغرض.

وللناس أعصاب كهربائية، وعيون زجاجية ويرتدون أجساداً من الحطب والرماد، ويحملون قضباناً من الحديد يجلدون بها بعضهم بعضاَ في كل صباح.

الآدميون نسل الخشب، والأسمنت والبلاستيك المقوَّى والأسنان والمخالب والشوك والحجارة والمعادن التي صُنعت من فضلات الآلهة .

الآدميون سلعةٌ مبذولةٌ في أسواق الله.

الآدميون رشق الحظ العاثرِ يبتغي رطباً وزونيا.

الآدميون قصة الصيد المٌوفق، صيدُ الأرزاق والأرواح والآدميين الآخرين.

أمَّا الأشياء، فما بالك بالأصوات المَصْلوبةُ على أبواب الرجاء، والزفرة الحارقة، والنكَد المتوهج في الأبدان المكدودة، والسمع الذي لا يبصرُ سوى رنين الماس، وقطع الحلوى وأحواض السباحة، وقمصان النوم الحمراء وغرف البخور التي تُحلِّق وحركة الأرقام على مستطيل الرصيد الشخصي المغلق.  الأشياء هي رغبة الكائن، تلك المادة السرطانية الرشيقة، أوهي الكائن نفسه إذا ما نفذنا قليلاَ خلف ستار الروح الملُوَّن.

(2)

وفي عِصمة الانتظار، كُنَّا ننتفُ ريش الوقت ثم نبعثرهُ طعاماً للخيال، ونصنع عجينة الحظ من فتات الذكريات وقصص الأحياء الذين تسللَّوا عبر قناة الزمن إلى لحظتنا الراهنة، وأحياناً نرسمُ على  قهوة الظهيرة بعضاً من توسلاتنا الغبية أمام الظن الطيب، وفي الانتظار، تنمو على أطراف العقل طحالب قصيرة وكسولة فتستبيحُ الرياضيات بالخدر والتسليم.

قلتُ لنفسي: (( لأكونَنَّ الآن لا مبالياً، ولأدخلنَّ بجلدي إلى ساحة الرقص. سأغنى وأرقصُ بطريقتي التي تمنحني إياها تأويلاتي الصغيرة للإيقاع العام)).

وهناك، بَرقَتابتسامةٌ ماكرةٌ كادت أن تلفحني سخريتها الدنيئة، فأشحتُ بوجهي عنها كي لا تأخذني مبالاتي إلى الوراء. سأقول :((سجد الآخرون للريح، ورأينا الموج  كيف يقلبُ الزوارق الحزينة، وكيف يحرسُ بعضهم (طاقة) السماء بسياطٍ من لهبٍ حتى أنه وفي أحيانٍ كثيرة، يستأذنُ الضوء جلافتهم أو يتسللُ خفيةٌ عند الصباح ليقبِّل ثغر الوردة.))

يكون الانتظار تلك المراهنة الخاسرة على أحشاء الآدمي، كأن تترك قشة ً مبتلةً على سطح الموجة حتى تجف، أو أن يسألُ رجلٌ تائهٌ ناصية الشارع عن خط أوبَتِه. أحياناً يكون الانتظار ضرباً من ضروب البلاهة التي تكسو وجوهنا حين يفاجئنا الموقف بالعجز.

قلت لنفسي أيضاً: (( لا تتأخر، ثمة فضاءات أخرى، الدروب تلمع، الاحتمالات أوسع من مساحة التردد، العشب يكفي لرحلة بلا بداية، والسحب تمنحُ الفوضى وسامتها الحيوية، فقط أرحل من هنا، فالقرار لك وحدك يا عاشق المسافة، الضوء أخضر، والخطى النشيطة بوصلة الروح، و”مُقشَاشَة” القلق، هيَّا، أذهب ولا تنتظر شيئاً))

(3)

حتى في أكثر اللحظات صمتاً، وأوضح الساعات سكوناً، لننتبه قليلاً، فثمة اهتزاز. لا شيء يبقى على حاله، للعالم صيرورته الأبدية، ما علينا سوى الإنصات الفَرِحْ لتلك التشقُقات الصغيرة التي وإن لم نكن نراها إلاَّ أن أرواحنا تسمعها بوضوح، فأذهب إلى هناك لترى. في شغب التفاصيل (ما حولنا)، في طنينها المزعج رائحة الهزيمة لكل ذي قلبٍ ضعيف. وأنت غير جديرٌ بالبقاء يا مَن تمنحُ أذنيك للضجيج ووصايا العرافات. ويقولون : كان فيما مضى شجرة ٌ، شجرةٌ يلتفُ ظلها على أطرافها كما الأساور على إصبع الأميرة، وفي ذات صباح، استيقظت على حلمٍ مزعج، وسكبت ما شاءت من الدمع والحزن والأسى. فأخبرتها العرافة بأن ذلك فألٌ سيئٌ، وربما يتحقق، فلا تنامي حتى لا تفقدي الظل. ولم تزل على حالها تلك،  تزدرد الخوف والسهاد، حتى أقبل الشتاء، وتساقطت أوراقها على الأرض، وحينها قالت العرافة : (( ألم أقل لك لا تنامي، ها أنت الآن تفقدين الظل والأوراق)).

وقالت الشجرة الحزينة: (( أقسم بكل الأشياء المقدسة أنني لم أغمض جفني ولا ساعةٍ واحدة، فكيف تقولين ذلك؟ ))

هذه العرافة ليست سوى الظن السيئ الذي يتغذى على الجهل والانتظار، وما الشجرة إلّا ذلك الكائن الذي تاهت بصيرته ذات ليلٍة  مغبرةٍ مظلمةٍ، فجلس على ركبتيه يبكي وينتحبُ حتى مطلع الصباح، وكان من الأجدى أن يفاوض ساعته الراهنة مستعيناً بالحيلة والصبر والخيال.

(4)

وبينما كنتُ أتبول على المرحاض الرخامي الأبيض الناصع، سألت نفسي، كيف نُفلتُ من قبضة الموت؟، كانت الظهيرة تشتعل في الخارج، والعمال ببدلاتهم الزرقاء المتسخة، والموظفون الأنيقون، وصوت المُولد الكهربائي المُزعج يبددُ هدوء المكان. نظرتُ إلي حوض الغسيل فلم أعثر على صابونه الديتول، فقد تبينَ لنا منذ أيام، أن قطعتي صابون في الشهر الواحد لأجل أيادي صحيَّة ستؤدي إلى إفقار خزينة الشركة. أغلقتُ سوسته البنطلون على قضيبي ثم قلت بصوتٍ مغتاظ: (( كَ … أم المُدير))، ثم خرجت من الحمام.

عاد السؤال من جديد كطفلٍ عنيد يطلُ برأسه من خلف الباب الموارب، وفجأة رأيتُ أمامي الصور التالية:

1-   سماءً رمادية صافية بحجم قبعة لا نهائية تحكم قبضتها على الأرض.

2-   فأراً صغير يتجول بين الأقواس التي تصنعها جولات محشوة بالتمر تكدست في مخزن رطب مظلم، وربما تراءت بشكلٍ باهت قطة تتقافز هنا وهناك.

وفكرت كالآتي :

في كل مكان على هذه الأرض توجد عائلات النمل، حتى أنها أصبحت إحدى البديهيات المركزية في هذا العالم، وتقتسم ُ هذه الكائنات الصغيرة مع سكان الأرض الآخرين نصيبها من مسكنٍ ومأكلٍ ومشرب وما إلى ذلك من أشياء. فكيف تسنى لها ذلك، وهي بلا عضلات وبلا  أسلحة؟! . ثم وضعت في مخيلتي تصوراً تقريبياً مستعيناً بما أتذكره من علم الأحياء، كيف تجمع غذائها، كيف تشعر في المساء، وكيف تواصل  عيشها وبقاءها لليوم التالي؟ . ثمّ فاجأتني الصدمة!

حدث ذلك، وأنا أتذكر أثناء طفولتي كيف كنت أعبث مع النمل، فأترقب خروجه من (أحجاره) وأعترض طريقه بالأحذية أو الحجارة الصغيرة، فماذا كان يفعل هذا الكائن العجيب؟ . صدمني ما تذكرته، أدهشني ذلك المشهد الصغير الذي استدعيته من ذاكرة طفولتي الشقية. كم أنت عنيدٌ ومثابر أيها النمل !، هل تتخيلون أنه لم يكن يأبه بتحرشاتي الشريرة تلك، وبكل سهولة، كان ينحني ليعبر من تحت مستغلاً علم المساحات والحجوم الهندسية، أو حتى يبطئُ من سرعته أو يزيدها وكأنه مايسترو  خبير يوزع لحناً موسيقياً.  في كل الأحوال لم يكن ينتظر، كان يمشي ويمشي ويمشي في جميع الاتجاهات، ويحكمه قانون وحيد في كل الأحوال، سواءَ في  حالة الأمن أو الخطر: الحركة .

في النمل شهوة الهنااااااااااااااااااااااااك.

في النمل، يوجدُ الموت حيثُ السكون.

في النمل تأجيل الراحة

في النملُ استفزاز العضلات وحد السكين .

……………………………………….

……………………………………….

وهكذا يمارسُ النمل خلوده اليومي بهدوءٍ و”شفتنة”.

(5)

العاطفةُ قبطانٌ ماهر لا يتنازل عن سلطته بسهولة، وقد أدركتُ ذلك في سنن الحزن والفرح الآدمية، ما أن تتحرش بنا سحابة، حتى يتغيرُ وجه الكائنُ سريعاً وتنفلت أعصابهُ وكأنه تعرَّضَ لمادة كيميائيةٍ نشطة، ويصبحُ كفتيات المُدن البائسات اللائي يُنفقن بشرتهنَّ السوداء الجميلة سعياً خلف عريسٍ زنجي الهيئة عربي الخيالْ.

في الحزنِ تتساقطُ فرضيات العقل التي قمنا بتربيتها سنواتٍ وسنوات، واحدةَ تلو الأخرى، حتى أننا نرى غبارها الرمادي يغلفُ في القفص الصدري كدخان التبغ. وفي الحُزن تتآكلُ الحكمةُ من أطرافها حتى لا تغدو سوى إيماءات كسيحة مثيرة للشفقة، ويظلُ الحال على حالته حتى يحملُ المطر في عودته وعداً جديداً، فيهرعُ الكائنُ لارتداء ابتسامته السافرة ويظلُ يركض هنا وهناك كجروٍ صغير، وبتلك الرشاقة المنفلتة يمتلئُ الحيزُ الشخصي بالكفاية. ويغدو كبالون أزرق لا يأبه بغدر الدبوس، في هذه السكرة المفرطة، تجدُ الرغبات والأمنيات الجديدة مناخاً مواتياً للنمو والانفلات من تربة اللاوعي. وهكذا تبدأ المِحَنْ.

هي إذن دورة الكائنُ اليومي في ارتقائها وهبوطها الاضطراري، مغسولة بالضوء، ومستلقية على ظهرها في طاولة التشريح…

كيف نمارسُ الحزن ومتى؟

كيف نمارس الفرح ومتى؟

سأل حكيم المدينة يوماَ، ما الفرق بين الجنون والإبداع؟

وظل السؤال معلقاً على ألواح الدهشة حتى أتى ذات مرةٍ وقال : (( الجنون استغناء نبيل عن الإطراء والغرض، إذا نظرنا،  فهو ظاهرة مستقلة بذاتها وأحكامها ورؤيتها للعالم والأشياء، في روح الجنون شيء من (الاستقلالية النزيهة). أما الإبداع، فليس سوى ممارسة سياسية بامتياز، تستهدفُ إعادة إنتاج الحشد على المدى البعيد)) .

بما أننا نحزنُ و نفرح، فإننا نمارس بعض الجنون،  إذن ليس للإبداع صلة بالعاطفة، وهكذا توصلَ الحكيمٌ إلى الآتي : الإبداع خيانة للذات، الجنون فرصة كبيرة للتعرف على الذات.

على هامش مسودة الحكيم، وردت عبارة نيكوس كازانتزاكيس: (( أنا لا أخاف من شيء، ولا أطمعُ في شيء، أنا حر)).

العاطفةُ خزانُ الحكايات التي تنسجُ رواية الوجود، وسيرة الطفلُ منذ شهقته الأولى حتى قُبلة الرصاص.  كانت أصابع الآدميين تكتبُ قصتها على جدران القلب بقطعة فحمٍ صغيرة، حتى أتى الشعراء والفلاسفة، أولئك الغرباء من فرط إيمانهم بالخيال، أتوا وأعادوا كتابة العالم من جديد، متوسلين بالقطع والوصل والاستباق وتدوير زوايا النظر، معلنين بذلك ميلاد (الرواية)، كإجراء جمالي اقتضته صيرورة النشاز. إذن، هنيئاً للآدميين بالعاطفة، وطوبى للروائيين والشعراء الذين بدلوا تبديلا.

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى